}

"رحلة حج هارولد فراي غير المحتملة": الخوف من الشيخوخة

سمير رمان سمير رمان 1 يوليه 2024
سينما "رحلة حج هارولد فراي غير المحتملة": الخوف من الشيخوخة
ملصق فيلم "رحلة حج هارولد فراي غير المحتملة"

 

بعد مشاهدة فيلم "رحلة حج هارولد فراي غير المحتملة"، للمخرجة البريطانية هيتي ماكدونالد/Hettie Macdonald، خرج كثيرون وقد اغرورقت أعينهم بالدموع. فالفيلم مؤثّر للغاية، كونه يزرع الخوف في قلوب كثيرٍ ممن هم في الطريق إلى الشيخوخة. وبالفعل، يشعر غالبية المتقاعدين البريطانيين والأيرلنديين خاصّة، والشيوخ في العالم الغربي عمومًا، بالقلق الشديد حول مصيرهم في سنّ الشيخوخة. إنّه لأمرٌ مريع! فأولئك يجرون مضطربين، مهجوسين بأفكارٍ نبيلة، ولكنّها أفكارٌ جنونية بعض الشيء، يطوفون بلدان أوروبا، ويتجولون عبر القارات. إنّهم لا يبالون بأيّة مخاطر، ولا توقفهم حواجز، أو صعوبات، وهم يسعون إلى الوصول إلى هدفهم المنشود الذي وضعوه لأنفسهم.
قبل ذلك، شاهد جمهور السينما فيلم "آخر حملة السلاح/The Last Gunman" للمخرج تيري لون، الذي يتحدث عن آرتي كراوفورد، وهو رجل عجوز بلغ 92 عامًا من عمره يهرب من دار رعاية المسنين وقد وضع لنفسه هدفًا: حضور الذكرى الـ 75 لإنزال قوات الحلفاء في النورماندي، والتي سبق له أن شارك فيها.
والآن، ها هو بطل فيلم المخرجة هيتي ماكدونالد، العجوز هارولد فراي (يلعب الدور الممثل جيم برودبنت)، المواطن القاطن من مدينةٍ رائعة تدعى كينغبريدج في مقاطعة ديفون الجنوبية، يخرج من منزله ليرمي رسالةً قصيرة في صندوق بريد امرأة تدعى كويني، كانت في ما مضى شريكته في العمل في مصنعٍ للبيرة. والآن، تقيم كويني في دارٍ للمسنين في مقاطعةٍ بعيدة، وتعاني من مرض السرطان الذي استفحل أمره، فأخبرها الأطباء بأنّه لم يتبق لها في هذه الدنيا سوى القليل من الوقت. وحول كلّ هذا كتبت كويني لزميلها القديم رسالةً وصلته منذ فترةٍ قصيرة. في هذه الأثناء، يلتقي هارولد بامرأةٍ تعمل أمينة للصندوق في محطة الوقود، وهي امرأة ذات شعرٍ مصبوغ بالأزرق، تغطي الوشوم جسدها. تحدثه المرأة عن المعجزات التي يمكن أن تحصل إن تسلّح المرء ببعض الإيمان، وتروي له كيف أنّها استطاعت، بفضل إيمانها، أن تنقذ عمتها المريضة من الموت. بعد أن سمع هارولد القصة، قطع على نفسه عهدًا بأن يعمل على إنقاذ شريكته السابقة، ولذلك نذر أن يسير مشيًا على الأقدام مسافة 800 كم حتى يصل إلى دار رعاية المسنين، حيث تقيم كويني المسكينة، وينقذها (بفضل إيفائه بالنذر)، على غرار ما فعلته أمينة الصندوق مع عمتها المريضة. كتب هارولد رسالةً للسيدة كويني، يرجوها فيها ألا تموت قبل وصوله، فهو قادمٌ إليها سيرًا على الأقدام، وأنّ الرحلة ستستغرق شهرين ونصف الشهر.
ليس من السهل أن نفهم كيف استحوذت تلك الرغبة الجامحة على عقل هارولد، بحيث دفعته إلى القيام بتلك الرحلة الشاقّة. يستشف المشاهد في بداية الفيلم أنّ العلاقة بين هارولد وزميلته كويني لم تكن مقتصرةً على مرافقتها في طريق العودة من المصنع فحسب، كما أخبر بذلك زوجته مورين (الممثلة بينيلوبي ويلتون). ولكنّها لم تكن في واقع الأمر علاقة تتضمن ارتكابًا للزنا. فالأمر أكثر عمقًا من ذلك. شعر هارولد أنّه ارتكب ذنبًا لا يغتفر بحقّ كويني، وأنّ عليه التكفير عنه. وللقيام بذلك، راح هارولد يخون زوجته مورين، ويهينها بشكلٍ مستمرّ، ويقوم بإذلالها بسببٍ، أو من دون سبب، وكأنّه يرى أنها كانت السبب في ارتكابه ذنبًا تجاه كويني.
قبل انطلاقه في رحلته البعيدة، يخبر الرجل زوجته بكل بساطةٍ، عن طريق هاتفٍ عموميّ، أنّه سيغيب عن المنزل مدة طويلة. وعلى الرغم من محاولة مخرج الفيلم تبرير تصرفات بطل فيلمه، فإنّ تصرفاته تبقى تصرفاتٍ غير معقولة.





انطلق هارولد في رحلته الملحمية. وإذا أردنا مقارنة ملحمة آرتي كراوفورد، بطل فيلم "The Last Gunman" بأوديسا هارولد فراي، فإنّ فراي سيفوز بالتأكيد. ففي حين كان كراوفورد يلتقي في طريق رحلته بشبّانٍ أشرار، فإنّ فراي لم يصادف إلا أناسًا نبلاء يسكنون مدنًا جميلة بقدر جمال مدينته.
رجلٌ عجوز لطيف يلتقي بفراي ويسأله في ما إذا كان قد التقى اليوم بقنفذٍ ما. يجيب فراي أنّ ذلك لم يحصل بعد. طبيبة سلوفاكية طيبة تلتقط هارولد الذي كان قد وقع على الطريق وقد نال منه التعب والإرهاق، وتأويه في منزلها. إنّها نفسها المرأة التي يرفض مواطنون بريطانيون مثل هارولد تشغيلها، اللهم سوى في المطابخ لغسيل الأطباق. (الأمر نفسه حدث في فيلم "The Last Gunmann"، حيث تنقذ سائقة شاحنة متوحشة كراوفورد من غيبوبة مرض السكّريّ). في أحد المطاعم، سيشارك زبونٌ شابّ فراي طعام إفطاره، ويشاطره أسراره الدفينة. يروي الشابّ لفراي أنّ الشائعات التي تدورحوله تقول إنّه يزور امرأة مهاجرة مرّةً واحدة في الأسبوع على الأقلّ. لا ينكر الشابّ أنّه معجب بالفعل بالمرأة، ويوضح في معرض حديثه عنها أنّ حذاءها الرياضي مهترئ، وأنّه لا يتحمّل النظر إلى هذا البؤس الذي تعيش فيه. يسارع هارولد بتقديم النصيحة للرجل، نصيحة تليق بالحكماء: "اشتر لها حذاءٍ رياضيّا جديدًا". تنفرج أسارير الشابَ عند سماعه تلك النصيحة، ويعمل على الفورعلى تنفيذ تعليمات معلّمه الجديد من دون تأخير. أمّا هارولد فأصبح يعتقد، بشكلٍ ما، أنّه معلّم بالفعل. في مقهى آخر من المقاهي المنتشرة على الطريق، يطلب شخصٌ من هارولد التقاط صورة لهما معًا، فيوافق بلا تردد على تلبية رغبة الشخص الذي بدا لطيفًا للغاية. بعد أيامٍ، تتصدر الصورة التذكارية أعمدة الصفحات الأولى في الصحافة الصفراء، وتتناقلها شاشات التلفزة عبر البلاد. ذاعت شهرة هارولد في البلاد، وأصبح من دون أن يدري مشهورًا يتحدث عنه الجميع. في البداية، فرض شابّ مدمنٌ على حبوب الهلوسة ومتشردٌ يدعى (أوبلف) نفسه على هارولد، ولكن في ما بعد راحت حشودٌ قليلة، ولكنّها حشودُ صاخبة من المعجبين، ترافقه في ترحاله. الجميع يقدّم لهارولد قطعًا كبيرة من البيتزا بالمجانّ. كما انتشرت قمصانٌ تي شيرت حمراء نقشت عليها كلمة "الحاجّ"، لتصبح موضة تلك الأيام. بلغ الأمر ذروته فكانت هتافات الحشود تعلو في كلّ مكانٍ، تصرخ مشجعةً: "فراي، هيّا، هيّا".
في لحظةٍ ما، يخيّل للمشاهد أنّه أمام فيلمٍ من أفلام السينما الساخرة الجادّة التي تسخر من المجتمع الذي تشكّله الدعاية ووسائل الإعلام القادرة على ابتلاع وطحن أيّ بادرة طيبة مجنونة.
عمومًا، يعود كلّ شيءٍ إلى طبيعته المعتادة. لن يتمّ إنقاذ كويني، وستأتي الزوجة (مورين) لتصحب زوجها المختلّ إلى المنزل. فهل استحق الأمر فعلًا قطع 500 كيلومتر سيرًا على الأقدام بكلّ صعوباتها؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.