}

ذاكرة من خلف القضبان

شذى تيسير النجار شذى تيسير النجار 20 نوفمبر 2021
استعادات ذاكرة من خلف القضبان
(فيرناندو بوتيرو)



خلال نصف القرن الماضي، تغيّر طعامنا بشكل جذري، الأشياء التي نأكلها الآن ليست كما كانت من قبل، أصبح الجلوس إلى مائدة الطعام في حد ذاته أساس الحصول على تجربة جديدة، كما أصبحت فائدة الطعام تعبّر بصورة مباشرة عن تطور ذائقتنا تجاهه، وارتبط ضرره بكمية الأمراض التي نتعرض إليها مع الزمن. من البساطة، أو التركيب المعقد، نحن نعلم أن تذوق الطعام هو أساس التمتع به.
منذ صغري، وأنا أتساءل عن شعور من يفقد حاسة التذوق. من المؤلم أن تفقد حاسة لا يمكن للأشخاص من حولك حتى أن يستشعروا فقدانك لها. منذ انتشار وباء كورونا، أسمع كثيرًا عن الذين أصيبوا به، وعن معاناة فقدان هذه الحاسة، وقسوة هذا الفقدان الموقت. لكن هل الشعور ذاته يملكه من حُرِم من الطعام المعتاد، فأصبحت ذاكرته الحسيّة للنكهات تتلاشى مع الوقت. من يُحكم بالسجن لسنين، أو ربما إلى الأبد، حين يقدم له برنامج طعام أسبوعي لا يتغير، ويقوم بطهيه أناس لا يشعرون بشيء سوى الحاجة للمادة، فإن ذلك يشكل اعتداء على حقوقه كسجين! فمن يملك الحق بسلبه، أو منحه، حقه في الغذاء؟ وما هي سياسات الطعام خلف القضبان، والظروف التي يتم تقديمه بها؟
الغذاء هو حق أساسي من حقوق الإنسان، وتكفل المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في الغذاء الكافي، بوصفه عنصرًا مـن حـق كل شخص التمتع به ضمن مستوى معيشي كاف. وتنص الفقرة 2 من المادة 11 بالتحديد "لكل إنسان حق أساسي في التحرر من الجوع". وهذا ما ذكر في الفصل السادس من دليل تدريب موظفي السجون على حقوق الإنسان الصادر عن مكتب مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في عام 2004. وجاء هذا الفصل تحت هدف "إبراز أنه يجب تزويد السجناء بالغذاء الصحي الذي يكفي لحفظ صحتهم وقوتهم. ويجب أيضًا أن يتاح لهم الحصول على مياه الشرب بصورة منتظمة". كما ذكر في الدليل "تتطلب القاعدة 20 من القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء ما يلي: على الطبيب أن يقوم بصورة منتظمة بمعاينة الجوانب التالية، وأن يقدم النصح إلى المدير بشأنها: كمية الغذاء ونوعيته وإعداده".




أعلم أن هنالك كثيرًا مما يجب أن يقال عند ذِكر كلمة حقوق، خصوصًا ما يتعرض له السجناء في عنابر الأمنيين، ولكنني أتطرق هنا إلى موضوع ربما يكون هو الكفيل والمسؤول بشكل رئيسي ومباشر عن صحة الإنسان أثناء فترة اعتقاله، وحتى بعد انتهائها.
الطهاة واختصاصيو التغذية مهمتهم طهي الطعام وضمائرهم حاضرة، فهل شعر أحدهم بأن من هم في السجن ما زالوا بشرًا؟! هل يفكر أحدهم بإنسانية السجناء؟ وبأنهم يحتاجون إلى كثير من الطاقة ليتغلبوا على ألم وجودهم في مكان واحد لا يغادرونه إلا بعد انقضاء فترة حكمهم، وأن الطعام إن قدّم لهم بشكل سيء سيؤثرعلى صحتهم النفسية والجسدية مع الوقت، أو أنه سيؤدي إلى انهيارهم؟ هل من أحد فكر بالعهد الذي قدمناه للأرض ولأرواحنا أننا مسؤولون! إذًا، هم مسؤولون عن تقديم الغذاء الكامل لمن هم في حاجة ماسة إليه. السجناء في حاجة لمن يفكر فيهم مليًا، لمن يفكر حقًا أن من حقهم الخروج من السجن وهم في صحة تماثل صحتهم عندما دخلوا السجن على الأقل. هل ضمائرهم أصبحت ميتة إلى ذلك الحد الذي يجعلهم لا يستطيعون أن يفكروا خارج إشباع أيديهم بالماديات! وأيضًا، أتساءل: هل يعد السجين تحت رعاية الدولة، وما هو المعنى خلف الرعاية للسجين؟ هل من أحد يقوم بواجباته على أكمل وجه في السجون غير الجلاد؟
لذلك، وجب أن يكون هنالك فريق للتفتيش والتحقيق والمراجعة للتعامل مع الطعام والنظافة التي يجب تغطيتها، وتوفير الأنظمة الغذائية المتوازنة والصحية التي تعد جزءًا من الحياة اليومية للسجين، والأنظمة الغذائية الطبية المتخصصة لأولئك الذين تدهورت حالتهم الصحية في السجن، بالإضافة إلى برامج الرعاية الصحية واللياقة البدنية، كما يجب أن يكون هنالك فريق من اختصاصيي التغذية يقومون باقتراح أنظمة غذائية جديدة يعملون على تطويرها بشكل دوري مستمر للمحافظة على صحة السجين الجسدية والعقلية والنفسية. هذا إضافة إلى بعض أشكال الإنسانية في بعض الأطروحات التي تعمل عليها بعض الدول في السجون، مثل سماحها بالزيارات الخارجية لأفراد الأسرة، ومشاركتهم الطعام، فهذه كانت تشبه الحلم في دول أخرى لبعض السجناء.




وبالحديث عن الذاكرة الحسيّة للنكهات، أذكر ما قاله والدي، تيسير النجار، من عنبر الأمنيين في رسالة مجهولة التاريخ إلى والدتي، ماجدة الحوراني، عنوانها "مخزون الأكل العاطفي... مخزون حبك يا ماجدة". يقول: "أفكر، وبشكل يومي، بمسألة تتعلق بإثارة حاسة التذوق لدي، لم أعد أتذوق نكهات شهية، أو مذاقات مميزة، المكونات الرئيسية للطبق الذي أتناوله لا تتغير، ولذلك أجد أن وعيي يزداد بما أتناوله، وكل همي أن أعرف ما هي الفائدة المرجوة التي تعود بها على جسدي حتى يستمر بمجرد العيش وهذا يكفيني". يضيف قائلًا: "سابقًا، قبل السجن، تذكرين، كان الطعم ممتلئًا بالفرح والمرح والمفاجآت، لأنه من صنعك يا ماجدة، وأنت محبتك لي تتكشف مع مذاق الأكل، فأنا بحقيقة الأمر قبل السجن كان الأكل بالنسبة لي عالمًا محفوفًا بالخلود... خلود حبك في حواسي، والآن ومنذ 970 يومًا أعيش على الطعم المفترض للأكل الذي كنت تصنعينه بشغف لا يقل بأهميته عن شغف حبك لي. كيف يحدث ذلك الطعم المفترض للأكل؟ أجلس كل يوم وأفكر بالأكل الذي تصنعينه، وذلك قبل أن تبدأ وجبات الأكل المكررة، ومن ثم أبدأ بتذكر كل طبق كنت تعدينه لي، وهذا ما يستدعي مني أن أعد قائمة أسبوعية لرغباتي بوجبات الطعام التي كنتِ تعدينها، واعتمَدتها مخيلتي كبرنامج مفترض لي، الطعم المفترض للأكل يشبه نوعًا ما الطعم المفترض للحب، مع الفارق الذي يحدد وفق المخزون العاطفي".




هذا ما يعيشه السجين من فقد تدريجي لحواسه، وفي النهاية فقدانه لصحته بالكامل، فهل هذا هو العقاب الخفي خلف القضبان! كم واحد منّا يفكر بتحريره من بعض القيود التي تثقل كاهله، قيود يومية تشبه طقسًا تهيمن عليه الرياح!
انتهت مدة حكمه، لكنها بقيت مشتعلة في داخله، من سيعيد بناء قلبه، ويمسح الصور، ويعيد هيكلة حلمه، من سوف يعيده إلى الحياة مجددًا؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.