}

رصيف فوق المسرح: في رحيل حكيم مرزوقي

فارس الذهبي 23 فبراير 2024
هنا/الآن رصيف فوق المسرح: في رحيل حكيم مرزوقي
استقبلت مدينة دمشق حكيم مرزوقي كواحد من أبنائها
في حركة مباغتة وغياب مبكر غادر الحركة الثقافية والمسرحية، الكاتب والمخرج المسرحي حكيم مرزوقي، الذي لم يغادر دمشق إلا حينما غادرها السوريون، مِثْلهُ كمثلِهم... وُلدَ "عبد الحكيم المرزوقي"، أو كما يعرفه الشارع المسرحي كـ حكيم مرزوقي، في تونس في 1966، ولكنه عاش سنوات نضجه المعرفي والمسرحي في سورية إذ قدم إليها في دراسة تبادل طلابي جامعية، في بدايات الثمانينيات، وكأنه "وقع في الفخ" على حد قوله، فكان أن استهوته الحياة الطرية والجمال السريع اللامبالي في سورية، فقرر أن يقضي أكثر عمره في مدينة استقبلته كواحد من أبنائها، وفرض نفسه عليها كواحد من ظرفائها، ليس لأحد منا أن يعرف إن كان مرزوقي قد تكاسل عن العودة إلى تونس، أم أنه كان يسوق الصورة الشعرية التي طالما رددها على مسامعنا في وقوعه في كمين الجمال والحب، فقد كان حمّالًا لأوجه الحقيقة، لا أحد يعلم ما يخفيه، وليس لأي من رفاق دربه المسرحي الطويل أن يصرح بحقائق جازمة عن أفكاره أو سيرته الخاصة، لأنه ببساطة كان ممتدًا كحكاية مفتوحة بلغات متعددة أمامنا، ومقوقعًا مثل عصفور خائف من شيء لا يراه سواه.
كانت حياته مستلقية أمام الجميع كنشرة اجتماعية أو كمسرح شارع يؤدى على الرصيف، أشعاره وشجاراته وغرامياته وزيجاته ومسرحه ومقالاته، آراؤه الفرانكوفونية، عشقه للتراث العربي، خلطة عجائبية بين الشرق والغرب، بين المسرح والشعر، بين الحقيقة والوهم، بين الصدق واللعب. لم نكن نميز إن كان يؤدي دور العاشق أو أنه كان عاشقًا بالفعل، أو إن كان منشغلًا بكتابة نص جديد أم مخربشًا على الورق، لكن من دون شك كان الرجل فنانًا مختلفًا وصوتًا عاشقًا للمسرح.
في بدايات التسعينيات تأسست "فرقة الرصيف" اتكاءً على نص أنتجه المرزوقي في فترة سابقة في غرفته المستأجرة في حي العقيبة خلف مقبرة الدحداح، هناك عكف على إنجاز نص مسرحيته "عيشة" التي أدتها بنجاح باهر الممثلة الراحلة رائفة الرز، وأخرجتها المخرجة المسرحية رولا الفتال. نالت المسرحية حظوة كبيرة لدى الجمهور السوري، ولاقت نجاحًا منقطع النظير أدى إلى استقبالها في عدد كبير من مهرجانات المسرح العربي والعالمي، وحصولها على عدة جوائز في فترة كان المسرح السوري غارقًا في التزامه وقدسية قضاياه، فكان أن أنزله حكيم مرزوقي القادم من "خارجه" من فكرة المعبد إلى عتبة الرصيف، ولعل هذا المنجز كان من أهم ما حققه المرزوقي، بعد عقود من المسرح الجاد والملتزم ودوران المسرح القومي في سورية حول نفسه بحثًا عن الجمهور الذي انجرف مع تيارات التلفزيون الأشد إمتاعًا، بدأت ملامح جديدة بالتشكل حينها، فرقة صغيرة خاصة لا تنتمي إلى شعارات المسرح المكرس في تلك الفترة، تشتغل على نصوص من ممثل واحد، في عروض أشبه بمختبرات المسرح التجريبي، وبإخراج نسائي ذي لمسة خاصة ومتميزة في عالم يحكمه الرجال آنئذ، ولعل رولا الفتال كانت هي أول مخرجة مسرحية في سورية، شكلت فرقة الرصيف جدلًا مختلفًا في تلكم الأيام، وهذا بالضبط ما اشتغل عليه المرزوقي بشراكة رولا الفتال وسامر المصري، حيث لم يكن جزءًا اعتباطيًا اختيارهم لإسم الفرقة "مسرح الرصيف" التي فتحت أبوابها لعدد من الفنانين السوريين الذين أضحوا نجومًا في التلفزيون والسينما فيما بعد، مثل سامر المصري وأندريه سكاف ورائفة الرز وأمانة والي ومها الصالح وثراء دبسي ونوار بلبل ورامز الأسود. فكانت "فرقة الرصيف" تحمل في غرابة تكوينها لوثةً من الجنون، بدءًا من الاسم، مرورًا بمؤسسيها، وصولًا إلى مضمون ما كانوا يقدمون.



كانت فكرة استعادة المسرح نحو الجمهور، بعيدًا عن الأفكار الكبرى واللغة المنمقة، والارتباط بحكايا الناس وهمومها، هو العامل الأساس الذي أطلق جماهيرية "فرقة الرصيف"، وأدى إلى نشوء حركة مسرحية خرجت منها سرعان ما توالدت في أشكال متعددة ومختلفة مُنتجة أساليب كتابة مسرحية وإخراجية مختلفة ارتبطت بالتغييرات الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية، حيث فرض نجاح التلفزيون على صناع المسرح التخلي قليلًا عن فكرة وضع الزهور على خشبة المسرح وكأنه معبد، أو وضع الأفكار في أفواه الممثلين وكأنهم قديسون.
اعتمد النص المرزوقي، إن صَحَ التعبير، مَركَسة الأفكار وتبسيطها، من دون ابتذال الفكرة ذاتها أو التنازل عن جوهر المسرح الأساسي وهو قضية الإنسان أولًا وأخيرًا، الإنسان بصفته حمّالًا للحكايا وحجر ارتكاز للمجتمع في حركة معاكسة للسائد الذي كان يروّج للمجتمع بصفته حراكًا جماعيًا، محملًا بالعقائد والقضايا والشعارات والأفكار، من أجل ذلك اعتمد المرزوقي على النص العامي القريب من الجمهور، الذي يقدمه ممثل واحد في إنتصار كبير لمنهج المونودراما في سورية، وأوغل في استخدام اللهجات المحكية والأمثال العامية والتفاصيل الإجتماعية والنكات الحادة التي كانت مستخدمة في الشارع ولا تزال، وربط كل ذلك بالمأساة الفردية للإنسان العادي، المهمش والمعزول، بينما اعتمدت رولا الفتال على الإخراج الممنهج البسيط مستندة إلى لعبة الأكسسوارات والأدوات، باستخدام أكاديمي حاد وجريء في تفعيل فكرة الغرض متعدد الاستخدامات، خفيف الحركة، سريع التحول، في مواجهة انعدام الدعم الانتاجي أو ندرته، فكانت مسرحية "عيشة" مثل أغنية تتنقل بين مسارح دمشق ومن ثم في بقية المحافظات، ولاحقًا في بقية الدول العربية. بعدها أطلق مرزوقي تعاونه الثاني مع الفتال في رائعتهما "اسماعيل هاملت" التي قدمها في غير ذات مرة، بشراكة ناجحة مع نوار بلبل ومع سامر المصري. وأدى النجاح الكبير لمسرحية "اسماعيل هاملت" إلى عدد من الجوائز في مهرجانات المونودراما الدولية منها جائزة أفضل عرض مونودراما في مهرجان قرطاج. حيث ترجم العرض إلى اللغة الفرنسية وطبع لاحقًا، دون أن يطبع في سورية إلا في فترة لاحقة وبمبادرة تجميعية من أنطولوجيا المسرح السوري في مائة عام التي نَشَرَتها أمانة دمشق عاصمة للثقافة العربية بالتعاون مع دار ممدوح عدوان وكنت أحد أعضاء لجنة الاختيار فيها. ليتم تعميد النص كواحد من العلامات البارزة في المسرح السوري خلال القرن المنصرم إلى جوار مائة كاتب مسرحي شكلوا خلاصة النص المسرحي السوري خلال تلك الفترة.
كل تلك العوامل خلقت ارتباطًا قويًا بين الخشبة والصالة، بين الناس ومسرحيات "فرقة الرصيف"، التي وبكل تأكيد كانت انعطافة حادة في تاريخ المسرح السوري لجهة المزج بين الشكل والمضمون، وإعادة التقارب مع الجمهور غير الوفي للمسرح القومي.
فيما بعد تتالت مسرحيات "فرقة الرصيف"، من "ذاكرة الرماد" إلى "لعي" و"قلوب" و"بساط أحمدي" و"حلم ليلة عيد"، وكانت جميعها من تأليف حكيم مرزوقي، بعد ابتعاد رولا فتال عن الفرقة واتخاذها خطًا خاصًا مختلفًا تبلور في عروضها في جمهورية مصر العربية.

في بدايات التسعينيات تأسست "فرقة الرصيف" المسرحية اتكاءً على نص أنتجه المرزوقي

اعتمد حكيم مرزوقي في مشوار حياته خطًا ثابتًا لم يحد عنه أبدًا، باعتماده فكرة السخرية من العيش، وبأن الحياة لعبة كبيرة، اعتاد على بدء اللعبة دومًا إنطلاقًا من القاع والتعرف على المدن من خلال مقاهيها وشوارعها وحاناتها، ومخالطة المثقفين والصحافيين والفنانين عبر متابعة الهامش بعيدًا عن المتن، والغوص العميق في تفاصيل المدن وحكايا المتعبين والفقراء، هكذا فعل في تونس وبغداد التي عاش فيها ردحًا من الزمن قبل قدومه إلى دمشق والبقاء فيها منذ الثمانينيات حتى نهايات 2012، حينما غادرها مع من غادر "وحيدًا في رحلة لجوء غير طوعي إلى بلده تونس"، على حد تعبير صديقه الشاعر لقمان ديركي، وهناك أصابه جزء غير يسير من حالة العقم المسرحي وكأنها باتت حالة احتجاج صامت على مغادرة البلاد التي قرر بوعيه أن ينتمي إليها، حيث لم يسجل نشاط المرزوقي في بلاد المسرح العربي النشط تونس، إنتاج أية مسرحية هناك، على عكس نشاطه المسرحي المكثف في سورية.
بل بدأ رحلة الكتابة في الصحافة العربية التي أنجز فيها مقالات أشبه بقصائد حنين إلى عالم كان شاهدًا على انهياره.
كتب المرزوقي أيضًا النص التلفزيوني وظهرت سيناريوهاته القصيرة في عدد من المسلسلات السورية، وأنجز كتابين في الشعر أشهرهما "الجار الثامن" الذي وضعه كأحد شعراء جيل قصيدة النثر المعاصرة في سورية لكن إرثه المسرحي يبقى هو الأمضى.
مع رحيل حكيم مرزوقي، تطوى صفحة مبكرة وأساسية من المسرح المعاصر في سورية، كان بكل تأكيد أحد أعمدتها المعاصرة وأحد مجددي التأسيس فيها، وكلي يقين بأن دمشق فقدت أحد ظرفائها، ورواة سير من عاشوا فيها، تلك العين الثاقبة والذكية المخفية خلف نظارات مقعرة، رحل حكيم بضحكته المجلجلة في أزقة دمشق، ودمعة حزنه التي لن يعلم سواه سببها، تلك كانت إزدواجية حكيم مرزوقي. وتلك كانت رحلة حياته السريعة الحافلة بالأحداث...
وداعًا حكيم، يا من رفعت الرصيف من الشارع ووضعته فوق خشبة المسرح، لن تنساك خشبات مسارح سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.