}

فيروز وعاصي: حينما لا يستطيع الصائغ صناعة الجوهرة مرتين

فارس الذهبي 5 يونيو 2023
موسيقى فيروز وعاصي: حينما لا يستطيع الصائغ صناعة الجوهرة مرتين
فيروز وعاصي وجوني ستارك في مطار أورلي (19/5/1975/Getty)

لم تكن علاقة فيروز وعاصي الرحباني مستقرة كما يتخيلها كثير من عشاق هذا الثنائي العظيم، بل كانت مشوبة بكثير من الصعود والنزول والصراعات الداخلية، الغيرة، التنافسية، إثبات الذات، فكلاهما كانا منتصرين لموهبتهما بشكل لا يقبل المساومة. ويبدو أن خلافاتهما المتكررة، والمتواترة، تلك التي لا بد أن تنجم بعد هذا الكم الهائل من النجاح والعمل والسفر وغزارة الإنتاج، يبدو بأن تلك الخلافات تسربت إلى الأوساط المحيطة، ومن تلك الدوائر إلى العامة، ومن ثم إلى الجمهور، حيث بدأت الإشاعات تنتقل عن طلاقهما، أو خلافهما، وحتى إشاعات عن التعنيف النفسي، أو الضغوط التي كان يمارسها عاصي على الفرقة، ومنها السيدة فيروز، حيث انتشرت في السبعينيات إشاعة عن دخول فيروز مشفى الأمراض العصبية بعد نبأ عن (خسارة عاصي الرحباني مبلغ مليوني ليرة في لعب القمار).
هكذا كان نص الإشاعة التي هزت الأوساط الفنية في لبنان وسورية، مما اضطر عاصي وفيروز إلى الخروج في لقاء تلفزيوني لتوضيح الأمر ونفيه. في ذلك اللقاء، كان عاصي مسترخيًا منسجمًا مع المكان كعادته، بينما بدت فيروز منزعجة وقلقة شيئًا ما، وكأنها غير مرتاحة لكل ما يجري.
كانت عبقرية عاصي الرحباني وأخباره تنتشر من دون أن تنفك تذهل القاعدة الجماهيرية العريضة لمحبي هذا النوع الفني الأصيل الذي تفتقت عنه قريحة الفريق الرحباني بقيادة المايسترو عاصي.
ويجمع أغلب من مرّ في هذا الفريق الكبير على صرامة وانضباط عاصي الرحباني في التمارين والتدريبات الكثيفة والمتكررة التي كان يقودها بنفسه برفقة شريكه، شقيقه، منصور الرحباني، بحيث لم يحدد حتى اليوم ذلك الخيط الرفيع بين إبداع عاصي وإبداع منصور، ليبقى هذا الموضوع حبيس الثلاثي، برفقة فيروز، التي تملك وحدها اليوم هذا السر.
لكن، وبموجب اللقاءات، وتحليل الحوارات والمذكرات، تثبت الروايات انكباب عاصي على تأليف المسرحيات وكتابة الأشعار والتلحين وتوزيع الموسيقى، وحتى قيادة الأوركسترا على الخشبة والبروفات. في الفيديوهات المنتشرة في الفضاء المشترك العام، يظهر عاصي كدكتاتور فني لا يقبل الخطأ أبدًا، صارم، مندفع، فخور حتى الثمالة بإبداعه. وعليه، فهو كان مدركًا بشكل لا لبس فيه لما بين يديه، ولربما كان الآخرون من فرقته يدركون تلك العبقرية القيادية التي استطاعت خلق المسرح الغنائي العربي، كما لم يحدث من قبل، في ذلك الزمن لا تبدو عملية الخلق الفني، من تأليف وتلحين وتوزيع وتدريب، سهلة كما تصنف هذه الأيام بوجود فريق إنتاجي كبير يساعد المخرج، أو المنتج، بينما كان عاصي ومنصور يديران فريقًا هائلًا من العازفين والمطربين والجوقة والراقصين، إلى جانب الإشراف الفني على التسجيل والتقنيات والإخراج بكل تفاصيله المملة والدقيقة، كما كان عليهما اتخاذ القرارات الاستراتيجية بخصوص التوجهات الفنية والتعاقدات والسياسات العامة للتعامل مع الواقع السياسي العربي الذي أراد التهام التجربة الرحبانية ودمجها في الأتون السياسي الأيديولوجي، ولكن حسم الأخوين رحباني كان واضحًا لجهة عدم السماح بتقديس الزعماء على الطريقة الشرقية، أو الغناء للقادة والسياسات، بل دعم تجارب الشعوب، والغناء لأمجاد الحضارات القديمة، من دون الوقوع في فخ السياسة المتبدلة.
كانت تلك المهام ببساطة هي من جعلت من عاصي الرحباني قاسيًا وقياديًا من الطراز الأول، يصرخ، يغضب، يكسر، يطرد، ويشتم. في عدد من الحالات تسرب كثير من التمرد على السياق المتدفق للرحابنة، فقد أعرب ملحم بركات في غير ذات مرة عن نجاته بنفسه، حينما ترك الفرقة الرحبانية قبل أن يبدأ بتأسيس منهجه الخاص. كذلك تحدث إيلي شويري في شهادة شخصية مع الإعلامي جوزيف عيساوي عن شتم عاصي الرحباني له بعد إنهائه وصلته الغنائية وعودته إلى الكواليس، حينما شتمه قائلًا: لا تصدق حالك يا...




لم تكن هذه الخصال تعكس سلبية في بنية شخصية عاصي الرحباني، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من نرجسية العباقرة، فالرجل كان يدرك حجم العمل والإبداع المناط به، بحيث كانت كل أغنية من ثلاث دقائق ينتجها الفريق، تعد تحفة فنية بحد ذاتها، فما بالكم إن علمنا أن عدد الأغاني التي لحنها عاصي تجاوز الخمسمئة أغنية، إلى جوار عشرات السكتشات، وعشرين مسرحية طويلة، وثلاثة أفلام غنائية أنجزها حتى وفاته سنة 1986. فالتقاليد الفنية في ذلك الزمان، وحتى اليوم، لم تكن موجودة في تلك البلاد، بحيث يعرف كل عضو في الفرقة أين يبدأ دوره وأين ينتهي، فإدارة هذا الكم من الجموع والفنانين يحتاج في حد ذاته إلى مهارة قيادية أساسية، كي لا تدب الفوضى في العمل الفني، أو في الفرقة نفسها. وكما كانت تدار الأمور في تلك الأيام أدار عاصي فرقته الذهبية بأسلوبه القيادي المتفرد الذي شمل على ما يبدو قرينته وشريكته وحبيبته فيروز.

بعد القطيعة مع عاصي، تعاونت فيروز مع فيلمون وهبي، زكي ناصيف، محمد محسن، وزياد الرحباني
(الصورة: من حفل في أبوظبي لموسيقى الجاز) (12/1/2004/ فرانس برس)


العلاقة مع فيروز كانت إشكالية، حيث تبدو التغيرات التي طرأت على فيروز واضحة منذ لحظة زواجها من الملحن الشاب، وحتى نجوميتها التي قاربت النجوم في الثمانينيات، بعد عدد هائل من الأعمال الفنية التي أعطتها شعبية غير مسبوقة لفنان لبناني، وصلت إلى درجة العبادة في سورية، حيث كانت لا تغيب عن أي دورة لمهرجان معرض دمشق الدولي. تلك الشعبية الكبيرة جعلت فيروز الشابة تقف ندًا لأم كلثوم، لتكون الوجه الآخر لذلك الصوت الجبار، ولولا النجاح الهائل الناتج عن استحقاق فني وقناعة صادق عليها كبار الموسيقيين العرب، لما قبلت أم كلثوم وجود فيروز معها في كادر صورة واحدة كقطب آخر للغناء العربي.
بعد زواجها من عاصي، أنجبت فيروز سنة 1956 ابنها البكر زياد، وتوالت الولادات الأربعة لأطفالهما، ومع انهماكها الكبير بالغناء والتدريب الصعب والمختلف بين مختلف الأنواع الفنية والموسيقية، بدأت شخصية فيروز بالتغير والتبدل من مرحلة الطفلة، الشابة الخجولة المتدينة، أو الملتزمة، كما يعرفها الجميع، حتى أن بعضهم يصفها بالمحافظة، وغير المنسجمة. يقول منصور الرحباني في حوار مع مجلة الرعية اللبنانية بأن اللحن الرحباني والأداء الفيروزي أتى بجذره من التراتيل السريانية الكنسية، من دون أن ننسى أن الملحن محمد فليفل مُكتشف فيروز، درب الطفلة نهاد حداد على التجويد القرآني.
بدأت فيروز باكتشاف نجوميتها وجمالها، فأدركت عملية تجميل شهيرة لأنفها، يلومها الكثر من عشاقها عليها، وسط رفض قاطع من عاصي لإجرائها تلك العملية، فالفتاة الصغيرة العالقة في عباءة زوجها، أرادت أن تستشعر أنوثتها وجمالها، وأن تتعامل مع نجوميتها كأنثى، واسم منفصل غير ملحق باسم الأخوين الرحباني، ومع إصرار كبير وغير مسبوق من فيروز للقيام بتلك الخطوة، لتستمر رحلة نهوض فيروز المرأة الجبارة والأسطورة التي ستتمرد على "صانعها"، كما كان يردد عاصي في أغلب لقاءاته، بأنه هو من علمها ودربها وأهلها لتكون مطربة، رغم معارضة كُثر، ومنهم شقيقه منصور. بدأت رغم خجلها وخوفها المتكرر من مواجهة الجمهور في كل حفلة، بإدراك شخصيتها كما تحب هي، وليس كما صمم لها الآخرون شخصيتها، أحبت الغناء فقادها والدها إلى الإذاعة. محمد فليفل علمها المبادئ، حليم الرومي اختار لها اسم فيروز، وعاصي الرحباني اختار لها اللون والشكل والطبقة، الملبس والمظهر والشخصية. لكنها كإنسانة لم تكن سعيدة بكل هذا بقدر سعادتها بقراراتها الشخصية بعيدًا عن كم العباقرة الحقيقيين من حولها. ومثل البرعم اليانع الصغير الصاعد من قلب الصخرة في جبل صنين المكسو بالثلج، شقت فيروز تلك الصخرة بنعومة ولطافة وهدوء، لتنتج أرزة شامخة في عمق جبل لبنان.





تبدو قصة فيروز مع عاصي مشابهة لقصة بجالميون مع منحوتته المثالية التي تهجره في نهاية الأمر. مع فوارق منطقية مع قصة حب تجري في لبنان شرق المتوسط...
في عام 1980، أنتجت فيروز أول ألبوم لها من دون الأخوين رحباني "دهب أيلول"... واستمرت فيروز في التعاون مع ملحنين سوى عاصي، مثل فيلمون وهبي، زكي ناصيف، محمد محسن، وابنها زياد الرحباني، الذي ستثمر الشراكة معه أبدع الألحان التجديدية.
لكن عاصي الرحباني، الذي كان يعامل في لبنان في تلك الأيام معاملة الأساطير، موسيقار مبدع لا يشق له غبار، ذو نرجسية ونزعة فخر لا مثيل لها، لم يك ليترك فيروزه تهزمه من دون أن يذكرها بعنفوانه الفني.
حتى قرر عاصي الهروب إلى الأمام، تاركًا الماضي خلفه، مقتحمًا المستقبل كما عشق دائمًا، فعمد إلى اختيار إحدى مسرحياته ليقوم بإعادتها مجددًا من دون فيروز، واضعًا رونزا في لبنان، وعفاف راضي في مصر بدلًا من فيروز في المسرحية الناجحة "الشخص"، وأتبعها بالتعاون مع رونزا وملحم بركات وشقيقة رونزا المطربة الشابة فاديا طنب، ليكونوا أبطال مسرحيته الجديدة "المؤامرة مستمرة" (1981)، التي استوحى نصها من قصص جرت في الحرب الأهلية اللبنانية. أتبعها بمسرحية "الربيع السابع" (1982)، بالكادر نفسه الذي قدم فيه العروض في صالة السفراء، ومسرح جورج الخامس أدونيس في بيروت.
في مسرحية "المؤامرة مستمرة"، يظهر جليًا التبدل والتحول الكبير في المنهج الذي اعتمده الأخوان رحباني في المبنى والمعنى، في الأسلوب الموسيقي للمسرح الغنائي الذي أسساه طوال ثلاثين عامًا، في بنية النص التي لم تقم على قصة واحدة، أو حكاية بسيطة رعوية، مملوءة بالبراءة والتناقضات، في مسرح الرحابنة الذي سبق تجربته المستقلة، اعتمد الأخوان على عناصر ثابتة كرراها بنجاح في عدد كبير من النصوص المسرحية المتمكنة، الضيعة، البلدة، الملك، الوالي، الشخصية الضالة التي تدخل على هذا العالم السكوني وتبدأ بالعبث في بنيته الغرائبية لإنتاج واقع جديد، إضافة إلى الكم الكبير من الموسيقى الحالمة والشخصيات الرومانسية، تكررت هذه الثيمات بشدة في عدد من المسرحيات، من مثل "المحطة"، "هالة والملك"، "صح النوم"، "جسر القمر"، "جبال الصوان"، "بياع الخواتم"، "لولو"، "ميس الريم"، "الشخص"، وحتى "بترا"، كانت المعادلة ناجحة، تتمركز في منتصفها فيروز كعامود أساس، تبنى حوله القصة وتدور الأحداث... بينما في تجربة عاصي الرحباني ما بعد الفكاك عن فيروز، كان التجديد واضحًا وصريحًا، آلات موسيقية جديدة دخلت إلى التخت الرحباني، كلمات أشد معاصرة وجدلًا، مرتبطة بالواقع السياسي الاجتماعي.
من دون أن ننسى أن الانفصال عن فيروز جاء بعد فترة من اندلاع الحرب الأهلية واجتياح لبنان، وتغير المزاج العام في لبنان، ووضوح الإشكال الوجودي للكيان اللبناني، أرجح شخصيًا تأثر الأخوين رحباني، وخصوصًا عاصي، بالتجربة المسرحية التي أسسها ابنه زياد، الذي كان متألقًا في تلك الفترة مسرحيًا وفنيًا، عبر تواصل مختلف مع شرائح الجمهور الذي تبدلت ذائقته وأهدافه، وفقد ثقته بطيبة وبراءة العالم الرحباني الأساسي، فالنهايات السعيدة في المسرح الرحباني غدت ساذجة، والأشرار لا يتراجعون عن شرهم، ولم يعد "راجح" مثلًا هو أقسى ما يمكن أن تواجهه الضيعة، و"ريما" لم تعد قادرة على إيجاد الحلول عبر الحب وإطلاق المواويل... الأمور أصبحت أعقد، والحلول تبدو غائمة.
مسرحية زياد الابن "فيلم أميركي طويل" (1979) كانت نجاحًا باهرًا وصّف بدقة الإشكال الطائفي في لبنان، وأذن بنهاية غير سعيدة مطلقًا للتجربة الاجتماعية في البلاد.
الأزمة الاجتماعية الصارمة في "بالنسبة لبكرا شو؟" جذبت الأجيال الجديدة الراغبة في سماع موسيقى مختلفة، بأصوات شبابية، وآلات موسيقية متصلة بالغرب والموسيقى الرائجة.
كل هذه التأثيرات أدت إلى مراجعة كبيرة للمسرح الرحباني الذي لم يعد يلبي الرغبة الدفينة في التواصل المسرحي لدى الجمهور. بنية مسرحية " المؤامرة مستمرة" التي تتحدث في خمس قصص متصلة عن تجربة الحرب والفوضى، وضرورة عودة الدولة وبسط سيادتها... ضمن إطار واسع يشمل علاقة البلاد مع الخارج ودور الاستعمار ونظرية المؤامرة المنتشرة في بلادنا. بينما استندت مسرحية "الربيع السابع" التي دشنت في سنة 1982، لتتحدث عن السنة العجفاء السابعة التي مضت على انطلاق الحرب الأهلية الموجعة... فتتحدث عن المجتمع اللبناني المتمزق، حكايا الحرب والخوف، والقصف والتشرذم... كانت المسرحيتان معاكستين تمامًا للمنهج الرحباني التقليدي الذي أسس له منذ الخمسينيات وحتى مطلع الثمانينيات. وفيها شبه بسيط لأداء مسرح زياد الرحباني في بيروت.
كان انفصال فيروز وعاصي فنيًا أشد وطأة على الجمهور من قدسية الثنائي الفني الأهم في تاريخ الفن اللبناني المعاصر، ولكن تجربته لم تكتمل من دون فيروز حتى عاجلته المنية عام 1986، بينما استطاعت فيروز الاستمرار طويلًا بقوة دفع الرحباني الابن، وبقية الإبداع الموسيقي المختلف، والمتبدل الذي تلقته بعد تجربة عاصي. فمن قراءة بسيطة للمقدمات الموسيقية لمسرحيتيه الأخيرتين، وبالمقارنة مع المقدمات العظيمة لمسرحياته السابقة، تبدو المقدمتان الأخيرتان قصيرتين وبالحد الأدنى من الميلودي الذي سمعناه في مسرحيات مثل "جبال الصوان"، أو "المحطة"، أو "صح النوم". لا شك في أن المرض والتعب قد نال من عاصي، مضافًا إليه، دخول المسرح الغنائي في منطقة لا تشبه الذهنية الرحبانية التقليدية، فقد خرج الأخوان من منطقة الإبداع التي خلقاها، فاضمحلت الخيارات والموسيقى، وذبلت الأحلام مع الواقع الصعب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.