}

"أرض الغرب" لعبد الصمد المنتصر: تاريخ جديد للصحراء

أحمد محسن 11 يونيو 2023
فوتوغراف "أرض الغرب" لعبد الصمد المنتصر: تاريخ جديد للصحراء
(عبد الصمد المنتصر)

حسب التعريف الذي يقدّمه مركز "بِتونسالون للفنون والأبحاث" في باريس، فإن عبد الصمد المنتصر يتابع في "أرض الغرب" ما بدأه في عام 2015. سرعان ما سنكتشف أن ما بدأه يحدث منذ آلاف الأعوام. ما يفعله هذا الفنان المغربي هو أنّه يجعله مرئيًا. يذهب إلى الصحراء، ولا يستغرب أنّها لا تزال في مكانها. ينظر إليها وتنظر إليه. يبحث عن أشخاصها، ويعيدهم إلى الصورة، بعدما خرجوا منها إلى المدن، بعدما تشتتوا بين ذكرياتهم التي صارت أنقاضًا. يحاول إعادة أصواتهم أيضًا. بمتابعة أعماله السابقة، يبدو مهجوسًا بما يحدث هناك، أو بكلماتٍ أدق مهجوسًا بما لا يحدث، في جنوب الصحراء.
في "أرض الغرب" لا يعيش الناس في الصحراء، بل يعيشون بقربها. يجاورونها فيعرفونها وتنسحب عليهم وعليها شروط الجيرة وما ينتج عنها. نحن، إذًا، كما يقترح علينا عبد الصمد المنتصر، أمام سلسلة من العلاقات المنسية، أو التي لم تحظ بالاعتراف في الأساس. ولعل خديجة هي أكثر شخصياته قوة، بما في ذلك اللوحات والبصريات والأعمال السابقة. ذلك أنّها تملك صوتًا واضحًا، وتملك رأيًا لا تبدو مستعدة للمساومة عليه. الصراع الذي لم يتوقف منذ نصف قرن، كان صراعًا على سرديات أخرى. لم يكن صراعًا على الهواء، أو على الحنين. مع ذلك، فإن أعمال المنتصر قادرة على احتمال شحنات سياسية كبيرة. خديجة المتأرجحة بين التسليم والاعتراض، تستعيد حياتها في الصحراء التي تركتها قبل ما يقارب الخمسين عامًا، وتلفظها، كأنها عندما تنطق بها تعيدها إلى هناك، إلى منتصف السبعينيات. هذه الفترة وهذا العالم الذي شكّل ميدانًا أساسيًا لأعمال المنتصر، وكأنه لا ينوي التوقف عن مطاردته.




في "أرض الغرب" غير المرئية ـ وليس المهمشة إنما غير المرئية تحديدًا ـ دعوة واضحة لإعادة النظر في التاريخ من زاوية جغرافية. لطالما ارتبط الأمران في وعينا البشري، لكن فضّ الالتباس كان أسهل بكثير من الحقيقة... مجموعة من الخرائط والأحداث. أما القصص والهواء واليوميات، فإن الزمن يبتلعها، تصبح تاريخًا غير موجود، والدليل على اختفائه هو الجغرافيا. من هناك، في جنوب المغرب، حيث تنفلش الصحراء على مسافة واسعة، يبحث المنتصر في جغرافيا شفهية، تمشي بهدوء خلف تاريخ شفهي، بحيث يمكن تمييز الفرد من الجماعة، ويستحال تمييز الجماعة عن الصحراء. إنها أكثر من دعوة، بل تمرد معلن على التاريخ التقليدي، ومحاولة للخروج بمعرفة جديدة.
الصحراء نافذة كبيرة، والسؤال يبدأ بعدها. ما يفعله عبد الصمد المنتصر هو أنّه يفتح النافذة. يجعل مما هو مهمّش مساحةً حقيقية. الحقيقة لا تجعل منها أرضًا خصبة للسجال، فذلك يمكن أن يفعله الخيال أيضًا. ما يجعلها مهمة فعلًا هو أنّها في هذه الأعمال تصبح مقصودة ومستهدفة. تصبح إعلانًا مباشرًا عن وجودها. بكلماتٍ أخرى، تصير مرئية. ما نعرفه عن الصحراء هو أنّها ليست مدينة، وتاليًا ليست مركزًا للحياة، على الأقل في أيامنا. هذا ما نستشفه من الأصوات، ولا يمكننا فهمه مثلما يفهمه أصحابها. هذه المعرفة الضئيلة والمتكونة من آثار الخطاب المهيمن ورواسبه، تقود إلى مجموعة من التصورات، وهي تصورات غالبًا تستبعد قصص السكان وأحوالهم. بكلماتٍ أخرى، تفعل ما يفعله الاحتلال، أو ما يفعله الاستيطان، ولكن بطريقةٍ غير مباشرة. تجعلهم غير مرئيين. من هنا نستنتج أن الظلام المحيط باللوحات في طريقة عرضها مقصود. إنه ظلام السردية المهيمنة، بينما تحاول الصحراء التحدث، وتحاول الأشواك البزوغ واقتلاع عين العتمة.

(عبد الصمد المنتصر) 


هكذا يحيل العمل، الذي قد يبدو بسيطًا بالنسبة لكثيرين، إلى أسئلة عميقة. يذكّر بوجوب إعادة الاعتبار للنظر في أكثر من نسق عند البحث عن الاعتراف، بين أكثر من مكون، ومن ثم التعامل مع هذه الأنساق في سياقها الزمني المتلاحق. الصحراء تحدث منذ ألف عام، وأشخاصها يحدثون معها. حتى هجرتهم هي في النهاية فعلٌ في سياق. تحيل المساحات الواسعة المتروكة فريسة للبصر، إلى علاقة ذات الفرد مع نفسها، ثم إلى تمأسس علاقات الذوات بين بعضها بعضًا. فالناظر إلى الصحراء، في المحترف الباريسي، ليس كالقاطن تحت الشمس، وليس كالنبات الذي يبحث منذ نشأته عن إجابات ولا يجدها إلا في اليباس. في المحصلة، الاعتراف هو كل ما يطلبه العمل، وإن كان ممكنًا بعد ذلك، نتحدث عن أجوبة.




ويحيل هذا بشكلٍ أو بآخر إلى الاعتراف بمعناه الفلسفي، كمؤسسة فكرية متواصلة، تجمع في رحابها مجموعة كبيرة من العلاقات، بين مجموعة ذوات تندمج في مجتمعٍ هائل هو العالم.
في تعريفه عن أعماله، سنجد أنّ المنتصر يبحث عمّا هو خارج الخطاب الرسمي. والخطاب الذي يتحدث عنه، هو الخطاب كميدان واسع، بالمعنى الذي يتحدث عنه ميشال فوكو في "حفريات المعرفة" تمامًا: مجموعة الكلمات التي خرجت من مكانها، وصارت أصواتًا، أم أنّها بقيت جامدة لا تتحرك. الخطاب ليس الروايات والمؤلفات والأحاديث، بل قبل ذلك إنه التصورات، أو ما يصفه فوكو بالمادة الأولى، الركام المبعثر حول الخطاب، ما يشكّل أفقًا للعثور على ما يسبح حوله وفيه. لا يعني هذا أن الصحراء هي الركام، بل يعني أن الخطاب وركامه لا يعترفان بالصحراء، مع أنّها بسكانها وجيرانها جاهزة للاعتراف بهم. يعيدنا هذا إلى أنساق الاعتراف، في الأساس، التي تتمظهر في الأعمال الفردية، أو في الاعتراف المشترك مع الجماعة ومع الدولة.
ببطء شديد، تنمو النباتات غير مهتمة بالناظرين. مع ذلك، تتيح لنا الصورة العملاقة، التي تحظى بكمٍ وافرٍ من الأضواء، أن نعترف بوجود الحياة فيها. صرنا نعرف أن الأشواك موجودة، وأنها هادئة. تشتاق للخضرة، ومع ذلك تفتخر باليباس كجزءٍ من هويتها. وهذا ما ينسحب على المنتصر نفسه، الذي يقدّم عملًا من خارج السرديات المهيمنة، مفتخرًا بالجانب الصحراوي في هويته. في "الأماكن"، انصب تركيزه على الأشياء، التي تملك ماضيًا وقصصًا. الأشياء التي لا يهمّها الوقت، ولا تكترث كثيرًا لحلول المساء. لقد كان الاسم كافيًا للدلالة على العمل... "الأماكن". وما يعنيه ذلك من أفضلية للحيّز الجغرافي على كل شيء آخر في المعرض. لكن يحسب له أنه استطاع أن يمنح الأشخاص صوتًا مجاورًا لصوت الأشياء... "كنت أعتقد أننا نحن فقط موجودون في العالم". معنى هذا، أن العالم كان هنا فقط، وأنّه لا يوجد عالم خارج الصحراء. رغم أنّها شاسعة لا تكفي أهلها، ورغم أنّها كذلك لا ينتبه إليها الذين هم خارجها. بالطبع لا يمكننا موافقة عبد الصمد المنتصر على كل شيء، فالحياة أسرع من الضوء، ومن محاولات الصورة دائمًا. الصورة ترشف زمنًا واقفًا في مكانه، أو يتحرك في زمانه، لكنها ليست حاضرًا، ولا تملك مستقبلًا مشرقًا دائمًا. وهذا ليس قاسيًا على الصحراء، فالأخيرة لديها ما يكفي من القسوة. يكفيها أن ننظر إليها. يومًا ما ستنسحب الأشواك إلى الداخل، تقول النبتة الوديعة التي تهدد بالفناء. يومًا ما ستنام الصحراء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.