}

سمرقند في باريس: في الوظيفة الأنثروبولوجية للفنون

أحمد محسن 15 مايو 2023
تغطيات سمرقند في باريس: في الوظيفة الأنثروبولوجية للفنون
من معرض "على طرق سمرقند: عجائب الحرير والذهب"

لا ينظر الأشخاص إلى الأشياء بالطريقة ذاتها، لأنّهم يقفون على تاريخٍ مختلف، وبالتالي يشاهدون حاضرًا مختلفًا. غير أن معرض "على طرق سمرقند: عجائب الحرير والذهب"، الذي يقام في المعهد العربي في باريس، يقدّم فرصةً ثمينة للنظر إلى أكثر من ماضٍ، وحاضر واحد. فالأصول الثقافية لسكان سمرقند، التي تتلألأ أمام مرأى الناظرين، تنقسم بين ماضٍ بعيد تنتسب إليه أصول هذه الحضارة، وبين ماضٍ قريب كانت سمرقند الجغرافية فيه جزءًا من الاتحاد السوفياتي. أما الحاضر فهو الحاضر، ولا شيء غيره، يحمل سؤالًا كبيرًا: أين يذهب أصحاب هذه الأشياء، وكيف تبقى من بعدهم؟ وعلى أي حال، هذه إحدى وظائف الفنون على أنواعها، أي محاولة البقاء.
مما لا شك فيه أنّ أقسام المعرض، التي تقدّم 300 عمل متنوع، تبعث على شيء من الانبهار الذي يعرفه متلقي العمل الفني. لكن، يبقى تعريف الأصول الثقافية لشعبٍ ما، أو لسلسلةٍ من العلاقات، أمرًا ليس سهلًا. ما يقدّمه الفن هو العرض والأفكار والنوافذ المفتوحة. هكذا، سنجد في المعرض أشياء نتوقع مصادفتها، مثل المعاطف الأميرية المذهبة، والسجاد الذي نسمّيه في موروثنا العربي العادي بالعجمي، في مقابل مفاجآت مثل أحزمة الأحصنة وسروجها المزينة بالفيروز، أو الجواهر الدقيقة التي تشترك مع الأزياء البدوية في تشكيل حضارةٍ فريدة. سنجد أيضًا صراعًا هادئًا وطويلًا... على السرديات التاريخية.


وظيفة أنثروبولوجية للفنون



في الوعي العربي والإسلامي، عندما نقول سمرقند نعني شيئًا، وعندما نقول أوزبكستان فذلك غالبًا يحيلنا إلى شيء آخر. أهمية المعرض أنه يسمح بعملية تشذيب قصيرة لما يختلط في الذهن بين التصورات والحقيقة. بتتبع الأرشفة المنهجية، يمكن تبين ملامح ظهور هوية خاصة لشعب المنطقة، من دون القطيعة مع تراثها. كما في فلسطين، وكما في المكسيك، يفسّر التطريز والنسيج العلاقة بين السكان وبين الأرض على امتداد الزمن. ورغم أن النسيج في أساسه مسألة خارجية، مكشوفة وظاهرة، إلا أنه يقدّم فرصًا كبيرة لفهم العلاقات المعقدة، إن كان ذلك على مستوى الطبقات الاجتماعية، أم على مستوى العلاقة علاقة المجتمع بأسره مع الجماعات الأخرى التي يتشارك معها الحيّز الجغرافي والأصول الثقافية. والفكرة الأخيرة تظهر بوضوح من خلال التأثير المتبادل بين الأوزبكيين الذين أسسوا هويتهم المعاصرة خلال الفترة السوفياتية وبعدها، وبين عملاق الحضارة الفارسي. ما هو لافت أيضًا، وجود اللوحات الاستشراقية الأولى، التي كانت سمرقند تيمتها الأساسية. وهي لوحات ينسحب عليها ما ينسحب على الاستشراق عادةً (الاتقان/ الجمال/ الخيال التام المعزز بفانتازيا لا تملك مكانًا في الواقع).




تحت الأضواء المصوّبة نحوها بإتقان، تبدو السجادات ضعيفةً، ولكن عزيزة النفس. تحاول تجاهل الزمن والحفاظ على البريق. تشير المعلومات إلى أنّ غالبيتها تعود إلى القرن التاسع عشر. غالب الظن أنّ المتخصصين يستطيعون تحديد الفوارق البصرية بين الرموز المستخدمة وبين الشبه المورفولوجي الذي يجمعها بالسجاد الفارسي بشكلٍ عام. لكن ما يمكن افتراضه، من دون حسابات، هو أن هذا النمط من الفن يعد تمثيلًا ظاهرًا للعلاقة مع المحيط "العجمي"، كما هو دارج في الأدبيات العربية القديمة. وبشيء من المغامرة، يمكن الافتراض أيضًا أنّ النسّاجين كانوا يقصدون شيئًا ما بهذه السجادات، وأن توارثها يدل على وظيفتها الأنثروبولوجية، والمتمثلة بأهمية العائلة التي تمتد في الزمن. وإلى جانب العلاقة بين العائلة والزمن، لا بد من أنّ المواد التي استخدمت في هذه الصناعة مشبعة بالدلالات هي الأخرى، ولا سيما أنّها تأتي من الجبال، وغالبها تركماني الأصل.
بعد السجاد، هنالك الثياب. لم تكن تلك المذهبة منها شعبيةً بأي شكلٍ من الأشكال، بل كانت جزءًا أساسيًا من تاريخ البورجوازية. ولا يعني هذا بالضرورة أن الموجودات تمثّل فنّا بورجوازيًا، مع أنّ جزءًا يسيرًا منها هو عبارة عن مقتنيات بورجوازية (معاطف وفساتين وموجودات من البلاط) لا تفسّر حياة المجتمع، بل حياة الحاكم الباذخة تحديدًا، وتعود إلى حقبة موزاك خان بالتحديد، التي تمتد على ربع قرن، بين منتصف القرن التاسع عشر وآخره. وهذا ليس زمنًا بعيدًا، وتاليًا، يمكننا إضافة هذا العامل إلى مجموعة كبيرة من العوامل التي شكله مع بعضها البعض القلق الستاليني الرهيب من الفن والفنون. في موازاة ذلك، تشير المعروضات إلى أنّ التطريز المذهّب بلغ ذروته في عهد مظفر الدين. فقد كان هذا الأمير من رعاة محترف خاص لأهم وأبرز فناني التطريز الموهوبين في زمنه. وبينما كانت تنتقل الحرفة من الأب إلى الابن، سنلاحظ تفصيلًا أنثروبولوجيًا آخر، يتمثل بانحسار ظاهرة حجاب الرأس فقط بالسيدات المسنات. أما النقوش المستخدمة لتزيين العباءات، فهي من المؤشرات السياسية على الطبقة الاجتماعية وعلى العمر، وعلى الحيز الجغرافي التي تنتمي إليه. لكن بشكلٍ عام، المظاهر الطبيعية هي الطاغية، ولا سيما الأغصان والزهور. إلى الملبوسات، تحضر الأحصنة ومستلزماتها، كمكون أساسي من الهوية الأوزبكية القديمة، التي قامت على التجارة مع الجيران الآسيويين. وإذا كانت السروج مذهبة، ومرصعة بالأحجار الكريمة، فهذا يعني أنها كانت أميرية.
على عكس التطريز الفلسطيني، الذي كان عملًا نسويًا متقدمًا حجزت من خلاله المرأة الفلسطينية موقعًا أساسيًا في التاريخ، كان التطريز بالذهب في أوزبكستان حرفةً يتقنها الذكور. ويبدو أن البنية البطريركية للمجتمع الأوزبكي كانت بغاية الصلابة. فقد منعت النساء من لمس الذهب، ومن وضعه في صورةٍ مبالغ فيها، بل يجب أن يقتصر ذلك على الخيوط التي تطرز الرداء، وتخشى مغادرة القماش. إلا أن الخشية الأنثروبولوجية تبقى أقل حجمًا وتأثيرًا من القلق الأيديولوجي الكبير.


الحِمل الأيديولوجي الثقيل



في مقدمة كتاب "اختراع الشعب اليهودي"، يروي المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند قصتين. واحدة منهما لجدّه البولندي الشيوعي، الذي قبل أن يصبح مستوطنًا في فلسطين، عاش في أوزبكستان لفترةٍ من الزمن. وإن كان استيطان البولندي في فلسطين مسألة لم تعد تحتاج إلى شرحٍ كثير اليوم، أو أن يكون البولندي شيوعيًا مطلع القرن العشرين أمرًا يصعب تفسيره، لا يبدو انتقال الجد إلى أوزبكستان حدثًا متوقعًا، أو يمكن تصوره من ضمن السياقات التاريخية التقليدية. فالبولنديون عندما هاجروا، إما استوطنوا الأراضي المحتلة في فلسطين، أو هاجروا إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى كندا. وربما إلى أمكنة أخرى، لكن ليس إلى آسيا الوسطى. لسببٍ ما، سيبدو "اليهودي التائه" حول سمرقند، خلال الفترة الرهيبة من تاريخ القرن العشرين، أمرًا مثيرًا للدهشة. لكن عندما يكمل ساند قصته يتراجع الالتباس تدريجيًا. في الواقع، هرب "شلوك" البولندي (صار اسمه لاحقًا شاؤول بعد الاحتلال)، إلى الاتحاد السوفياتي عام 1939، أي بالتزامن مع بدء عمليات الإبادة النازية. ما يهمّنا، في هذه القصة، هو أن السوفيات، وبتوجيه من ستالين، أعادوا توزيع اليهود الهاربين من النازية في ذلك الوقت، إلى مدن وقرى آسيا الوسطى تحديدًا. من بين عدة عوامل لعبت دورًا في هذه العملية، كان إرسال اليهود إلى أوزبكستان جزءًا من التصور الستاليني عن أوزبكستان نفسها ـ كواحدة من الأراضي السوفياتية ـ أكثر من كونه تصورًا حول اليهود. المفارقة، وبمعزل عن الدعاية الغربية الفائضة في أحيانٍ كثيرة عن الحقيقة، أن التصور الستاليني للفنون كان مشابهًا لتصوره عن القوميات. لقد أراد بناءها على الطريقة السوفياتية أيضًا. فكما كانت القوميات بالنسبة له أمرًا يجب تذويبه وصهره، كان كل فن لا يعترف به النظام، بمثابة الفن البورجوازي، المعادي للدولة بطبيعة الحال. وما يعرضه المعرض صار فنًّا بفعل استخدام المواد، لكنه في زمانه كان أصلًا ثقافيًا ـ قوميًا، ما يبيّن وضوح الرؤية الستالينية عن العلاقة بين المسألتين، ويوضح بدرجةٍ أعلى قصور هذه الرؤية ليس على التحقيق بفعل الهزيمة، بل بسبب الواقعين الإثنولوجي والأنثروبولوجي.




وقد يرغب كثيرون بعد معاينة ملامح الهوية الأوزبكستانية المعاصرة "حول طرق سمرقند"، بالتركيز على الأبعاد الأيديولوجية، والتصويب على دورٍ سوفياتي في طمس ملامح هذه الهوية لفترةٍ من الزمن. لكن الإفراط في هذه الفكرة، على حساب جودة العمل الفني نفسه، قد ينطلي على قدرٍ غير هيّن من السذاجة، لا سيما أنّ التحولات الاقتصادية مسحت من الأصول ما لم تستطع أبطش الأيديولوجيات أن تطاوله. ذلك لا يلغي أن المعرض "الشرقي" يفتح المجال أمام هوامش وأسئلة فلسفية "غربية" في غاية الأهمية. ففيما تبنى ماركس وإنجلز التصور الهيغلي في انتماء الشعوب إلى مجموعتين من الدول، تاريخية وغير تاريخية، كان التطبيق الستاليني مختلفًا. وقد نجحت المجموعة الأولى بتشكيل دول مستقلة، أما المجموعة الثانية فلم تمتلك الديناميكية الكافية للقيام بالأمر نفسه. وفي السياق ذاته، كان إنجلز تحديدًا يعتقد أن الدول التي تملك طابعًا زراعيًا لن تتمكن من مجاراة التحديث، وتاليًا ستصير عرضةً إما للاختفاء (كما حدث في الحالة الأوزبكستانية)، وإما لأن تبتلعها "القوى الرجعية"، حسب التعبير الماركسي للكلمة.
بالمعنى الفني الصرف، تتدرج الأعمال بين البدائية وتصل إلى البنيوية، وأحيانًا إلى ما بعدها. وتمتاز بحد كبير من الثراء في الأدوات المستخدمة، من المنسوجات على أنواعها كالسجاد والعباءات، مرورًا بالنقوش والمقتنيات الأميرية البورجوازية، وصولًا إلى أعمال فناني الطليعة الروسية في العالم. مع ذلك، فأهمية المعرض وقيمته الجمالية، لا تلغي ضرورة الإشارة إلى مسألتين أساسيتين: الأولى، هي وجود نزعة غربية للتنقيب عن الفن في آسيا الوسطى تحديدًا، وتقديمه كفن مضاد للإرث الروسي. والأهم من ذلك، هو أن إيغور سافيتسكي (جامع اللوحات)، ليس بطلًا خالصًا، كما تقدمه الدعاية الغربية، وهنالك عدد كبير من ورثة الجيل الثاني الفنانين ـ الذين اعتبرت أعمالهم فنًا بورجوازيًا منحطًا في الزمن الستاليني ـ اتهموا سافيتسكي باستيلائه على الأعمال الفنية مستغلًا جهل ورثة الجيل الأول بقيمة هذه الأعمال.
ثمة دور كبير وهام لإيغور سافيتسكي، جامع الفنون المتهمة بالبورجوازية في العهد الستاليني، لا ينكره المعرض، بل يظهره كجزء من عملية "مقاومة". وهي مقاومة تنطوي على شيء من الأسطرة، مثل معظم المقاومات في العالم. ذلك أن السوفيات، حسب معطيات تاريخية، ولفترةٍ طويلة، غضوا أبصارهم عن سافيتسكي وما جمعه من فنون. وثمة دور للبورجوازية للدفاع عن نفسها بطبيعة الحال. ولكن، ربما، وقد يقول كثيرون ذلك، أن ثمة دورًا للفن نفسه، في الدفاع عن ميله الدائم... نحو البورجوازية!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.