}

لوحة كارافاجيو "هذا الإنسان": عودة التحفة المفقودة

سمير رمان سمير رمان 17 يونيو 2024
تشكيل لوحة كارافاجيو "هذا الإنسان": عودة التحفة المفقودة
لوحة كارافاجيو معروضة في متحف برادو في مدريد(27/5/2024/فرانس برس)

بدأ متحف برادو في مدريد، اعتبارًا من 27 مايو/ أيار الماضي، عرض لوحة "Ecce Homo/ هذا الإنسان"، في قاعةٍ خاصّة من المتحف. اللوحة تمثّل المشهد الذي سبق تصديق الحاكم الروماني لمنطقة جنوب فلسطين بيلاطوس البنطي(*) على قرار صلب عيسى الناصري (المسيح). خلال السنوات الماضية، تغيّر اسم الرسام الذي تنسب إليه هذه اللوحة مرات. أمّا اليوم، فأصبحت اللوحة تنسب رسميًّا إلى الرسّام الإيطالي ميكيل أنجلو ميريزي(**)/ Michelangelo Merisi المعروف بـCaravaggio، الأمر الذي يجعلها تلقائيًا جزءًا من تاريخ الفنّ الأوروبيّ الكبير.
كثير من الشكوك تحوم حول هذه اللوحة بالذات. يوجد في العالم اليوم قرابة 60 لوحة للرسّام الايطالي كارافاجيو (1571 ــ 1610)، ولكن حول هذه اللوحة بالذات دارت وتدور شكوكٌ كثيرة. على الرغم من أنّ كارافاجيو أصبح موضة قديمة، فإنّه لا يزال يحظى باهتمامٍ واسعٍ في عالم الفنّ. فور العثور على لوحةٍ جديدة من لوحاته تصبح حدثًا. وبهذا المعنى بالذات، يقدّم متحف برادو قصّةً جديدة مثيرة بعد قرار استقبال كارافاجيو "المفقود" بين جدرانه.
سيتواصل المعرض على مدى أربعة أشهر، ويبدو أنّه سيصبح بمثابة "الحلّ النهائي" لتقرير من هو مبدع اللوحة. في الوقت نفسه، فإنّ المتحف الذي يمتلك لوحةً واحدةً فقط من أعمال كارافاجيو المؤكّدة، وهي لوحة "داوود يحمل رأس جالوت"، لن يستفيد من كلّ هذا اللغط: فاللوحة ملكٌ شخصي لمالكٍ بقي اسمه طيّ الكتمان.
تعود ملكية لوحة Ecce Homo المثيرة للجدل إلى شخصٍ لم يعلن اسمه. وبدأت قصّتها الحقيقية عام 2021، عندما عرضت في دار المزاد "أرسينال" في مدريد لوحة على القماش تعود إلى القرن السابع عشر، وقيل وقتها إنّها من أعمال أحد تلامذة الفنان الإسباني خوسيه دي ريبيرا (من أتباع مدرسة كارافاجيو)، وقدرت قيمتها المعلنة بـ1500 يورو، الأمر المثير للدهشة في حد ذاته، لأنّ أسوأ أعمال "الدائرة المحيطة بالفنان ريبيرا" لا تباع بهكذا قيمة... ثارت على الفور ضجةٌ لم يكن السعر سببها، بل تصريح عدد من النقاد دفعة واحدة أنّ اللوحة قد تكون بريشة الرسّام كارافاجيو نفسه.
جاءت ردّة فعل الحكومة الإسبانية حاسمة، فقد أوقفت عملية البيع على الفور. على ما يبدو، قررت وزارة الثقافة في حكومة مملكة إسبانيا عدم السماح بخروج التحفة خارج البلاد. انقضت ثلاث سنواتٍ لإنجاز عمليات ترميم اللوحة، وكذلك استغرق الخبراء المدّة نفسها لإنجاز تقريرهم في شأنها. وفي الوقت نفسه، استمر الجدل واللغط حول مؤلفها الفعلي... في هذه الأثناء، كانت اللوحة قد انتقلت ــ بحسب وسائل الإعلام الإسبانية ــ إلى مالكٍ جديد، وهو مواطنٌ بريطاني يقيم في إسبانيا غامر بمبلغ 36 مليون يورو لقاء اللوحة التي تكاد تنسب رسميًّا للرسام كارافاجيو. جرت عملية البيع في غاليري Colnaghi اللندني. وبعد إتمام عملية البيع، قال ممثّل الغاليري لصحيفة El Pais إنّ اللوحة ستحفظ مؤقتًا في المجموعة العامّة، وليس في منزل صاحبها، مضيفًا أنّ اللوحة ستكون في متحف برادو بالتأكيد للأشهر القليلة المقبلة.




في عالم الفنّ، وعندما يتعلّق الأمر بمثل هذه اللقى المثيرة، لا تسير الأمور بسلاسة دائمًا. فإذا كان الجميع يبتهج ويهلّل لظهور تحفةٍ فنيةٍ ما، فسيكون هنالك دائمًا من يختلف معهم. وهذه المرّة، في حالة لوحة كارافاجيو، لا يبدو حزب المعارضة ضعيفًا، إذ يتسلّح بحجج لا يستهان بها. والمشكلة الرئيسية بالنسبة للوحة، بعد نسيانها لقرونٍ، تكمن في الأصالة، وفي تاريخ إنتاجها. فعلى الرغم من أنّ حياة كارافاجيو موثقة بدرجة عالية من الدقّة، فإنّ المساعي الهادفة إلى تتبع المسار الدقيق لعملٍ مهمّ من أعمال الفنّان على مستوى Ecce Homo لم تفلح في إيجاد هذا المسار. حتى الآن، لم يصدر بعد الكتيّب التعريفي العلمي المكرّس للّوحة، ولكنّ الخبراء الذين يقولون بأصالة اللوحة يبنون حججهم على التحليل التقني (الذي حدّد تاريخ رسم اللوحة في القرن السابع عشر)، وعلى المعطيات غير المباشرة التي تشير إلى أنّها جزء من مجموعة الملك الإسباني فيليب الرابع، ومن ثمّ ابنه الملك كارل الثاني. كما يحاجج أنصار هذا الرأي بصعوبة تشابه الاعتبارات التي يمكن التحقق منها مع المنتجات الأكيدة التي رسمتها ريشة كارافاجيو.
ساهمت الطريقة التي سحبت بها اللوحة من المزاد عام 2021 بتذكير عشاق الفنّ بأعمال ولوحات كارافاجيو. وبالفعل، تحتوي اللوحة أيضًا عناصر دراما جذرية في الضوء والظلّ تشتهر بها جميع لوحات هذا الفنان الإيطالي العظيم، كما أنّ فم الحارس المفتوح بشكلٍ مؤثّر، وكذلك تكشيرة بيلاطوس، التي تنمّ عن عذاباتٍ مريعة، تشير بوضوح إلى أن طبيعة اللوحة الحالية تتطابق مع طبيعة لوحاته. يقدّم معرض برادو لوحة Ecce Homo كواحدة من أعظم الاكتشافات في تاريخ الفنّ، مما يولّد إجماعًا غير مسبوق حول أصالتها. وضع كثيرٌ من العلماء، الذين يتمتعون بسمعةٍ طيبة، توقيعهم على تقريرٍ يؤكّد أصالة اللوحة، من بينهم: الدكتور تيرزاجي من جامعة روما تري، والمسؤول في متحف كابوديمونتو في نابولي، والبروفيسور جوزيبي بورزيو من جامعة L’Orientale في نابولي، وكذلك أمين معرض متروبوليتان كيث كرستيانس.
ولكن لا يزال هنالك كثير من المشككين في أصالة اللوحة. ومن المثير أن السبب الرئيسي الذي أثار شكوكهم يعود، بالإضافة إلى شكوكهم بشأن المصدر، إلى عمليات الترميم التي أضفت على اللوحة كثيرًا من النور (لا تتمتع به لوحات كارافاجيو)، وأزالت جزءًا كبيرًا من المأساوية التي يتوقعها الجميع من لوحات كارافاجيو الأصيلة. بعد إزالة طبقات الأوساخ والورنيش القديم، بدت اللوحة باهتةً ضعيفة الدينامية، وخاملة بعض الشيء. بطبيعة الحال، تلقي هذه الأمور ظلالًا من الشكّ حول موثوقية الإسناد. ولكن، من ناحيةٍ أُخرى، يجب القول إنّ مثل تلك الأدلة سبق أن استخدمت من قبل خبراء تاريخ الفنّ على مدى قرونٍ عديدة، بما في ذلك من قبل الأب الروحي لجميع خبراء الفنّ الإيطاليين تقريبًا، روبرتو لونجي. أمّا بالنسبة لأولئك الذين لا يأخذون الأمر على محمل الجدّ، فيقترحون مقارنة لوحة Ecce Homo الجديدة مع تلك المحفوظة في قصر بيانكو في مدينة جنوة. ليس في الأمر أيّة دراما، فاللوحة من أعمال كارافاجيو الأصيلة. على الرغم من كلّ ذلك، لا بدّ أن تستمر الدسائس!


هوامش:
(*) بونتيوس بيلاطوس: وال روماني على منطقة جنوب فلسطين الجبلية. على الرغم من العنف والإعدامات التي ارتكبت في عهده، فإنّه رفض ثلاث مراتٍ الحكم بالموت على المسيح (بحسب رواية العهد الجديد)، قائلًا إنّ الرجل لم يرتكب ما يستحق الموت. كانت الهيئة السياسية والدينية والحقوقية اليهودية تصرّ على قتل المسيح. في نهاية الأمر، اضطر بيلاطوس، تحت ضغط الحشود التي كان الحاخامون يقودونها إلى إصدار الحكم، وتسليم المسيح لليهود. بعدها، أخذ بيلاطوس ماءً وغسل يديه على الطريقة اليهودية القديمة، في إشارة إلى تنصّله من دم المسيح.
(**) كارافاجيو: (1571 ــ 1610) هو ميكيل أنجلو ميريزي دي كارافاجيو، رسّام إيطالي، مؤسس أسلوب "الواقعية". من أشهر لوحاته: "Bacchus/ باخوس الصغير المريض"، التي تعد تحفة رسمها عام 1593، ولوحة "عازف العود"، ولوحة "النصابون"، وغيرها...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.