}

عن عروض نادي السينما في "شومان": "لون الفردوس" مثالًا

أحمد طمليه 4 أغسطس 2024
سينما عن عروض نادي السينما في "شومان": "لون الفردوس" مثالًا
مشهد من فيلم "لون الفردوس"

أكثر ما يثير الاهتمامَ في عروض نادي السينما التابع لمؤسسة شومان في عمّان، أنَّ النادي لا يرتهن أبدًا في عروضه على عرض الفيلم الأحدث إنتاجًا بل الأجود فنيًّا، الذي فيه قيم فكرية تجعل من السينما ليست وسيلة تسلية بل ثقافة تشرح الذات البشرية، وتركيبة المجتمعات لإثارة المشاهد ذهنيًّا وفكريًّا، وجعله يفكِّر بما يثيره الفيلم من دلالات، على النحو الذي ينعكس، بشكل إيجابي، على وعي المشاهد وفكره، وفي هذا السياق، فقد تضمَّن برنامج العروض لهذا النادي لشهر آب/ أغسطس الحالي أفلامًا يعود إنتاجها إلى خمسينيات القرن الماضي.
اللافت أنَّ هذا التوجُّه الذي يبدو مستهجنًا للوهلة الأولى بسبب افتراض أنَّ المشاهد يبحث عن الأحدث إنتاجًا، يؤكِّد عامًا بعد عام من عمر النادي، الذي يقترب حاليًّا من إتمام عقده الرابع، يديره بثقة الناقد السينمائي عدنان مدانات، بمشاركة عدد من النقاد السينمائيين الأردنيين، يواصل نجاحه المتتالي، فعروض النادي التي تقدَّم بمعدَّل فيلم كل أسبوع، تلقى تجاوبًا منقطع النظير، في كثير من الحالات، لدرجة أنَّ النادي يضطرُّ، أحيانًا، إلى عرض الفيلم مرتين في المساء الواحد لاستيعاب أعداد الراغبين بمشاهدة الفيلم.
واللافت أيضًا أنَّ هذا الإقبال الجماهيري يدلُّ على أنَّ المشاهد لم يعد لديه استعداد لأن يجازف لمشاهدة فيلم حديث، من دون وجود وسيط يحظى بالثقة، يؤكِّد له أنَّ الفيلم المنوي عرضه يستحقُّ المشاهدة، إذ إنَّ أي مجازفة من هذا النوع قد تعني إضاعة وقت المشاهد بمشاهدة فيلم لا يستحقُّ المشاهدة، وإذا كان الفيلم الجيِّد يعود بالفائدة الفكرية للمشاهد، فإنَّ مشاهدة الفيلم السيِّئ لها تداعياتها السلبية على المشاهد، خاصة وأنَّ أغلب الأفلام الحديثة الدارجة، تعاني من أزمة واضحة في الفكرة وكيف يتمُّ التحايل على ذلك بزخم الإنتاج والاستعانة بالنجوم، وتقديم معالجات سينمائية لرؤى لها علاقة بالخيال العلمي، والرعب، وتحدِّي الطبيعة بمواجهات مع الزلازل والبراكين، وغير ذلك من الأفلام التي قد تبهر ولكنَّها لا تقنع، أبدًا، ناهيكم عن ركاكتها المرتبطة بحسم الخلاصة، سلفًا، لصالح تغلُّب البطل، في النهاية، على كافة المصاعب والكوارث.
لقد أصبح المشاهد يبحث عن الأفلام التي تتطرَّق إلى ما هو أعمق وأشمل من ذلك، ألا وهو المشاعر الإنسانية التي لا يستطيع أن يفصح ويعبِّر عنها برؤى سينمائية إلا المبدع الحقيقي الذي يستعيض عن زخم الإنتاج بالفكرة الحيَّة، وعن الوجوه اللامعة بالوجوه البسيطة الموجودة فعلًا وليس تصنُّعًا على أرض الواقع.
يستوقفني، في هذا السياق، من ضمن عرض نادي السينما، الفيلم الإيراني "لون الفردوس" للمخرج ماجد الماجدي، إنتاج 1999، الذي عُرض في صالات السينما الأميركية واعتُبر، في حينه، واحدًا من أهمِّ عشرة أفلام عُرضت في ذلك العقد، حتى أنَّ سيِّدة أميركية دأبت، في أثناء عرض الفيلم، على شراء تذاكر إضافية، وحين سُئلت عن سبب ذلك ردَّت بالقول: "من أجل تشجيع إنتاج وعرض مثل هذه النوعية من الأفلام".
فكرة الفيلم بسيطة تتحدَّث عن أب في منتصف العمر لديه ابن عاجز بصريًّا يقيم في أحد دور الرعاية الخاصة في المدينة، ويقطن الأب وابنتاه الصغيرتان ووالدته في القرية، حيث يعتاشون من خلاصة الأرض وتربية الدواجن والحيوانات، إضافة إلى عمله، أي الأب، في مناجم الفحم. تتَّضح معالم الأزمة بالفيلم من المشهد الأوَّل، حيث الابن الضرير ينتظر والده في بداية العطلة لأخذه إلى بيته في القرية، غير أنَّ الأب لا يجيء في الوقت المحدَّد، وحين يصل متأخِّرًا يجده يتوسَّل إدارة المدرسة أن تُبقي ابنه لديها خلال العطلة، وهذا ما هو متعذِّر حيث أنَّ المدرسة تقفل أبوابها خلال العطلة، فيضطرُّ الأب لأن يعيد ابنه الضرير إلى القرية.
يتَّضح من سياق الأحداث، لاحقًا، أنَّ الأب يعاني من أزمة منتصف العمر، ويحلم بأن يرتبط بفتاة من إحدى القرى المجاورة، ويخشى أن تتسبَّب إعاقة ابنه بإبطال مشروع الارتباط إذا عرف أهل البنت بإعاقة ولده، فيأخذه إلى منجرة يديرها نجَّار شاب ضرير في بلدة أخرى ليقيم فيها بشكل دائم بحجَّة تعلُّم مهنة، ليتسنَّى له إتمام مراسم الزواج، غير أنَّ خبر إعاقة الابن يتسرَّب إلى أهل الفتاة فيعيدون له هداياه ويعتذرون عن طلبه.




في هذه الأثناء، ونظرًا لغضب الجدَّة من موقف ابنها من حفيده، يذهب لإعادة ابنه الضرير إلى البيت، وفي طريق العودة يحدث الموقف الذي يضع الأب على المحكِّ وليكتشف من خلاله أنَّه مستعدٌّ لأن يضحِّي بحياته من أجل ابنه، وأن يواصل العضَّ على جرح وحدته وعزلته، لقاء دفء إحساسه بأبوَّته لابنه. ويتجلَّى ذلك في مشهد ساحر نرى الأب فيه يتقدَّم الحصان الذي يحمل الابن الضرير ويمرُّ من فوق جسر خشبي يعلو نهرًا هادرًا، وفي اللحظة التي تصل بها قدما الأب إلى اليابسة يتحطَّم الجسر الخشبي ويسقط الحصان والابن الضرير في مياه النهر شديدة الانحدار، التي تبدو من شدَّة جريانها ومنعطفاتها وتراكم الصخور فيها أن لا حياة ممكنة لمن يقع فيها:
يقف الأب للحظة باحثًا عن ابنه وسط المياه ثمَّ يندفع، بدون تفكير مسبق، قافزًا في النهر، مجازفًا بحياته في مقابل إنقاذ حياة ابنه. وبعد لحظات عصيبة نرى الأب ممدَّدًا على حافة النهر، وبمجرَّد أن يفيق يبحث بعينه عن ابنه فيراه ممدَّدًا على بعد أمتار منه، فيذهب إليه لاهثًا ويأخذ الأب ابنه بالأحضان: يجهش الأب في البكاء فيما يبدو الابن جاثمًا بلا حراك، وفي لحظة يشعُّ نور من السماء إلى يد الابن الممدَّدة على ظهر والده، فتتحرَّك أصابع يد الابن في إشارة إلى العناية الإلهية به.
إنَّ الحبكة التي يطرح من خلالها الفيلم ما هي إلا وسيلة للكشف عن أعماق النفس البشرية حين تتفاقم الأزمات في ظلِّ القهر، فتنصهر المعاناة وتتحدَّد بموجب ذلك الأولويات: أولوية الابن الضرير أن يعيش الحياة بمقدار إحساسه بها، وأولوية الأب أن يجد في إحساس الأبوَّة مخرجًا من أنينه الذاتي، وأولوية الوالدة العجوز أن تموت بفراشها كما تحلِّق الملائكة، وأولوية الطبيعة في أن تكون طرفًا فاعلًا في الحياة وليس "بوسترًا" ملصقًا على الهامش. وقد نجح الفيلم في صهر المعاناة دون أن ينحاز لأحد فبدا الأب صادقًا في التعبير عن معاناته في المشهد الذي ضمَّه ووالدته تحت المطر، وهو يرجوها أن تعود إلى البيت بعد أن قرَّرت المغادرة اعتراضًا على تصرُّفات ابنها مع حفيدها الضرير. كان صادقًا وهو يتحدَّث بلسان الأنا فيرثي حاله، ويشكو عطشه المبرَّر للحبِّ والاستقرار والشعور بالدفء، غير أنَّ هذه الأنا ما تلبث أن تنصهر كاشفة عن جوهر الحقيقة وذلك حين يجد الأب ملاذه في احتضانه لولده فلذة كبده. والابن الضرير كان تلقائيًّا في تشبُّثه بالحياة، لدرجة تثير قشعريرة المشاهد، وخاصة في المشهد الذي يلتقي فيه والده في باحة المدرسة فتسقط من عينه دمعة ساخنة تحرق قلب الأب. والوالدة العجوز هي الضمير، والطبيعة هي الإطار العام.
ولإيفاء الفيلم حقَّه في العرض لا بدَّ من ربط عنوانه بمضمونه، فالعنوان: "لون الفردوس"، يدلُّ على ما يريد أن يصل إليه المخرج على صعيد التعمُّق في الأحاسيس والمشاعر وصولًا إلى ما يمكن أن يطمئن الفرد ويصالحه مع نفسه في النهاية، بالإيمان، من خلال شعاع الضوء الذي برز في السماء في المشهد الأخير أنَّ ثمَّة فردوسًا داخل كلٍّ منَّا مهما ضاق بنا الحال. وكان المخرج قد قدَّم قبل ذلك مشهدًا مبهرًا يدلُّ على طمأنينة المؤمن وذلك حين صوَّر اللحظات التي تلفظ فيها الوالدة العجوز أنفاسها الأخيرة حيث علت وجهها ابتسامة وشعَّ في عينيها نور وبدت ملامحها كأنَّها في ريعان الشباب، أشبه بالحمامة التي تحلِّق خافقة بجناحيها نحو بارئها. وتجلَّت جمالية المشهد بالضباب الذي شيَّع روحها للسماء واكتست ببياضه الأجواء، وامتدَّت عبر المسافات لتصل برحيقها إلى الحفيد النائم في مهجعه في محلِّ النجارة البعيد، فيصحو الحفيد، ويتسلَّل إلى الخارج مشاركًا في تشييع روح جدَّته.
سحر فيلم "لون الفردوس" يكمن في قدرته على تلخيص أزمة الوجود وطمأنينة الروح بلغة بسيطة ولكنَّها مبدعة لا تتمكَّن منها أعتى السينمات بكلِّ بذخها وزخمها وتقنياتها. ومن الجدير بالذكر، أنَّ الطفل الذي أدَّى دور الضرير هو ضرير فعلًا، وقد أبدع في تجسيد دوره، وباستثناء دور الأب الذي جسَّده ممثِّل محترف، فإنَّ بقية الممثِّلين هم من الناس البسطاء الذين يقفون أمام الكاميرا لأوَّل مرَّة. وقد عُرض الفيلم ثلاث مرَّات متتالية ضمن عروض نادي السينما في مؤسَّسة شومان ولاقى في كلِّ مرَّة حضورًا منقطع النظير.
يبقى القول من ضمن ما أوحى به الفيلم: ليس مطلوبًا من المخرج أن يقيم الدنيا ويقعدها من أجل القول إنَّ لديه ما يطرحه، إذ يكفي أن ينجح في التعبير عن أحاسيس الناس.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.