}

عن أنثروبولوجيا الطعام.. الأعياد والتعاضد الاجتماعي

شذى تيسير النجار شذى تيسير النجار 29 يناير 2022
إناسة عن أنثروبولوجيا الطعام.. الأعياد والتعاضد الاجتماعي
نحت جداري من وادي الرافدين

يُعدّ الطعام واحدًا من أكثر الاحتياجات الأساسية، وأكثر القواسم المشتركة العابرة للثقافات. يتم تحديد جزء كبير من هويتنا من خلال ما نأكله، من حيث مصدره، وكيفية تحضيرنا له، وكيف نستهلكه. نحن، كأفراد، نتخذ قرارات يوميًا، نقول إننا ذاهبون لنأكل هذا وذاك. لا نأكل بمفردنا، أو على الأقل ما زلنا لا نرغب بالأكل بمفردنا، خصوصًا مع هذه الحركة الكبيرة نحو التفرد. وأكدت الدراسات أن تناول الطعام بمفردك من الممكن أن يدلل على أنك شخص يميل للانفراد، وعدم الرغبة بمشاركة الآخرين. فهل نمنح الطعام حقه من الوقت والتفكير، أم أننا فقط نقوم بهذا الفعل كي نبقى على قيد الحياة؟
عشاء جميل مع الأصدقاء والعائلة، مسألة الضيوف، والتعاضد على مائدة الطعام، هي "ظواهر اجتماعية كاملة، أحداث معقدة ذات طبيعة دينية، أو أسطورية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو جمالية". هذا التعريف العام للعيد، حسب عالم الآثار، برايان هايدن، أي أنه "مشاركة لطعام خاص (في الجودة، أو الإعداد، أو الكمية) من قبل شخصين، أو أكثر، في حدث خاص (ليس كل يوم)". فالطعام والاتصال الاجتماعي هما دعائم وأركان ترتكز عليها طقوس الأعياد تاريخيًا، وتحتوي العديد من الطقوس على عنصر الوليمة، حيث بدأت الولائم بجلوس الناس حول النار، وكان شكلها دائريًا (الشكل الدائري يعني التساوي في المكانة الاجتماعية، وكمية الطعام)، ومن ثم اختُرع الشكل المستطيل ليحدد المقامات الاجتماعية للجالسين على المائدة، فكل مكان مختلف يدل على منزلة المرء، من المضيف، إلى ضيف الشرف.
من المعروف أن من يرغب بتعزيز علاقاته الاجتماعية بشخص ما فإنه يستضيفه على حفل عشاء، ويجعله يحظى بامتياز جودة الطعام. ولذلك، تعد الأعياد مهمة على مستويات متعددة في وقت واحد (بيولوجية، واقتصادية، وسياسية، وكونية، واجتماعية)، والطعام على المائدة ليس طعامًا فقط، بل هو طريقة لتحويل الإنسان من كائن أناني إلى شخص اجتماعي. وإذا كنت تعتقد أن الاحتفال عالمي، أو لا، يعتمد على كيفية تعريفك له في المقام الأول. لكن الذي لا شك فيه أن أعظم الأعياد هي الأكثر إثارة لفكرة لم الشمل، وغالبًا ما تكون المناسبات الخاصة والأعياد وقتًا يجتمع فيه الناس حول الطاولة للاستمتاع بالطعام، وحتى المشاركة في تحضيره (طباخون، أمهات، نساء العائلة، أو حتى رجالها).




يؤكد علماء الأنثروبولوجيا أن المشاركة الاجتماعية للطعام المطبوخ بعناية، في أوقات ومساحات ودوائر اجتماعية محددة، هي في صميم ما يجعلنا بشرًا؛ لذلك نحن الآن في حاجة إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والذهاب وراء كواليس الأعياد، بدءًا من تحليل الوليمة؛ منذ لحظة تحضير الطعام إلى عرضه، وفي حاجة إلى استكشاف تنظيم الوقت والعمل والموارد التي تدخل في الأعياد. هنا، تظهر الطبيعة السببية لقدرة الأعياد على صنع العالم في هذه العمليات، لأن العمل على إنتاج الغذاء يمكن أن يكون في حدّ ذاته احتفالًا بالطاقة البشرية والإبداع، والقدرة على تكوين وتوسيع العلاقات، كما يقول الكاتب جوي أدابون في كتابه "فن الطهو والأنثروبولوجيا": "لا يكون حفل الزفاف لائقًا من دون تقديم مأدبة لائقة. وسواء كانت الوجبة الخاصة محضرة في المنزل، أو لا، فهي تقدم للضيوف بوفرة، ويفقد الاحتفال بعضًا من معانيه إذا ما افتقر إلى التخطيط الكافي، أو إلى الطبق الاحتفالي، وهذا يؤثر بشكل مباشر في أسرتي العروس والعريس". ويضيف في نص آخر قائلًا: "يُعدُّ حضور الاحتفالات بمثابة التزام اجتماعي، ويجب احترام الدعوة إلى الاحتفال بقبولها، وهو ما ينطوي أيضًا على شيء من التبادلية على شكل دعوات مماثلة مستقبلية توجه إلى الأسرة الداعية. وعلى هذا الأساس، فإن رفض الدعوة من دون إبداء سبب وجيه قد يعتبر إهانة، أو قطعًا لعلاقات الثقة التي تربط الأسر ببعضها". كما يقول: "تُعدّ الاحتفالات التزامات اجتماعية مهمة يجب الوفاء بها من خلال مشاركة الأسرة فيها. إنها تقاليد متعارف عليها، ولكنها في الوقت ذاته فروض مهمة مفروضة من قبل المجتمع علينا".

نحت من الجدار الجنوبي لغرفة العرش في نمرود يصور معسكر الملك آشور ناصربال الثاني، ويمكن رؤية مشاهد الطبخ والعديد من المهن المنزلية الأخرى حوالي 865 قبل الميلاد (Getty)


ومن الولائم التاريخية المذكورة وليمة الملك الآشوري، آشور ناصربال، كما وردت في كتاب "سلسلة الحياة اليومية عبر التاريخ.. الطبخ في الحضارات القديمة"، للكاتبة كاثي ك. كوفمان، التي تصفها بالوجبة العملاقة.
وتذكر كوفمان تفاصيل الوليمة كالتالي "أولم الملك الآشوري آشور ناصربال عام 879 ق.م احتفاءً بتجديد مدينة (كلخو) المخربة، واتخاذها عاصمته العسكرية الجديدة. فأقام احتفالًا بالأكل والشراب لمدة عشرة أيام؛ وقد سُجلت الأطعمة التي استهلكت على مسلة، أي عمود حجري منقوش، عُثر عليها في التنقيبات الأثرية عام 1951. ووفقًا لما يذكره النقش، فقد أطعم آشور ناصربال، واستضاف، عددًا مذهلًا من الناس يبلغ تعدادهم (69574) شخصًا، منهم ما يقارب (47074) من العمال الذين أعادوا بناء المدينة؛ وأغلبهم من أسرى الحروب الذين قبض عليهم آشور ناصربال في حملاته السابقة. و(5000) من الضيوف من وجهاء المناطق التي غزاها؛ وأسهم حضورهم في إضفاء السلطة والهيبة عليه. وكان 16000 من الحضور من السكان المحليين؛ أما الباقون، وهم 1500، فموظفو القصر. فإذا شك أحد في هيمنة آشور ناصربال، فإن المسلة تمجد آشور ناصربال بكونه ’الملك الذي أراد أن يخضع من ليسوا خاضعين له، وغزا البشرية بأسرها’".




وبين الأطعمة المقدمة ما يلي (ألف ثور علفه الشعير ـ ومئتا ثور، وألف من الأبقار الصغيرة، وألف من الأغنام الصغيرة ـ أربعة عشر ألفًا من الأغنام البالغة، وألف من الأغنام المسمنة، وألف حمل، وخمسمئة من الظباء والغزلان).
هذا إضافة إلى صف لا ينتهي من (البط، والدجاج، واليمام، والحمام، والطيور الصغيرة)، وأنواع أخرى لم تفك شيفرتها بعد في الكتابة المسمارية الأصلية، وعشرة آلاف بيضة، وعشرة آلاف سمكة (من دون تحديد النوعية)، وعشرة آلاف جرادة مشوية بالسيخ.
في ولائم الأعياد والمناسبات، يكون دور الطهاة المهاجرين هو الدور الأكبر، وطاهٍ هنا إشارة لأي شخص يقوم بفعل الطهي، ليس فقط الطهاة كموظفين، إذ تقوم الأعياد بتعبئة قيم الناس وأخلاقهم وفهمهم للعالم الذي هم جزء منه. وللطهاة أهداف محددة، منها إرضاء الجوع، والمتعة المثيرة للذاكرة، والشعور بالانتماء إلى المكان، والتنسيق والاقتصاد، وفي الوقت نفسه التعبير عن القيم الراسخة لبلدهم، ونقلهم للنكهات والأطعمة، ما يعني نقل نكهة الأعياد معهم.
ولأن الأعياد تحشد المشاعر والقيم والموارد والأشخاص في وقت واحد، وبكثافة، فهي سياقات رائعة للمصالحة، ومن خلالها يعمل الناس على إيجاد طرق لاسترضاء القوى التي قد تقيدهم، مع تحقيق مُثلهم الأوسع، لأن الولائم تتخطى دائمًا دورها الاجتماعي، فالأكل والشرب بمثابة وسائط قوية متينة تجذبنا لنصبح أقل أنانية، وأكثر حبًا وامتنانًا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.