}

الملح.. أساس نكهات الطعام في الماضي والحاضر

شذى تيسير النجار شذى تيسير النجار 12 ديسمبر 2021
إناسة الملح.. أساس نكهات الطعام في الماضي والحاضر
سبخة ملح في مركانام على الساحل الشرقي للهند (22/1/2017/Getty)

هل شعرت يومًا وكأنك تمضغ طعامًا وعقلك يتساءل أين طعمه؟ لسانك متأكد أنه يفتقد لعنصر ما. عندها، تذهب يدك مباشرة إلى وعاء الملح الموضوع دائمًا على المائدة، فهذا العنصر الداعم لجميع النكهات يتفاعل معها برقة تامة ليترك أثرًا كبيرًا يجعلك غير قادر أبدًا عن الاستغناء عنه، أو حتى العثور على بديل منه.
وعندما يدور الحديث حول أضرار الملح، وتأثيره السلبي عند استخدامه بكثرة، نتساءل إن كانت هنالك أنواع أخرى من الملح غير ذلك الذي نستخدمه على المائدة، أو حتى إن كانت له استخدامات أخرى غير معتادة، وهل وجوده ضرورة عند الإنسان فقط؟
مرةً، كنت أشاهد فيلمًا وثائقيًا عن حياة الفيل. وفي أثناء رحلته السنوية، بدأ بتكسير الصخور ليستخرج منها الأملاح التي كان من الممكن أن لا يستكمل رحلته إن لم يحصل عليها. فالملح عنصر يلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على دورة الحياة في الأرض، والحفاظ على صحة الإنسان، الحيوان والنباتات أيضًا.
بدأ تاريخ الملح منذ عام 6050 قبل الميلاد في الصين، حيث تم العثور عليه في موسم الجفاف. ومع تبخر المياه من البحيرة، انكشف الملح. أما المصريون فحصلوا على ملحهم من مستنقعات النيل، وابتدأت نكهة التاريخ تظهر. الرواسب الجوفية كانت بعيدة المنال، والملح المتناثر على السطح غير كافٍ. لا يمكننا صنع الملح في أجسادنا، لذلك كان على البشر أن ينظروا إلى بيئاتهم لسد الحاجة، فقاموا باتباع مسارات الحيوانات للوصول إلى رواسب الملح. لم يقتصر دور الملح على إضفاء النكهة على الطعام، بل أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على الدول من الناحية الاقتصادية والسياسية، وحتى السياحية. أصبح من الممكن نقل الطعام مسافات كبيرة. وعندها، بدأت تجارة الملح تحيي المنطقة، فالملح يساعد على تخزين الطعام، بتمديد فترة صلاحيته، لأن الصوديوم يقضي على الرطوبة المسببة للبكتيريا في الأطعمة، يجففها ويسمح بتخزين الأغذية من دون تبريد لفترات طويلة من الزمن. وبذلك أصبح في إمكان المزارعين قطع مسافات كبيرة أثناء نقل منتجاتهم. هذا ساعد ذلك في تقليل الاعتماد على التوافر الموسمي للغذاء. كما ساهمت قدرة الملح على الحفاظ على الطعام في تأسيس وتطوير الحضارات، ليصبح أحد السلع التجارية الرئيسة في العالم.
ومع ذلك، كان من الصعب الحصول على الملح، فندرته جعلته ثمينًا، كما لو أنه عملة نقدية. كان التجار، وبشكل روتيني، يتبادلون أوقية الملح مقابل أوقية الذهب، وأصبح راتب الجندي يتكون في جزء منه من الملح الذي سمي (Solarium argentum) في اللاتينية، واستمد من sal : أي ملح. ويقال إنه في اليونان القديمة كان يتم شراء الرقيق بالملح، ومنه يتم تداول عبارة "لا يستحق ملحه" في أيامنا هذه.




عُدَّ الملح مصدرًا أساسيًا في الخزينة القومية لفرنسا، وتم فرض الضريبة المعروفة باسم "غابيل"، وهي ضريبة ملح فرنسية مكروهة فُرضت في عام 1286، واستمرت حتى عام 1790. وبسبب غابيل، كان الملح الشائع ذا قيمة عالية، لدرجة أنه تسبب في تحولات اجتماعية كبيرة، ونزوح داخلي. جذب الغزاة، وتسبب في الحروب، وأدى إلى ثورة شعبية ضخمة تم بها قتل الحاكم، وإلغاء الضريبة.
والملح مركب أيوني مكون من أيونات الصوديوم والكلوريد، لا يجعل طعامك أكثر مذاقًا فحسب، بل إنه ضروري بالفعل مدى الحياة؛ تساعد أيونات الصوديوم الجسم على أداء عدد من المهام الأساسية، بما في ذلك الحفاظ على السوائل في خلايا الدم، ومساعدة الأمعاء الدقيقة على امتصاص العناصر. وأكثر أنواع الملح صحة هي الأقل تكريرًا، مع عدم وجود مواد حافظة، وبالتالي تكون أكثر ملوحة، فيتم استخدامها بكميات أقل من الأملاح المكررة. مثلًا، ينصح الطهاة المتخصصون في الطعام الصحي باستخدام ملح الهيمالايا الصخري، كونه أقل تكريرًا، ويتوافر للجميع. أما الذواقة وخبراء المطابخ العالمية المهمة فيلجؤون إلى استخدام زهرة الملح، قليلة الصوديوم، وكثيرة البوتاسيوم، ومن خصائصها الجيدة أن استخدامها بكميات قليلة تضفي طعمًا مميزًا يوازي استخدام كميات كبيرة من الملح. وزهرة الملح يتم حصادها يدويًا، وتسحب بلورات الملح الرقيقة من سطح الماء بدقة ورقة عند هدوء البحر بشكل كامل، تمامًا كما القشدة من الحليب الطازج. وتعد من أغلى أنواع الملح بسبب شحها، وحصادها كثيف العمالة، إذ يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد منها من 40 إلى 200 دولار، مما يكسبه لقب كافيار الملح.
في اللغة، يُطلق على الإحساس الجزئي الذي ينتج من تناول الطعام "مذاق"، وذلك عمل حاسة الذوق، وبالأخص اللسان، ويُحدَّدُ مذاق الشيء بخمس خصائص (حامض، حلو، مالح، مر، وأومامي)، ويستخدم مصطلح "النكهة" للإشارة إلى الإحساس الكلي.

مشروع لتبخير الملح أصبح موقعَ جذب سياحي شهير قرب مدينة كوسكو في البيرو (Getty)




يأتي "الانطباع الإحساسي" بالطعام، وهو المسؤول عن تمييز النكهة، من حاستي التذوق، والشم، ومن الجهاز العصبي. لدى الدماغ القدرة على استيعاب آلاف النكهات، وربطها بالذاكرة. يختلف مستوى الإحساس بالملح عند البشر، فيكون طعمه لطيفًا عند بعضهم، وغير سار عند بعضهم، ويرجع ذلك جزئيًا إلى جيناتنا. ولكن التأقلم يحدث أيضًا وفقًا لعاداتنا الغذائية الطبيعية.

يحتوي الملح على خصائص تطلق جزيئات الطعام في الهواء، مما يمنح الطعام رائحة، كجزء لا يتجزأ من النكهة؛ إذا سبق لك أن أكلت طعامك المفضل وأنت تعاني من الرشح، فستعرف مدى أهمية الرائحة.
يسلط الملح أيضًا الضوء على المذاقات المختلفة التي نراها في طعامنا، ويحد من المرارة، لكنه يعزز الحلو والحامض والأومامي، مما يمنح الأطباق الحلوة والحامضة طعمًا ثنائي الأبعاد أكثر، وبتركيزات أعلى. يقلل الملح أيضًا من كمية المياه غير المقيدة، المعروفة باسم "النشاط المائي"؛ وهذا يؤدي إلى زيادة نسبية في تركيز مكونات النكهة الأخرى عن طريق تحسين رائحة ومذاق وسُمك الأطعمة.
ولأن الملح مسؤول، وبشكل رئيسي، عن الخصائص الحسية لكل طعام يستهلكه البشر تقريبًا، يلجأ بعض الطهاة إلى حيل عديدة، أحدها إضافة الملح إلى سطح الأطعمة، بدلًا من خلطها. نهج آخر استخدمه الطهاة لجعل الملح يذوب بكفاءة أكبر حتى يضربك الطعم بشكل أسرع، حيث يلتقي الملح باللعاب بسرعة أكبر. هذه الحيلة تتيح للملح أن يذوب في اللعاب في وقت أقل من المعتاد، مما يزيد من الملوحة من دون الحاجة إلى استخدام كمية أكبر من الملح.
أما الحيلة الثانية فهي التلاعب بالنكهات، حيث لجأ بعض الطهاة إلى تدخين الملح ليمنح الطعام رائحة، وبالتالي نكهة تعمل على مفاجأة الحواس، فترتبط بالذاكرة إلى الأبد.




استخدم الملح منذ القدم كعلاج خارجي فوائده عظيمة، كونه يزيل الطاقة الزائدة والسلبية من الجسم، بالإضافة إلى أنه علاج لكثير من أمراض المفاصل والعظام. وفي حالة الشعور بإجهاد مزمن، أو أعراض تعب بلا أي نتائج طبية، أو آلام لا مبرر لها، أو حتى ضيق مفاجئ، يتم تجربة الاستحمام بالملح والماء. هذه الميزة جعلت بلدانًا عديدة تتحول إلى محطات للسياحة العلاجية، لعب فيها الملح دورًا مهمًا في الاقتصاد السياحي.
وبالحديث عن السياحة التي ارتبطت ارتباط وطيدًا بالملح، يجب التطرق إلى مدينة "توزلا" في جمهورية البوسنة والهرسك. توزلا تعني مدينة الملح، حيث "توز" تعني الملح في اللغة التركية. تحتوي توزلا على بحيرة الملح الوحيدة في أوروبا التي يزور شواطئها أكثر من 100 ألف شخص كل عام، لتكون بذلك مقصدًا سياحيًا دوليًا.
استعمل الملح في العناوين والأمثال الشعبية، وكان له عدد من المعاني الاجتماعية أضفت عليه أهمية رمزية ودلالية، كما ذُكر في كتاب "مذاق الزعتر.. ثقافات الطهي في الشرق الأوسط" (شارك في وضع مادة الكتاب 15 من الباحثين والأكاديميين في أنحاء العالم كافة، وصدر عن دار "كلمة" في أبو ظبي عام 2009، بترجمة عبلة عودة)، حيث يقول الكاتب: "يعد استعمال الخبز، ولا سيما إذا ارتبط بالملح، دالًا على الصداقة والمشاركة، ورمزًا متطورًا في الأعمال الأدبية العربية الواقعية. وقد استفادت كثير من الأعمال الروائية والقصص القصيرة من ثراء هذه الرمزية، لذلك فكثيرًا ما نجد أعمالًا أدبية عربية تحمل عناوين تتعلق بالخبز، مثل مجموعة القصص القصيرة "عيش وملح"، التي أطلقت عددًا من الكتاب الموهوبين، وكان قد كتب مقدمتها الكاتب المصري المعروف يحيى حقي".
أما بالنسبة للسجين، فيعد الملح هو المنجي الوحيد من الموت جوعًا في سجون الاحتلال، عندما يعلن إضرابه عن الطعام لمئات الأيام ليتحقق مطلبه بالإفراج عنه.
هذا، وأكثر، كان استهلالًا فقط للحديث عن هذا المكون، الحديث الذي لن ينتهي أبدًا، فقد أضاف الملح نكهة ليس إلى طعامنا، فقط، بل للتاريخ أيضًا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.