}

عن سينما سعوديةٍ صاعِدة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 31 أغسطس 2024
سينما عن سينما سعوديةٍ صاعِدة
الهجن والهجان في مصير واحد لمواجهة رأس المال
شاركت في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي TIFF هذا العام ثلاثة أفلام سعودية: "ناقة" من إخراج مشعل الجاسر، و"مندوب الليل" (فيلم الطبقات العاملة) لِعلي الكلْثمي، و"هجّان" من إخراج المصري/ النمساوي أبو بكر شوقي.
ويتجلّى فيلم "هجّان" بوصفه تحفةً سينمائيةً عفويةَ الخواطر، مضبوطةَ الإيقاع، متناغمةَ الربط بين المكان والإنسان. بتحفّزٍ إنسانيٍّ دَفينٍ نحوَ السيرِ قُدُمًا بالاتّكاء على أغنياتِ مجدٍ قديم، يصنع الشريط خلطتَه الساحرةَ حول علاقةِ الهِجِن (الجِمال، النّوق، البِل، البَكْرة، الذّلول وأسماء أخرى كثيرة) بهجّانها (فارسها، راكبها، مروّض مسيرها، وخصوصًا ركضها في السّباقات). هي، هنا، علاقةٌ لا يفهم رموزَها، ويسبرُ أسرارَها إلا القادر على أنسنةِ كل فعلٍ يبدرُ عن بني البشر نحو بيئتهِم المُحيطة ومؤثّثاتِ كينونتِهم.
مطر (الفتى عمر العطوي الذي لم يسبق أن مثّل قبل أن يختاره المخرج أبو بكر شوقي من بين أطفال تبوك لهذا الدور البطوليّ اللافت في "هجّان") يرفض بشكلٍ مطلق استخدام العصا في ترويض ناقته (حفيرة).. يرفض أن يرى فيها  ذلولًا له.. يحادثها.. يبثّ لها أشجانه، وقد فقد، بعد فقده المبكّر والديْه، شقيقَهُ الوحيد غانم (عزام النمري)، كِفلَهُ وسندَهُ وَراعي حيرتَه.. ينظر في عيونها مباشرة وتنظر في عينيه مباشرة.. يثق بها، تمامًا كما يثق برغبته الجامحة أن يكون دائمًا في طليعة المتسابقين، مستذكرًا بحرارةٍ وإصرارٍ وإيمان، ما قيل في مدح جدّه هجّان "الصفوة" وأسطورتها: "وقّف على خطِّ النهاية وغنّى.. والجيش باقي عند خطِّ البدايات".. يريد أن يردّ الكرامة لجدّه ويثأر لدم أخيه.. يريد أن يكون الهجّان/ الفارس "الّلي تميّز في جميع السباقات.. الياركب من فوق حرّه وغنّى.. أسرع من البارق ولا بها الفْلاشات.. كل الرْكاب اللي بدربَه ثنّى.. ما كنّها تركض على المَاد عجْلات.. من طيب راسَه حقق الّلي تمنّى.. ويحقّقه لو عيدَ لَهْ عشر مرات.. هذا هو الهجّان هذا مثلنا"، نعم يريد أن يكون مثل كل هجّانة ربعهِ ممّن لا تدوّن أسماءهم في سجل شرف سباق "الصفوة الكبير" (أحد أهم سباقات الهِجِن في السعودية، ويبدو أنه فقد اليوم اسمه القديم، واستعيض عنه بمهرجان ولي العهد، وكأس العُلا للهِجِن!)، وأن يهتف له الجمهور العاشق ما يزال لسباق الهِجِن "هذا هو الهجّان.. هذا مثلنا". يسأل مطر مالك الهِجِن عابد السعدي (الممثل إبراهيم الحسّاوي بدورٍ لطيف): أين اسم جدّي؟ لماذا تدوّن أسماء المالكين ولا تدوّن أسماء الهجّانة (الراكبين للرّكايب)؟ جدّي هو الذي تغنّت به القصائد.. وهو الذي وقفَ على خط النهاية بينما الجيش (باقي المتسابقين) كان ما يزال عند خط البدايات.. حوارٌ يعكس جرأةَ مشهودةً في طروحاتِ الشريط، وتسجّل للفيلمِ ومخرجهِ وكاتبيْه: السعودي مفرج المجفل والأردني عمر شامة.
يربط مطر، إلى الأبد، مصيرة بِمصير بَكْرته/ ناقته "حفيرة"، لا يبرحها، يلاحقها حين باعوها رغمًا عنه، يستعيدها، يركض معها، ويركض من أجلها، ويركض لأنه فوقها، ولأنها تحدُب عليه ويحدُب عليها، كيف لا "والهِجن معشوقة الهجّان.. واللي تعلّق ابْها يدري".. كيف لا و"يا هاجسي باعذب الالحان.. جرّ اللحن واللحن يسري".

الهجن معشوقة الجماهير 

في الفيلم يدهشك إلى أبعد الحدود أن كل شيء في مكانه: الإضاءة العامرة بالواقعية وتمثُّل الزمان والمكان، الموسيقى التي أبدع التونسي الفنان أمين بوحافة في تأليفها وتوليفها وتمثّل أجواء الفيلم في كل جملة منها.. الكوادر المعبّرة عن روح الجغرافيا الممتدة من وادي رم جنوب شرق الأردن والحِجِر (مدائن صالح) في محافظة العُلا شمال غرب السعودية، وهي جغرافيا تمتد على مساحة تقترب من 500 كيلومتر، وتحضن مفرداتٍ زاخرةً من حكايات الحجر، وهمَسات الرمل، وإطْلالات القمر، ونُتوءات الزّمن. الأداء الذي يتدرّج من الفطري الأصيل كما في أداء مطر (عمر العطوي أو العطاوي)، إلى المحترف المكين كما في أداء كل من جاسر (عبد المحسن النّمر) وسارة (شيماء الطيب)، إلى الشفيف المقنع كما في أداء مجد (تولين بربود). السيناريو المتقن، والحدُوتة المقنعة، والتنوّع المدروس بين الإيقاع البطيء الذي يتلوه، قبل أن يفكّر المتلقي، مجرّد تفكير، بِالتّململ، إيقاعٌ سريعٌ صاخبٌ هادرٌ تتصاعد خلالَه حركة الكاميرا وتَتناوب تبدّلات تبْئِيرها.
تغيب في اسم الفيلم (ألْ) تعريف الهجّان، وهو، على صعيد المحتوى، ليس غيابًا من دون دلالة وإِشارات.. فهو مجرّد هجّان.. كائنٌ لا يكاد يُرى فوق النُّوق المعدّة لِسباقات السرعة من أصول عُمانية أو سودانية أو هجينة.. هو، مع هِجنه، المحرومان من التدوين في سجل شرف السباقات جميعها.. هو من (عشيرة) تواسي نفسها بالقول: "كنّا هجّانة.. واليوم هجّانة.. وللأبد".




يتناول الفيلم في بندٍ من بنودِ سرديّته هَوَسَ الرياضات عمومًا، وفي حالة الفيلم هَوَسَ سِباقات الهِجن.. كما يسلط الضوء على المسعى المستميت بحثًا عن النّاموس ونيلًا له (مفردة محكية سعودية معناها المجد والفخر وبلوغ القمة وهو ما يتحقق بعد الفوز بسباق الصفوة الأهم بين سباقات الهِجن السعودية جميعها، وعلى شاكلتهِ سباق المؤسِّس في قطر، وسباق الوثْبة في الإمارات).
بين الناموس بحسب معناه في الدّارجة السورية؛ أي القيم والعادات والسّوادي والعُرف والشّريعة، وبين الناموس بحسب ما جاء معناه في الفيلم (المجد والقمّة)، تتحرّك آفاق الشريط نحو إيصال رسائل ليست قليلة، من دون أن يأتي المعنى على حساب المبنى أو العكس.

"شهْد"
مثل أغنيةِ حُبٍّ طالعة من عروق الصخر النابت في وِهاد العُلا كأنه قصص الزمان، يكرجُ فيلم "شهد" كرْج الحَجَل.
من فكرةٍ عذبةٍ يبني الشريط الذي يحمل اسمًا أميركيًا The Lamb سرديّته متكئًا كما في عدد من الأفلام السعودية الجديدة على بطولة طفل صغير، حيث يقدم الطفل فيصل (الطفل عبد العزيز القحطاني في أداءٍ آسرٍ شابْته بعض المدرسية التي تتحمّل مخرجة الفيلم الأميركية آشلي آفز مسؤوليتها). المفارقة هي أن الكاتب أيضًا أجنبيّ: جو روجرز، فهل كتب النص باللغة الإنكليزية وجرت ترجمته إلى العربية؟ وهو، على كل حال، المرجّح.
الفيلم، إجمالًا، من النوع الخفيف، المعتمد على عذوبة الحركة والأجواء. كما أنه يحمل بعدًا  سياحيًا باحتفائهِ بمختلف تنوّعات الجغرافيا السعودية من الصحراء إلى مسارات الجبال وتلوّنات الصخر إلى أبراج المدينة وناطحاتها وصخبها. وفيه روح أسرية (الفيلم عائلي بامتياز).. ووجدانية.. الطفل يفقد أمه وهي في ريعان الشباب بسبب المرض العضال.. ويتعلّق بصديقته النعجة "شهد" في مواصلة سينمائية سعودية لإقامة علاقة شاعرية مع الكائنات من حولنا. يُفْشِل صفقة بيعها.. يهرب بها ومعها إلى الرياض المدينة التي كانت تحلم أمّه الراحلة أن تستقر فيها بعيدًا عن وحشة القرية وملالَتها. شاعريةٌ تكسر تقاليد القرية الصارمة.. وتمنح المُشاهد خلال دقائق الفيلم البالغة 85 دقيقة دفئًا خاليًا من المقاصد.. بتلقائية تشبه تلقائية فيصل في تعامله مع نعجته التي حرصت المخرجة أن تكون صغيرةً وديعةً بيضاءَ من غير سوء.. حتى لَتكاد تشعر أنها نعجةٌ مُستنسخة أو نعجةُ ذكاءٍ صناعيّ!

"طريق الوادي"
الفَراشة التي ظل علي يلاحقها في كثير من مشاهد الفيلم، وأقام معها حوارية خاصة ليس فيها حروف الكلام، وظل يتابع مختلف مراحل تخلّقها من البيضة إلى اليرقة إلى الشرنقة إلى الطيران، حلّقت في فيلم "طريق الوادي" تأليف وإخراج خالد فهد فوق الأطر التقليدية لِحكايات الأفلام وقصص الشاشة.

بادية الحجر في العلا حيث أحداث الفيلم 

وكما في الفيلميْن السابقيْن بنى الفيلم عصب أحداثه على قصة طفل أعجزته حادثة ما عن النطق فاكتفى بالمشاكسة والركض في أجواء القرية وبين محلاتها الشعبية وبيوتها الملوّنة، مقيمًا علاقة منطقية مع فراشها ودجاجها ونعجة صغيرة شهباء يسمّيها "كيارا"، إضافة إلى علاقة إشارات وأداء مشهديات، بين فيصل وبين صبية تواصل مراقبته من فوق سطوح بيتها المقابل لِبيته.
يقول حكيم الفَلاة لِعلي: "وما أدراك يا علي.. لعلّ المتعة تكون بالطريق وليس بالوصول".
فيلم عن ظَرافة الناس.. وجانبِهم الكوميديّ الطريف.. عن حاجات الطفولة.. والتّناغميةِ الساحرةِ بين مفردات الوجود.
ثلاثة أفلام سعودية تُلقي جميعها، أساسًا، ضوءًا باتعًا على تجليات العلاقة بين البشر والحيوانات الأليفة.. وتحرصُ ثلاثتُها على كسر مألوفٍ ما.. أو زحْزحة (تابُو) من تلك (التّابوهات) التي ربَضت على صدورِنا مئات السنين رافضةً أيَّ زحزحةٍ، أو انْحياز.    

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.