}

جان لوك غودار وأنييس فاردا وسينما الموجة الجديدة

سمير رمان سمير رمان 24 يونيو 2024
سينما جان لوك غودار وأنييس فاردا وسينما الموجة الجديدة
جان لوك غودار في سويسرا (30/11/2010/Getty)

في الخامس عشر من شهر حزيران/ يونيو اختتم مهرجان Beat Film Festival أعماله بعرض أفلامٍ مكرسة لرموز بارزة في تاريخ السينما. المهرجان تأسس عام 2010 ليغدو اليوم أهم مهرجان للأفلام الوثائقية في روسيا.
على الرغم من أنّ ظهور صور شخصياتٍ على الشاشة لمخرجين مهمين لا يزالون يمارسون العمل، مثل داريو أرجنتو، أو ميشيل غوندري، أمرٌ بالغ الأهمية، إلا أنّ فيلم "غودار: وحدها السينما"(*) للمخرج سيريل لوتي، يتحدث بصورة أكثر بلاغةٍ عن طبيعة السينما الغامضة. لقد وضع خروج جان لوك غودار الطوعي من الحياة (على الرغم من عدم وجود مرضٍ خطير، طلب غودار بمحض إرادته إنهاء حياته في سويسرا التي تسمح قوانينها بالموت الرحيم) نهايةً غريبة لمصير هذا الرجل، كما لو أن المقصود منه كان إظهار خداع وخطورة مهنة السينما.
منذ الطفولة، كان غودار (1930- 2022) يتمتّع بروح قوية متناقضة تمكّن بفضلها من الإفلات من قبضة أسرته البرجوازية المحافظة، التي استشاطت غضبًا بسبب تمرده عليها، فحرمته حتى من حضور جنازة والدته. كان والداه يريدان من غودار أن يصبح محاميًا، الأمر الذي رفضه بشدّة. بدأ بدراسة الأنثروبولوجيا (علم الأجناس البشرية)، ولكنّ شغفه تحوّل في ما بعد إلى السينما، التي أصبحت عمله، والتي كرّس حياته لها بالكامل.
في المرحلة الأولى، حاول غودار جاهدًا أن تكون السينما فنًّا وإبداعًا تبرز من خلالها شخصية المؤلف. وعلى هذا الأساس، بنيت جماليات وأخلاق ما عرف بالموجة الجديدة في السينما، والتي كان غودار زعيمها بلا منازع، وكان الأكثر تشددًا بشأنها بين أنصارها. في الوقت نفسه، كان غودار يتصف بروحٍ كلّها تناقضات، فقد أعلن صراحةً، على سبيل المثال: "ليس هنالك خَلقٌ من دون تدمير، وليس من حقّنا أن نكون منسجمين متصالحين مع الواقع. علينا أن نثير الفوضى، وننطلق منها إلى البناء الجديد". لم يكن هنالك سينمائي أكثر حرصًا منه على تدمير "الأساطير الكاذبة"، وبالتأكيد لم يكن أحدٌ أكثر منه قدرةً على استعراض صورته التي بناها بصورة عبقرية وبإبداع. وفيلمه "أنفاس مخطوفة" يمثّل البيان الذي يتحدث باسم جيلٍ بأكمله، وكي لا يقع في فخّ "التيار الجارف"، قام غودار بإخراج فيلم "الجندي الصغير"، الذي يمكن القول إنه استفزازٌ سياسي تسبب في منع عرض الفيلم على الفور. استمر غودار في التصرف على هذا المنوال، وكان مفاجئًا لمعجبيه في كلّ عملٍ يقدّمه، من دون أن يلبّي يومًا توقعاتهم.





في فيلم المخرج لوتي، يتابع المشاهد آثار المراحل الرئيسة في حياة غودار، وما قاله عدد من الشهود والمشاركين في الأحداث العاصفة التي شهدها عصره، بما في ذلك زوجاته، والفنانات اللاتي لعبن أدوارًا في أفلامه، أمثال آنّا كارينا، آن فيزيمسكي، ماشا ميريل، مارينا فلادي، ناتالي باي، هانّا شيغولا، وجولي ديلبي... وفي الفيلم كثير من الأمور المثيرة: الشغف بالماوية، الاحتجاجات الطلابية في أيار/ مايو عام 1968، فترة "الإبداع الجماعي" في فرقة "دزيغا فيرتوف"، استيعاب وتطبيق التكنولوجيا الجديدة في التلفزيون، وكذلك التقنيات الرقمية، والعودة جزئيًا إلى صناعة السينما، والعمل الهائل على خلق تاريخٍ للسينما على الشاشة. كلّ هذا يتضمنه الفيلم، ولكنّ الأهمّ هو شيءٌ آخر؛ فمن خلال إدراكه الجذريّ للسينما ــ باعتبارها الشيء الأكثر أهمية بين جميع الأشياء، وحتى أكثر أهميّة من الحياة نفسها ــ استطاع غودار نفسه القيام بردّة فعل جذرية تتناسب مع إدراكه الجذريّ للسينما.
في شبابه، كان ينظر إلى سلوك غودار باعتباره سلوكًا غريب الأطوار، ليتحول في شيخوخته إلى شخصٍ مصاب بالتوحّد، غير قادرٍ على التفاعل مع أيّ شخصٍ، باستثناء تلك الحالات التي يتفاعل خلالها عبر الأفلام مع الآخرين. لقد استنزفته السينما بالكامل، ولم يتبق منه سوى ظلّ إنسان، يشبه الظلال التي تظهر على شاشات السينما.

فاردا... على التوازي مع غودار

أنييس فاردا، المخرجة السينمائية الفرنسية (1976/Getty)


ذلك لم يحدث مع بطلة فيلم "فاردا إلى الأبد"، التي كانت حياتها وعملها يتحركان بالتوازي مع غودار على وقع عصرهما المشترك.
ولدت أنييس فاردا، أيضًا، في عائلة تتمتع بكثير من الامتيازات. تولت الأمّ إنجاب كثير من الأطفال، أمّا الأب فكان يتولى إدارة مصنعٍ له في بروكسل، وكان يعامل العمال بازدراءٍ واحتقار. باختصارٍ، كان الأب يلعب دورالطاغية في العمل، وفي الأسرة، على حدٍّ سواء.
تركت أنييس المنزل مبكرًا، وكانت تتملكها، مثل غودار، روحٌ متمردة متحفزة، لدرجةٍ جعلتها تشعر بارتياح عندما تلقت نبأ وفاة والدها، خاصّةً أنّه ترك لها ميراثًا لا بأس به استخدمته لإنتاج الفيلم.





امتدّ العمر بكلّ من غودار وفاردا حتى سنّ التسعين، وكانا طيلة حياتهما منبوذَين عظيمين: تمتعا بالشهرة، وبكثير من جوائز المهرجانات، ولكنّ جائزة الأوسكار لم تجد طريقها إليهما إلّا وقد أشرفت الحياة على إسدال ستائرها(**). ومما قالته فاردا بشأن الجائزة: "إنّه أوسكار الفقراء". طيلة حياتهما المهنية لم يخرج أيّ منهما فيلمًا يمكن أن يقال عنه إنّه فيلمٌ تجاريّ.
في الستينيات، كان اسم غودار أكثر شهرةً، بالطبع ليس مقارنةً باسم فاردا وحسب، بل ومقارنةً كذلك باسم أبطال الموجة الجديدة الآخرين. كان تروفو قلقًا، سيصبح اسم غودار أكثر شهرة وشعبية من البابا نفسه، ويكاد يبلغ شهرة فرقة البيتلز. ولكنّ كلّ هذه الشهرة كانت شهرة مخرجٍ أسطوري لم تحظ أغلبية المشاهدين بمشاهدة أفلامه، وإن حصرنا النقاش على فئةٍ بعينها، وهي فئة "السينما ليست للجميع"، فإنَه يكون في إمكاننا خوض جدلٍ طويل حول مزايا وريادة هذه السينما. لقد سبقت فاردا بفيلمها الأول "Pointe Courte" عام 1955 بثلاث أو أربع سنواتٍ الاندفاعة الرسمية لموجة أفلام السينما الجديدة. غير أنّ الرجال لم يكونوا يريدون الاعتراف بأسبقية المرأة في هذا المجال، وكحلٍّ وسط تم تسجيلها في "سينما الضفة اليسرى". أمّا الآن، فقد زالت الفروقات بين غودار وفاردا، وأصبح النقاد ينظرون إليهما، مع كلّ التباينات في شخصيتهما، على أنّهما توأمان.
كان هنالك كثير من المشترك يجمعهما، أهمّه كراهيتهما المطلقة للطغيان، إذ لم يكونا يومًا إلى جانب أولئك الذين يتربعون على عرش السلطة، كما أنّهما، في الوقت نفسه، كانا يتعاطفان بقوة مع "المشردين والموجودين على هامش القانون" (وهذا عنوان أحد أفلام المخرجة فاردا). وبالفعل، لم يعرِ المخرجان اهتمامًا لعرق أو قومية هؤلاء البؤساء، فهم فرنسيون ويهود، جزائريون وفلسطينيون، لا فرق إن كانوا رجالًا أو نساءً من أيّ مجموعة عرقية، أو أيّ شخصٍ آخر. ومن العجيب أن كلا المخرجين انجذب بقوة إلى الحرية والعدالة الوهمية التي أطلقت شعاراتها في الصين وكوبا.
لم يكُن غودار مستعدًا أبدًا لبناء علاقة متساوية مع أيّ شخصٍ كان، ولذلك انتهت محاولة "التأليف الجماعي" نهايةً بائسة باءت بفشلٍ ذريع. من ناحيتها، حاولت فاردا بناء علاقةٍ متكافئة مع زوجها المخرج جاك ديمي، فكادت تنجح، ولكن الثمن كان باهظًا، وانتهى بمأساة إنسانية.
يتحدث فيلما غودار وفاردا عن الأمر نفسه: فيروس السينما يضرب الأقوياء والموهوبين بقوةٍ أشدّ وأعنف، ويسبب لهم إيلامًا أكبر، وبصورة لا يمكن التعافي من وقعها. ولكنّه مرضٌ لن يستبدله من يتأذى منه بالصحة المثالية. إنّه إدمانٌ من نوعٍ آخر!

هوامش:
(*) جان لوك غودار: مخرج فرنسي اكتسب شهرةً عالمية بتزعمه حركة الموجة الجديدة في السينما. من أفلامه المعروفة في فترة الستينيات: "أنفاس مخطوفة"، و"الجندي الصغير"، و"بييرو المجنون". ومن الفترة الماوية: فيلم "المرأة الصينية"، و"أوكيند". مُنح غودار الأوسكار الفخرية عام 2010، رغم انتقاده الشديد والدائم لهوليوود. ولكنّه رفض الذهاب لاستلامها. كان مناصرًا للقضية الفلسطينية، واتهم بمعاداة السامية.
(**) أنييس فاردا/ Agnès Varda: مخرجة وسيناريست ومصورة فرنسية (1928 ــ 2019)، تتميز بالواقعية الوثائقية، وبالاهتمام بالمسائل الاجتماعية. كانت مهتمة للغاية بالسينما التجريبية، وبالتناغم مع الحركة اليسارية. حصلت على جائزة "الدب الفضي" في مهرجان برلين عن فيلمها "السعادة"، كما حازت جائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان فينيسيا عن فيلم "بلا مأوى، خارج القانون". نالت ثلاث جوائز سيزار. وفي مهرجانات كان السينمائية 2015 منحت جائزة السعفة الذهبية. ومُنحت في عام 2017 جائزة الأوسكار الفخرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.