ثمة معارض تشكيلية وصور فوتوغرافية لفلسطين، منها ما يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، وصولًا إلى أيامنا، بالإضافة إلى أعمال فنانين فلسطينيين معاصرين. وهنالك، في ركنٍ ما، حقائب جان جينيه. في "ما تقدمه فلسطين للعالم"، الذي يستضيفه "معهد العالم العربي" في باريس، تحضر فعاليات كثيرة. ثلاثة معارض على امتداد ستة أشهر. 400 عمل من حول العالم. الزاوية الأولى للبصريات. الأعمال المحملة بالأبعاد السيميائية. في هذه الزاوية تنتهي اللحظة الانطباعية؛ تتقدم الفوتوغرافيا كحقيقة، على المخيّلة الاستشراقية التي أظهرت فلسطين فخًا، وقدّمت فنًا فاتنًا، ولكنه فوق التاريخ. الزاوية الثانية، محمود درويش في الصالة. صوته وحضوره، الطاغيان منذ زمن على المشهد الشِعري الفلسطيني، في قاعة "القصيدة"، التي سيّجت بزخرفات للخطاط حسن مسعودي، هي عبارة عن مقتطفات من قصائد درويش نفسه. أما حقائب جان جينيه، فسنجد فيها عبارةً أثيرة: "الفلسطينيون ساعدوني على العيش". هكذا تقول وثائق غير منشورة تجوّل بها جان جينيه، حاملًا حقيبتيه، وفي داخلها المناشير في زمنها. من الناحية الفنية، كُتب كثير عن الأعمال. لكن ربما يكون هناك القليل، حتى الآن، عن سوسيولوجيا الفن الفلسطيني، وعن إدراجه في سياقه التاريخي.
بيت لحم... الحياة خلف المدينة
يأتي هذا المعرض في لحظةٍ راهنة، لكنها رغم راهنيتها تحاول أن تجد حاضرًا تطل منه. لحظة البحث عن التباين، بين مشاريع عدة مبناها الأساسي هو النقد، وضمن سياق محاولات مستمرة للتخلص من معرفة استعمارية عن فلسطين تقريبًا شبه مكرّسة في المناهج الغربية، على مستوى السياسات في أقل تقدير. وقد يكون ثمة ترابط "فلسفي" في وسط مجموعة، أو مجموعات، بين الاستعمار والحداثة وتاليًا ستصل الترسبات عبر مسارب واسعة إلى آليات نقد العمل الفني. لكن ما تشير إليه المواد المعروضة هو أنّ التاريخ ليس اختلافًا، وليس تفكيكًا، بقدر ما أنّه حقائق من ذلك النوع الذي يبعث على السعادة. وشيء من نقد الحرية قد يكون نافعًا هنا: هذه السعادة قد تكون عقيمةً، بالمعنى الذي يقصده أدورنو عن السعادة. ذلك رغم أنّها قد تشبع فم التاريخ لوهلة. لشدة القمع، أو معرفة التنصل من حدوث القمع، قد يتوزع الناظرون بين نوعين، أو ربما عشرات الأنواع. وإذا كانت التقاليد النقدية الأوروبية اليوم باردة نسبيًا عندما يتعلق الأمر بالمعرفة الاستعمارية، فإن شيئًا من الحقيقة المتجسدة في الرؤيا قد يؤدي إلى استجابات غير متوقعة. والاستجابة هنا لا تعني التعاطف، بل هي مدخل إلى الحقيقة: ما تقدمه فلسطين للعالم هو الذاكرة.
هذه ذاكرة حيّة، لأنها غير كاملة. لا يمكن ملاحظة كل شيء في الصورة الكبيرة من بيت لحم. لكن سنعرف أنّ البيوت موجودة في الصورة فلسطينية. بينها ما يقوم على غرفةٍ وحيدة، قد تمتد إلى غرفتين. ولا نستطيع التأكد، لكننا إذا دققنا النظر، سنلاحظ أنّ بين البيوت الطولية بيوتًا أكثر بساطة، صنعت من التراب والحجر. وبقليل من البحث، إذا حفزنا التاريخ على ذلك، لن نجد صعوبةً بالاكتشاف أن تلك المواد كانت متوافرة في بيت لحم حتى قرنين من الزمن إلى الوراء. لا تظهر الصورة البانورامية الجامعة لبيت لحم "المناطير"، ولا "الطوابين"، فالسيميائية عمومًا على أهمية إشاراتها وأبعادها لا يمكن أن تكون تأريخًا نهائيًا.
الحياة داخل هذه البيوت متروكةً لخيال الناظر. وما يطغى على صورة بيت لحم الأثيرة تحديدًا، هو المباني الطويلة، بالنظر إلى الفترة التي تعود إليها أعمار هذه المباني. ونستدل من وجودها إلى أن ما ينشأ على أطرافها هو شوارع تجارية، لوجود غرف في الأسفل يبدو أنها كانت تستخدم للتجارة. أما "الأحواش"، وفيها أيضًا نشأت حيوات كاملة مشبعة بالتفاصيل الأنثروبولوجية، فلا تظهر في الصورة. فقد كان "الحوش" عشوائيًا في عمارته، وطارئًا يوجد عند الحاجة إليه. لكن الأحواش اتصلت ببعضها بعضًا، ونشأت كمدينة خلف المدينة. كان فيها من شروط العيش ما يجعلها مجتمعًا قائمًا في حد ذاته، مثل الحدائق وآبار المياه وزرائب الماشية. ما يطغى على صورة بيت لحم الآسرة والعملاقة هو المباني البورجوازية، التي نفهم من تاريخها أنها ظهرت أواخر القرن التاسع عشر، نتيجة التنظيمات العثمانية، وغيرها من العوامل الاقتصادية، مثل الهجرة الطوعية، وظهور رأس مال فلسطيني، والتبدل في المواقع والتحولات في الملكية ورأس المال. لا يتيح لنا هذا العرض السريع لصورةٍ واحدة داخل المعرض أن نفهم تاريخ فلسطين كاملًا، بل يتيح لنا أن نعاين وجود التاريخ في هذا المكان، ووجود الطبقات والأشخاص والحيوات الكاملة، التي حاولت السردية الاستعمارية طمسها. يدفعنا وجود الحياة، وليس الحياة بحد ذاتها، إلى الابتسام.
اللوحات والصور صامتة. هنالك كثير من الأفكار والأصوات في داخلها، لكنها صامتة في النهاية. وحتى عندما تتقاطع التجهيزات الحيّة مع الأعمال، يبقى الصمت عنصرًا مهيمنًا، كما في عمل رلى حلوان "القدس تنادينا". لكن هذه الأعمال، بطريقةٍ ما، تشكّل اعتراضًا جماعيًا هائلًا، على الإنكار الطويل والمستمر. بطريقةٍ ما، تقودنا اللوحات والصور إلى ما هو أكثر من التاريخ، الذي يمكن لكثيرين أن يقفوا على عتبته من دون أن يدخلوا. تقودنا هذه اللوحات إلى محاولات البشر للهيمنة على الطبيعة، أو إلى تخطيها، والتصرف كما لو أنها غير موجودة. كما لو أن هؤلاء السكان الأصليين ليسوا جزءًا من الطبيعة، وتاليًا كان ممكنًا صرف النظر عن وجودهم وعن وجودها. وإن كان التاريخ ليس سوى اجتماع لعدة أحداث وطرائق تستمر من خلالها عملية النمو والتشكل، يبدو أثر المستعمِر حقيقيًا في دوره: الانتقال إلى التشوه. والصور الصامتة ليست دليلًا على التشوه اللاحق ببيت لحم، أو بالناصرة، أو المدن الفلسطينية بعد الاستعمار والاحتلال، فليس هنالك ما يثبت أن القضاء على المكان والعشوائية هي سمات محصورة بالاحتلال وحواجزه ودباباته وجدرانه وحسب، بل هي أحداث يمكن أن تؤديها السياسات النيوليبرالية، أو الفصل العنصري، أو غيرها من العوامل. لكن اجتماع التاريخ، أو الجانب الاجتماعي في التاريخ هو ما يستوقفنا: عملية التتبع. تقفي أثر الفاعل. المفارقة أن الذاكرة الحقيقية تمنح طبيعة المكان فرصًا لإعادة صياغة المفاهيم التي صاغها المستعمِر. إنها تسهم بصورة أساسية في فهم المسار الاستعماري للتاريخ من دون التخلي عن الأداة النقدية.
شيء ما يظهر في اجتماع هذه الكمية الهائلة من الأعمال. شيء لا يمكن التستر عليه. شيء قابل للظهور في أي لحظة: معاناة المكان التي تتجاوز معاناة الأشخاص. ألم الأشياء والأبنية، والطبيعة، أيضًا، وبشكلٍ عام. الفن عمومًا هو اعتراض على التقية، وعلى التستر. وهو ليس انتصارًا بقدر ما أنه خروج الأفكار من مخابئها. إنه ميل دائم إلى التعادل بين الحقيقة والذاكرة، حتى ولو بلغت درجة التطرف فيه مبلغًا عظيمًا. فالذاكرة ليست كل شيء، وثمة ما يحدث الآن أيضًا.
غزة... المدينة تحت المدينة
حيث توجد إشارة "المترو"، كانت ثمة لافتة معلقة بموازاتها لجهة اليسار، ولكنها ترنحت عمّا نفترض أنه كان مقهى. وإذا أردنا الاستعارة من درويش، يمكننا القول... كمقهى صغير هي غزة. يستطيع متحدث العربية قراءة الجملة المترنحة بسهولة: "سهر الليالي". يمكننا القول أيضًا إنها جملة سابقة. وفيما يمكننا تصنيف البحر عالميًا ومتاحًا للجميع ـ مع أنّه ليس كذلك في غزة ـ فإن ترنّح اللافتة ربما يشير إلى ترنّح معناها، وصعود أفكار جديدة وأحلام جديدة، تربط بين الفلسطيني المحاصر في غزة، وبين المجتمعات البعيدة، في ميلٍ بريء إلى الحداثة.
في العمل المركّب، وباستخدام وسائط عدة، ننتقل من "فوق" إلى "تحت"، حيث تحدث المدينة في غزة بالأنفاق، كما في الطرقات. يقترح عمل محمد بو سل حياةً طبيعية، وأحلامًا طبيعية، لشعبٍ طبيعي، صودف أنه دفع إلى امتلاك خبرة في الحفر، بعدما صادر الاحتلال الهواء أيضًا. بعد أبحاث طويلة، تبين له أنّ ثمة إمكانية علمية وطوبوغرافية لكي تتصل غزة بالضفة الغربية، مدنًا وأحداثًا ويوميات، عبر شبكة المترو. فالمترو ليس شبكة أنفاق، بقدر ما أنه شبكة علاقات اجتماعية بذات الدرجة، وربما أكثر. في العمل، ترتفع أحيانًا إشارة المترو أمام النخيل، تنتصب في قلب واحة. وأحيانًا ترتفع الإشارة أمام البحر مباشرةً، وكأن رحلة القلب ستمرّ عبر هذا البحر. ثم فجأة تنتصب أمام مبنى عملاق ومدمر، ثم تظهر في صورة أخرى، ثم في وسط الطريق: هذه مدينة، وهذه حياة. تنتصب اللافتة أمام الأطفال، خلف الحواجز الحديدية. الأطفال الذين يحبسون العالم كله خارجًا.
من خلال هذه السلسلة من الأعمال، نتأكد مجددًا من أنّ الاستعمار ليس خيالًا، بل هو جملة من المواقف التي يمكن الإشارة إليها، والتعرف إليها بصريًا. إنه ليس حدثًا متخيلًا، مع أنّ الخيال يمكن أن يلعب دورًا رئيسيًا في تحققه، وفي تصور نتائجه من ضحاياه، رغم التباينات في الأحداث التي يتشكّل منها في النهاية. لكي يكون الاستعمار استعمارًا، يجب أن يضمر التفاوت والتباين في مكان حدوثه وزمانه، قبل أن يستوي وينضج فوق الأرض وتحتها. فهو في النهاية ينتج وضعًا تتراجع فيه حدة المواجهة وتتصاعد. وقد تكون الاستعانة بتفسير جورج بالانديه مفيدة دائمًا، كونه يقترح تحديد نقطة انطلاق واضحة، كأولوية أساسية، لفهم نقدي وديالكتيكي للمسألة الكولونيالية. العمل الفني الفلسطيني، من بين عدة عوامل أخرى، يساهم في تحديد هذه النقطة. لقد كان التقدم نحو الحرية بعد أوشفيتز لا يعدو سوى تفاهة فعلًا، لكن النظر إلى الأرض المأهولة بسكانها في فلسطين وتجاهل ما حدث بعد ذلك، ليس سوى التأكيد على وجود العقل الذي تتحدث عنه النظرية النقدية نفسها. ذلك العقل الذي لا يستطيع التحديق في الرعب وجهًا لوجه. وبدلًا من جميع السرديات الاستعمارية اللاحقة، التي اخترعت سيلًا من الألقاب، مثل اللاجئين، وعرب إسرائيل، والبدو، وعرب المناطق، وغيرها، فبالأعمال الفنية، وبالتاريخ، يمكن الاستدلال بسهولة إلى الاسم الوحيد الذي يملكه سكان الأرض وأهلها. ليس لديهم اسم غيره، رغم تقدم الهويات في العالم، ورغم تراجع العدالة كخطاب في العالم. الفلسطينيون. هكذا هو اسمهم، تقول الذاكرة، وتقول الحقيقة.