}

في حضرة أبي

شذى تيسير النجار شذى تيسير النجار 19 فبراير 2022
يوميات في حضرة أبي
تيسير النجار
(في ذكرى عام على رحيل أبي.. تيسير النجار)


الطقس بارد، فالثلوج قد كست البلاد. الساعة الثانية ليلًا أتاني خبر وفاتك. مرت في خاطري 25 عامًا قضيتها معك، كنت فيها أبًا ومعلمًا وصديقًا. لم أرك يومًا تتململ، أو تتقاعس عن أداء دورك في الحياة، أبًا لي ولأختي قمر الزمان وإخوتي الثلاثة عون وإبراهيم ويوسف، وزوجًا وحبيبًا لوالدتي الغالية، ماجدة الحوراني، ومعلمًا للشباب في الصحافة. كنت تسعى لتطعمنا من الرزق الحلال، أنت الذي ظُلمت في داخل البلاد وخارجها. الألم كان يدوي في قلبك أيام السجن، وعند خروجك، وفي آخر أيامك.
تذكرت طفولتي عندما تبدأ الدراسة؛ كيف كنت تأخذنا أنا وأختي لنشتري الدفاتر والأقلام؛ كيف زرعت فينا حب العلم، ليظل إلى الآن أكثر ما نحبه هو المكتبة؛ كيف كنت تدافع عن طفولة قمر المشاغبة في المدرسة، وتقول للمعلمات ليس على الطلاب أن يكونوا نسخًا من بعضهم بعضًا، وكيف قضيت مع إخوتي أجمل لحظات طفولتهم في اللعب والضحك، وتعليمهم كيف يكونوا سندًا لبعضهم بعضًا، وكيف كنت معلمًا وسندًا لوالدتي.
قبل خمسة أيام من وفاتك، في تلك الجلسة العائلية في المساء، جمعتنا أنا ووالدتي وإخوتي، لتودعني قبل السفر. جلسنا حول المدفأة، وناقشت معي ما عليّ أن أقوم به في الأيام المقبلة لأكون أفضل مما أنا عليه الآن. قلت لي: سنبقى على تواصل بالتأكيد يا ابنتي. وفي الصباح، ودعتني على باب البيت. نزلتُ الدرج وأنت تنظر لي، وكأنك تعلم أنني لن أراك ثانية.


***

معصوب العينين، مكبل اليدين والقدمين، يحمل له المحقق سماعة الهاتف، ويقول: قل لها إنك بخير، وإنك سوف تخرج قريبًا. مع إجابة الهاتف، اغرورقت عيناه بالدموع، إنها زوجته. مر 70 يومًا لم يسمح له فيها بالحديث معها، 70 يومًا أليمًا لم يستطيع حتى أن يحدثها لتشاركه آلامه. أنا بخير، لا تقلقي، وأسهب في البكاء. هي زوجته حبيبته التي شاركته المر قبل الحلو. تستطيع معرفة إن كان بخير، أو لا، من دون حتى أن يقول. هل تعلمين أين أنا؟ يقولون لي إنني وراء الشمس، أنا معصوب العينين، لم يكمل العبارة. أغلقوا الخط.
بعد أيام عدة، نقل إلى سجن الوثبة، وإلى عنبر الأمنيين رقم 9. يقول رفيقه، الأستاذ معاوية الرواحي، من عُمان، كُنتُ وقتَها في متن قصتي بكل أسانيدها الغائبة، والغامضة. أمضغُ الوقت محاولًا ابتكارَ كل ما يمكنُه أن يجعل أيام عنبر تسعة أخف وطأة، وأجدى عزاءً. إسمنتٌ رمادي، يشبه الهواءَ، وعدوى البكتيريا، والتهابات العيون، والتصميم الرديء والقديم لسجنٍ طارت الأخبارُ عن أبرز عنابره الخطرة، عنبر الإعدام، والعنبر رقم (9)، حيث التقيت بتيسير النجار للمرة الأولى.
بعد ذلك، كانت تنقل والدتي للإعلام مجريات المحاكمة التي حدثت بعد عشرة أشهر من سجن قسري، منها 3 أشهر في التحقيق بالانفرادي، انتهت بحكم بالسجن لمدة 3 سنوات، وغرامة 500 ألف درهم إماراتي، وكثير من البؤس والظلم الذي شكاه والدي للّه حين نشر فقال: "لا أنسى ملامح الوجوه حتى أحاسبها أمام الله".
أما الآن، فالجميع يتساءل عن المجهول! كيف كنت على صلة معنا طوال مدة ثلاث سنوات وأربعة أشهر، كيف مضت على عائلة أكبر فرد فيها لم يتم عشرين عامًا. وأنا في ذكرى وفاتك هذه، رغبت في الحديث عنك، كيف مارس تيسير أبوته وهو في السجن!
يوم في الأسبوع، وأحيانًا يومان، مكالمتان، أو ثلاث، كل منها عشر دقائق. كان لكل منا نصيب للحديث معه، مع تحضير مسبق بالطبع عن ماذا سوف نتحدث. قُسّمت محادثاته كالتالي:
ـ عبارات أعجبتني: كان يشارك مع كل منا عبارة قرأها في أحد الكتب، أو سمعها في الراديو، تنقل فكرة معينة حسب حاجتنا، عبارات حول الأخلاق والسلوك الفاضل واحترام الذات، وكان كل شهر يلقن أمي عبارة أسميناها "عبارة الشهر من بابا"، طلب من والدتي إحضار لوح وتعليقه وكتابتها عليه. وقمنا بذلك بالفعل. إحدى هذه العبارات كانت "لا يسعك أن تلمس قلوب الآخرين إلا إذا فتحت قلبك لنفسك"، و"نحن لا نتأذى من ردود فعل الآخرين.. نحن نتأذى من ردود أفعالنا فقط".
ـ استشعار الله: كان الهدف من هذا الحديث هو الحث على استشعار وجود الله في كل وقت وحين، ففي رسالة منه لأخي عون، قال "ولدي عون.. إن مخافة الله هي أعظم أنواع السيطرة على الجسد وخدمته وتطويعه للإيجابيات بكل أنواعها".
ـ الوطن: كان غير منقطع الحديث عن فلسطين. يحدثنا عن جدتي التي ما كانت تطرز علم فلسطين سوى بالحرير، حرير القلوب، حرير المحبة. وكان دائمًا يقول "الفلسطينيون وحدهم يعيشون بذاكرة افتراضية تتعلق بالأمكنة، يحبون أماكن ولادة الآباء والأجداد ويعشقونها وهم لم يزوروها بعد. مثال على ذلك، أنا أحب القدس، فعمَّان وسياستها لم تحرمني من حب القدس، مع الانتماء الشديد لعمّان، والحب الشديد لها. والآن، أعلم أولادي حب مدينتهم القدس، رغم أني لم أزرها بعد. الفلسطينيون وحدهم لهم مدن لا يدخلونها، يحبونها كما يحبون الله الذي في السماء ولم يروه أيضًا... المكان بوصفه يعيش في الجينات".
ـ فيلم العطلة، أو مناسبة مثل العيد: كان يقرأ في الصحف أو المجلات التي تأتيهم عن الأفلام التي نزلت حديثًا، ويختار المناسب منها لنا، ويحدّد مع من يرغب في مناقشته أن يحضر أسئلة عميقة يكون من خلفها درس أو عبرة لكل منا.
ـ نصيحة طبية: كان ينقل إلى والدتي بعض الوصفات الصحية، أو حتى التجميلية الطبيعية، لتعطينا إياها، ويتابع معنا ما إذا قمنا بها ونتائجها. كان يحدثنا عن أهمية التمتع بصحة جيدة، والحفاظ عليها، ويذكرنا أن الصحة الجيدة نعمة، ولا يمكن اعتبارها أمرًا مفروغًا منه.
ـ كراسة الميلاد: في فترة السجن، كتب لكل واحد منا كراسة ميلاد، كل واحدة تحتوي على بنود بعدد السنوات التي أتمها، بنود غير منتهية العمر، كلام ينقل إلى أبناء الأبناء في فن الحياة، كل حسب حاجته.
وأما والدتي، والتي كان على حديثه أن يبدأ وينتهي معها، فكانت هنالك رسالة صباحية أطلق عليها اسم "قبلة الصباح"، ليعبر لها عن حبه، ويشاركها آلامه وأفراحه، وفي بعض الأحيان كان يقول لها طرفة ليسمعها تضحك.
رغم كل الألم الذي عاشه قلبه، كان نقيًا رقيقًا، لم تشوهه الظروف القاسية المريرة.
عن حياته في السجن، طلبنا من بعض الأشخاص الذين رافقوه في تلك الفترة أن يكتبوا لنا عنه، وهذا ما قالوه:

كان من هموم تيسير النجار، أبو عون، التَّخفيف عمّن معه من المظلومين.
وأذكر هنا حالتين؛ عامة وخاصة.
العامة: إنشاؤه ناديًا للرواية. كان، رحمه الله وغفر له، يقول إنّ الروايةَ الجميلة الرَّصينةَ تُعين على الخروج لا شعوريًا من ضيق الزنزانة. كنا في غالب الوقت ممنوعين من الكتب، فإن أتيحَ لنا طلب كتبٍ من المكتبة، كان يأتي إلى الأشخاص الذين لا يقرؤون، ويطلب منهم أن يطلبوا بأسمائهم رواياتٍ يخفِّف بها عنّا.
أمّا الخاصّة:  كان معنا شخصٌ مضطرب وغير سوي. كان أبو عون حريصًا على تسليته ورعايته. كان يهتم بأكله، ويُكرمه بكل ما يستطيع. ويتدخَّل لصالحه إن وقعَ في مشكلةٍ مع الآخَرين.
كان أبو عون عطوفًا حقًا، عَن طبعٍ لا تطبع. دمعته سريعةَ النزول إن رأى مشهدًا مؤثرًا؛ وما أكثرها هناك.
كان دائمًا يشجِّعني على الكتابة، ويراجع ما أكتب، وينصح بحماس الأب الذي فاضَت غريزة الأُبوّة عنده، فأغدقها على كل الشباب حولَه، بل حتى على الكبار.
كانت ضحكته، على قلتها، صاخبةً، تدفعُ الجميع إلى الضحك.

***

ككل من خرجَ من قبر السجن الانفرادي، وصل تيسير جاحظ العينين، ملهوفًا للتواصل البشري. عمَّت الأخبار. هُنالك صحافي في العنبر. رأيته في المرَّة الأولى يحمل قلمًا ودفترًا ويتجول في أرجاء العنبر مُحتفلًا بفرحة الخروج من الإنفرادي. رحبت به باندفاعية مفرطة، وخضتُ معه حديث أصدقاء الثقافة والأدب، وكأنني أقول له إن هذا المكان لا يفرغُ من الشعر، ولا يخلو من عشاق الكلمات. بعد دقائق من الحديث معي، قال بلطف: ذكي! لكنك متهور بمعنى الكلمة. كعادةِ عنبرنا، لم يكن لدينا سوى أن نمضغ الحكايات. هذا! أو الحسرة، والغضب، والندم. كانَ مُلتاعًا، يفكر في عائلته طوال الوقت، يعتذر ويبكي، سريع الدمعة، شفيف الروح، طيّبًا بكل ما في الكلمة من دلالةٍ، وصفةٍ، ومعنى، وحقيقة. وصل تيسير النجار إلى عنبر تسعة، عنبر الأمن المتناقض، حيث يجتمعُ المغردُ، مع المتهم بالانضمام إلى داعش، مع المتهم بالانضمام إلى القاعدة، مع المسجون لأنَّ سجينًا آخر اضطر إلى ابتكار اسمٍ ما يخفف به عن نفسِه أتونَ التجربة السياسية العربية، بما يأتي معها من مُفزعاتٍ صفة الكابوس ليست أكثر من تلطيف لحقيقتها. لقد أحببناه بسرعة، إنَّه أحد الأرواح النادرةِ التي لم تكن تعلم عن شرور هذا العالم، ويا لحزننا! لم نكن نعلمُ أن ارتطامه بحقيقة الحياة كانت أيضًا وعدَه القدري بنهايتها، لم نكن نعلم ذلك، لم أكن أعلمُ ذلك. كنتُ قد طويت صفحة تجربتي المأساوية في سجن الوثبة، وكان تيسير النجار يطوي محاكمته، والدعوة التي جاءته للعمل، والتي تحولت لاحقًا إلى مأساةِ إنسان طيِّب لم يكن يعلمُ أن الموتَ يتربص به في نهاية طريق النجاة. خرجتُ من السجن قبلَه، تابعتُ ككل من أحبَّه أخبارَه في ما تنثره الدهاليز الرقمية عن السجناء، ومحاكماتهم، تابعتُ ما تكتبه رفيقة دربِه، وتلك الأفراح الصغيرةُ التي ملأت نفوسنا المرهقة بالأمل. قبول ابنته في معهد الطبخ، احتفاء الفنانة ماجدة بفرحته، لقد أصبح مسؤولًا عن جلب الكُتب، تلك العملة الثمينة، إلى عنبرنا المحتقن بالذاكرة، والمآسي. لقد ظننت أنه سينجو. كم قطعني الندمُ وأنا أقول لعائلته: عاقبة الصبر خير، هانت. هذه الكلمة التي أعلكُها، هانت، هانت يا أمَّ عون، هانت. وقد مرَّ العناء، وقضى صديقي تيسير مدة السجن، ولم يعش وحده صدمات حقائق الحياة، عاشتها عائلته معه، تلك العائلة التي كان يبكي دموع الحرقة، وكأنه خذلها متعمدًا، وكأنه أراد أن يفعل ما حدث له. كم كان ندمك قاتلًا يا تيسير، لم نكن نعلم أن الله يكتب الأقدار خارجَ الأماني، وأوهام الأمل القسرية التي نصنع بها من المأساةِ خيوط البقاء. خرجَ من السجن، وخرجَ معه السجن. كان تيسير أرقَّ من أن يحتمل كل ذلك. ظننتُ أنه سينجو، من حزنه، ومن خذلانِه، ومن الصمتِ الذي رافق كل ما حدث له، تمنيتُ أن يخرج أقوى، من عنبر الأوبئة، والجربِ، والبكتيريا، والاحتراب الفلسفي، والأيديولوجي، أملتُ أنَّه سيكمل الدرب، وأنَّه سيعيشُ ليحكي الحكاية، ولكن لله أمرُه المطاع.

***

كانت المواقف في سجون الظلم محدودة، حيث المعاناة اليومية لجميع المعتقلين واحدة، الموقف الذي ما أزال أذكره، ولا يمكن أن أنساه، أنه عندما صدر حكم الإفراج عنا قال لي المرحوم "هل سنتقابل مرة أخرى يا أبو محمد؟". وكانت إجابتي: "قريبًا بعون الله". لم أكن أتخيل أن ذلك لن يحصل في هذه الفانية، حيث كنت على يقين بأن تيسير سوف يتم الإفراج عنه. كان تيسير شديد الحساسية، كنا نلتقي غالبًا في المساء، نتسامر، نخفّف عن بعضنا معاناة السجن.

***

مع أن جسده كان مسجونًا، إلا أن روحه كانت حرة. استغل هذه المحنة في التقرب إلى الله، وكثرة الذكر وقراءة القرآن. كان يسهر الليل وهو يقرأ الكتب بعزلة، ويدوّن أفكاره. من أكثر ما كان يسعده القراءة، كانت بمثابة الخروج من السجن، والغوص في عالم آخر. لم يفتر عن ذكر أهله في أي مناسبة، كانوا دائمًا معه وفي باله، كل شيء يذكّره بهم. دائمًا يحدثنا عن ذكرياته معهم، ويخطط ويحلم بمستقبله معهم.
جاءت الشرطة تنادي أبو عون بعد منتصف الليل للإفراج عنه، فاستيقظ الجميع يودعونه، وكانت آخر وصية له قبل الخروج من السجن لإخوانه (ولا يغتب بعضكم بعضًا.. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا؟).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.