}

تارانتينو في غزة... تارانتينو في أفلامه

أحمد محسن 25 ديسمبر 2023
آراء تارانتينو في غزة... تارانتينو في أفلامه
تارانتينو أيد "إسرائيل" في حربها على غزة/ الصورة (27/5/2023/Getty)

ثمة علاقة جذرية بين كوينتن تارانتينو وبين أفلامه. وليس المقصود هنا أن أفلامه تعبّر عنه تمامًا، أو أنه سيفعل في الحياة كما يفعل أبطال الأفلام. ما يعرفه معظم النقاد هو أنّ الفيلم الذي يخرجه تارانتينو لا يمكن أن يكون إلا من إخراجه هو. لا يمكن تقليده بسهولة: ثمة عنف خاص به وحده.


بداية التسعينيات ونهاياتها
لا يشترط أن تكون متخصصًا، بل يكفي أن تكون متابعًا عاديًا للسينما، لتقتفي أثر تارانتينو في أعماله. إنه يصبغ العمل بدمغة شخصية، ببقع كبيرة تعبّر عنه وحده. وما يقوله كثيرٌ من النقاد هو أنك عندما تشاهد "kill bill"، أو "The Italian job"، فإنك لا تتفاعل مع الفيلم، بل تتفاعل مع ما تعرفه عن المخرج، وتنتظر منه ما يقدّمه عادةً، أي أنك تشاهد المخرج، ولا تشاهد الفيلم نفسه. هذا الانطباع قد يكون عامًا، وقد يكون تعميميًا، ولكنه من دون أي شك ينطوي على شيء من الصواب. ذلك أن ثمة محطات أساسية، ستكون موجودة دائمًا: الموت/ القتل، المواجهة بالبنادق على الطريقة المكسيكية، الهوس بالسينما كسينما، والعنصر الأساسي الذي تتشكل منه الأفلام وتقوم عليه: الحوارات الخاوية. الحوارات التي تبدو وكأنّ ليس لها أي وظيفة سوى السخرية، قبل الاكتشاف في النهاية أنّ ثمة وظيفة للسخرية نفسها. في أفلامه توجد بصمة دائمة، وهو يحبّ ذلك، لكنه لا يحبّ الحديث عنه: العنف.
العنف الذي يزداد، ويحضر فجأة، مع أنه متوقع. إنه شيء يشبه طائرة تحلّق، ويعرف الضحايا تحتها أنها ستطلق صاروخًا، لكن مع ذلك، يكون الدوي مفاجئًا. شيء لا يمكن توقعه، يمكن فقط معرفته. صحيح أن ثمة فارقًا كبيرًا بين صاروخ ينفجر داخل شاشة، وبين صاروخ ينفجر في الحقيقة، إلا أن تارانتينو لم يستطع أن يخفي دعمه لإسرائيل أخيرًا، كما لو أنّه يدعم نفسه. يدعم ما رفضه دائمًا، عن العلاقة بين العنف في السينما، والعنف خارجها. وربما يتظاهر ـ بصفاقة ـ بأنّ الأمر برمته فيلم.
قد يكون تارانتينو في النهاية ظاهرة. مخرج آخر موهوب. وهذه حقيقة لا أحد مهتم بتشويهها، أو تغييرها. لكن جمهوره لا يمكن أن يحمل صفة الموهبة، أو يكون جمهورًا مستقلًا عن العالمَين: السينما والعالم الفِعلي. ولا بد من وجود أسباب خلف الإعجاب بالعنف الفائض عن حده المألوف. في السينما، كما في الواقع: ليس العنف في حد ذاته ظاهرة، وقد يكون كل عنف في حد ذاته ظاهرة مستقلة. وبعد "Reservoir Dogs" تحولت ظاهرة تارانتينو إلى ما يشبه المادة الجاذبة لهواة السينما الاستهلاكية. لكن، في الوقت نفسه، أثار الأمر اهتمام النقاد الجديين، ومحبي السينما الحقيقية. وهنا، نجد أنفسنا أمام احتمالين. الأول، أن يكون تارانتينو تمثيلًا لنتائج الحقبة التي بدأ ينمو فيها. والثاني، أن يكون شخصًا قادرًا على فهم الزمان الذي كان يعمل فيه، وتاليًا الجمهور الموجود في هذا الزمان ـ الذي هو التسعينيات ـ وذلك المكان الذي هو العالم في تلك الفترة. وقد يلّخص شخص مثله الأمرين معًا، فيكون حصيلة نموذجية، لمخرجٍ ينشأ في بيئة رأسمالية مزهوة بالقضاء على نقيضها، ويعيش مرحلة ما بعد الحداثة كما يجب أن تعاش، أي بمزيج غريب من القبول والرفض، ومن الإحباط الهائل، والعمل في السينما كرفضٍ في النهاية للإحباط والاستسلام.



ذلك لا يلغي أنّ العنف المجرّد قد يكون نابعًا من وعي خاص بصاحبه فقط، ولا يمكن تعميمه. وهنا بالذات تكمن أهمية قراءة العلاقة بين مواقف تارانتينو السياسية، مع العنف الرهيب في أفلامه. بهذا المعنى، قد يكون دفاعه، ودفاع محبيه، ضدّ الفكرة التي تقول إن العنف يولد عنفًا، دفاعًا معقولًا عن مشروعية العنف في السينما. إلا أن تارانتينو ليس مدافعًا عن العنف في السينما وحسب، بل هو مدافع استثنائي عن عنف استثنائي قد يفوق أي عنف آخر.


الهروب من الحقيقة

ملصق فيلم "the italian job" للمخرج كوينتن تارانتينو


في أوائل التسعينيات، أي في الفترة التي ظهر فيها "Pulp fiction"، كان العالم يبحث عن شيء ما، عن رفع الصوت فوق الحداثة، التي كانت توشك على التحول إلى مأساة مملة، وكأنها مجرد دعوة إلى التقدم لا تنفك تنطلق من المكان نفسه، وتبقى في المكان نفسه. في تلك الفترة، سقط جدار برلين، ورأى العالم أنه لا بد من سقوط أفكار، وظهور أصوات، ولا بد من إفساح المجال لمزيد من الأفكار المكبوتة. ظهر كوباين، وظهر تارانتينو، وانتهت تمامًا ظاهرة "الموجة الجديدة" في فرنسا، وأفلت السينما الإيطالية كحالة. لعل الجديد الذي يحمل مشروعًا ثقافيًا، أو يُحمّل بأبعاد ثقافية، وإن كانت مشحونة بالاستهلاك، يملك قدرة فائقة على إشعار المتلقين بأنهم أكثر حداثة ممن سبقوهم، وأنهم يتجاوزونهم.
ولعل الهوس بالعالم السفلي، كما راج في تلك الفترة، هو ما يحمله معه تارانتينو حتى اليوم، وهو ما يجعله في أيامنا هذه أقل حداثة، مما كان عليه في بداياته. أما علاقة الحقيقة بالسينما، فهي علاقة أخلاقية، متصلة مع الزمن أيضًا، ولكنها أقوى من الأشخاص قطعًا. فإذا كان العالم السفلي الذي انتشر في العالم بعد سقوط الجدار يثير حماسًا جَمْعيًا، ويمنح المنتمين إليه شعورًا بالهروب من الحقيقة، لم تكن سينما تارانتينو كذلك وحسب. قد تكون في ظاهرها مجرد استجابة قصوى لتفشي العنف في السينما الأميركية بعد التسعينيات، والتوقف عن التعامل معه كأمر محرم. استجابة استفادت من إمكانات تقنية عالية، ومن قدرة اخراجية فائقة على المواءمة بين الجانب البصري المباشر، وبين الحوارات التخفيفية، كمزيج مناسب لتقديم عمل ساخر وقوي في الوقت عينه. لكن، ورغم كل شيء، فإن تلك السمة "التارانتينوية" المتمثلة بالإفراط في العنف لا بد وأن تملك جذورًا أخرى قد تكون خارج السينما بأسرها.




قد يكون التحذير من انتقال العنف من الشاشة إلى الآخرين ساذجًا، بالنظر إلى أن البشر يقتلون بعضهم منذ آلاف السنين. لا بل إن المعارك، على الأقل من الناحية البصرية، كانت تحمل عنفًا أشد وضوحًا، ولا يمكن توريته. وهذا ليس فقط ما تظهره السينما، بل ما يمكننا نحن البشر العاديين تصوره. ويمكننا أن نسرد مئات الحوادث الجماعية، التي تحمل عنفًا رهيبًا لا يمت إلى السينما بصلة. ما يمكن الحديث عنه هو العنف الذي يحمله العمل السينمائي، واقترانه بدعوة صاحبه للعنف بصورةٍ موازية في الخارج. وليس كافيًا أن يرفض تارانتينو أن يطحن رجل رأس زوجته بمسدس، كما يحدث الأمر في أحد أفلامه، إذ أننا لا يمكننا أن نتخيّل وجود شخص ما كذلك. في الوقت نفسه، لسنا في حاجة إلى الخيال، لنفهم معنى أن يؤيد شخص ما، مخرج ما، جيشًا غازيًا يملك تصورًا نهائيًا حول الآخرين، بوصفهم أشخاصًا "لا يستحقون الحياة".
إن موقفًا مثل موقفه التاريخي المؤيد للاحتلال يعيد النظر تمامًا في شخصية تارانتينو نفسه، وليس في أفلامه وحدها. ذلك أن الأخيرة لم تعد ملكًا له. وهذا أيضًا قد يكون فارقًا هائلًا بين السينما وبين الحقيقة. فالأرض تبقى لأصحابها، بغض النظر عن الجهة التي تستولي عليها. فالعالم يمشي إلى الأمام، وعندما يموت شخص ما، فهذا يعني أنه مات، إلا أن الحقيقة شيء لا يمكن امتلاكه. يعيدنا هذا إلى فوكو، الذي لطالما أصر في معظم كتاباته الجدلية على وجود علاقة شائكة ومعقدة، لكنها ثابتة وحاسمة، بين المعرفة والقوة، إذ أن الحقيقة تنتج عبر السلطة، لكن السلطة لا يمكن أن تمارس من دون وجود حقيقة في نهاية. وتاليًا، لا يمكن إنتاج سلطة من دون إنتاج حقيقة، بالدرجة ذاتها، أو ربما بتفاوت ربما يكون إحصاؤه أشد صعوبةً.


أسباب (غير) شخصية

العنف الإسرائيلي الواقعي في حرب إسرائيل على غزة لم يحل دون تأييد تارانتينو للقاتل


بصورةٍ متطرفة، يمكن القول إن سينما تارانتينو هي سينما خاوية من الداخل. إنها تحمل عنفًا براقًا، وتحمل شكلًا تجديديًا دفع المشاهدين إلى التفاعل. ولكن هذه السينما خاوية تمامًا من أي بُعد وجودي. فما يعبر عنه المشاهد بمرح قد لا يكون تعبيرًا عن الوصول إلى حقيقة، أو إلى شيءٍ متصل بالذات، بل يكون تفاعلًا متقطعًا مع الأبطال الذين تم اختيارهم بعناية، ومع الحبكة الخارجة عن المألوف، والمتمردة أحيانًا على التاريخ، وعلى الحاضر، أي على الزمن بشكلٍ عام. لا بد وأن بقع الدم الكبيرة تترك أثرًا في النهاية. وبصورةٍ أقل تطرفًا، يمكن الافتراض أنها سينما ينبغي أن تقرأ بعناية أيضًا، ويمكن أن تحمل أفكارًا قابلة للنقاش. وإذا تحدثنا عن أفلامه بمعزلٍ عنه، فيصعب الاعتراف أن هذه الأفلام تخرج من خواء، أو تقود إلى خواء. على العكس من ذلك، ولا سيما وأنه يضع المشاهد في حالةٍ من القلق والارتياب. وإن كان هذا الموقف التقني ليس مهمًا، في حالة النقاش عن مواقفه الأخلاقية عمومًا، هنالك ما يدفع إلى الارتباك فعلًا في قراءة تارانتينو، فهو أنتج ثلاثة أفلام أخيرًا ("Inglorious Basterds" ،"Django Unchained"، و"The Hateful Eight") تحمل رسائل سياسية، يمكن تصنيفها كأفلام ملتزمة بقضايا سياسية، وليست أفلامًا تعبّر عن موجات العنف الناجمة عن انفجارات حقبة التسعينيات الثقافية. فالأول مناهض للنازية، والثاني مناهض للعنصرية، والثالث يحمل موقفًا سياسيًا واضحًا يخص الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية.
بالطبع، كانت دمغة العنف حاضرة في أفلامه، وكانت الحوارات الطويلة التي تبدو فارغة حاضرة أيضًا في أفلامه الملتزمة بالقضايا المباشرة. غير أنها كانت أفلام تقريبًا ناضجة، وتنطلق من أمكنة محددة، بحيث لا يمكن القول إنها "عالم سفلي"، أو "انفجارات"، أو تمثيلات مجنونة عن العنف. إنها أفلام تحمل موقفًا واضحًا ومحددًا. وشخص مثل تارانتينو لا يمكن أن يؤيد العمل الوحشي للجيش الإسرائيلي، فقط لأسباب "شخصية". لا بد أنه يوجد ما يدفعه إلى مثل هذا التأييد الفظيع ما هو أكثر من ذلك. وإذا كان "أخلاقيًا" في مسألتي العنف والعنصرية، وغير قادر على أن يكون أخلاقيًا حتى أدنى درجة مع الفلسطينيين، فلم يبقَ أي خيار يفسّر مواقفه سوى نزعة العنف الهائلة التي سيطرت على أفلامه وعليه أيضًا، لا لشيء إنما لأجل العنف في حد ذاته. وهذا لا يعود جنونًا يمكن الاعتياد عليه، أو تسويغه من زاوية فنية. إنه موقف حقيقي، ويحدث في الحقيقة. هناك، حيث يموت الأطفال، عبر شاشة واقع هائلة، بينما يتفرج العالم ولا يشعر بأي دهشة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.