}

الجسد والدولة بنماذج معاصرة.. محاولة لتفكيك علاقة الدولة بأجسادنا

عبدالله البياري عبدالله البياري 13 يونيو 2022
اجتماع الجسد والدولة بنماذج معاصرة.. محاولة لتفكيك علاقة الدولة بأجسادنا
مظاهرة في تونس العاصمة ضد فصل قيس سعيد لقضاةٍ(8/6/2022/الأناضول)

لعل الامتحان الأهم لمنظومات كالطب والدولة والقانون والدين والثقافة هو الجسد، بل هو الموقع الذي تتجسد من خلاله بنى الهيمنة والقمع في كل تلك المنظومات. لفهم هذه الفرضية، أستدعي بعضًا من نماذج معاصرة حولنا، والتي من خلالها نتتبع علاقة تلك المنظومات مع الجسد بكل طبقاته (الجندرية، والطبقية، والاستعمارية، وغيرها)، يمكننا فهم ما يحدث لأجسادنا.

النموذج الأول:
سلمى رضوان فتاة مصرية، تزوجت شابًا فرنسيًا، وأنجبت منه عليًّا. بدأت الخلافات بين الزوجين، فاختطف الأب ابنه إلى فرنسا عائدًا به، بما أنه مواطن فرنسي، واختفى. وإلى حين كتابة هذه السطور، لم تسمع الأم صوت ابنها منذ ما يزيد على عام، ولا تعلم عنه شيئًا. والأدهى والأَمر أنها لا تستطيع المطالبة بحق الحضانة في فرنسا، لأنها ببساطة ليست فرنسية.

النموذج الثاني:
الرئيس التونسي قيس سعيد يستخدم سياسة الوصم الاجتماعي والأخلاقي، ويوجه تهمة "الزنا" في حق قاضيتين ضمن قائمة من قضاة عزلهم/ن (57 قاضيًا)، حتى أن إحداهن أُخضعت، وهي القاضية في محكمة استئناف في محافظة صفاقس، لفحص "عذرية"، جرى تداول نتيجته على مواقع التواصل الاجتماعي، في شكل من أشكال التشهير والتجريح.

النموذج الثالث:

وارن جيفز في المحكمة بتهمة إجبار مراهقة (14 سنة) على الزواج من ابن عمها الأكبر (19 سنة) (21/ 11/ 2006/Getty)


نشأت في النصف الثاني من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية مجموعة دينية أسمت نفسها "الكنيسة الأصلية ليسوع المسيح وقديسي الأيام الأخيرة"، والتي قامت على تعدد الزوجات، وتبادلهن، وتزويج القاصرات (اغتصابهن). فكان رؤساء تلك المجموعة يسمون أنفسهم رسلًا يوحى إليهم من السماء، يقومون بمنح الزوجات إلى رجالات المجموعة ممن يَثبت ولاؤه للرسول، ومن لا يثبت ولاؤه فإن عائلاته تنتزع منه، وتمنح لآخر أثبت طاعاته وإيمانه بالرسول القائد. وفي مراحل متقدمة، أجبرت السيدات في تلك المجموعة على التنازل عن أبنائهن وبناتهن للذهاب إلى (صهيون) الجنة الموعودة، حيث يمنحن لرجال آخرين، وعائلات أخرى (جدير بالذكر أن رئيس هذه المجموعة ورسولها، وارين جيفز، حُكم في عام 2011 بالسجن مدى الحياة وعشرين عامًا، بتهم عدة منها الاغتصاب).

النموذج الرابع:

الحاخام اليهودي اليمني يحيى يوسف موسى (وسط) مع أقاربه خارج شقته في العاصمة اليمنية صنعاء (18/ 1/ 2010/Getty)


وهو ما عُرف باختطاف إسرائيل لأطفال يهود اليمن، ممن هاجروا في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين إلى إسرائيل، في عملية "بساط الريح"، حيث مُنح الأطفال الرضع، أو بيعوا، للناجين الأشكناز من الهولوكوست، ممن كانوا من دون أطفال، في عملية منهجية سرية. حققت في هذه القضية ثلاث لجان رسمية منفصلة، وأقرت بالإجماع أن غالبية الأطفال دفنوا بعد موتهم بسبب الأمراض. لكن اختبار الأبوة بتحليل الحمض النووي يؤكد، في بعض الحالات، أن الأطفال المتبنين الذين يحاولون تعقب آباءهم البيولوجيين ولدوا لعائلات يمنية أُبلغت بأن أطفالهم قد ماتوا. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، القضية بأنها "جرح مفتوح لا يزال ينزف" للعديد من العائلات التي لا تعرف ما حدث للأطفال الذين اختفوا.

الذكر ألفا
لعل العمود الأساسي الذي تقوم عليه تلك النماذج هو حضور ذكر ألفا، يقوم بترسيم حدود جسده على بقية الأجساد. و"الذكر الألفا" مصطلح يرد في العلوم الاجتماعية محملًا بمتخيلاته من عالم الحيوان، حيث الذكر الألفا هو الذكر القائد للقطيع، والذي من خلال قيادته وقوته يوزع رأسمال القطيع المادي المسؤول عن البقاء وامتلاك الأرض والحيز، والرأسمال الرمزي المسؤول عن إخضاع بقية ذكور القطيع، والأهم ضمان تماهيهم معه.




يتضح الأمر جليًا إذا ما تتبعنا فكرة الذكر الألفا في قوانين الجنسية مثلًا، والتي تُحرم فيها المرأة في بعض الدول من حقها في منح جنسيتها لأبنائها، لأنها أولًا ليست ذكرًا ألفا، وبالتالي فحقوقها الدولانية أقل، وما أكثر استدعاءات الخطاب الذكوري الثقافية والمخيالية لتبرير ذلك (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)، والأهم أن أبناءها ليسوا من ذكر يتماهى في جنسيته مع الذكر الألفا، أو بوصف أدق هي لم تمنح ذاتها وجسدها باعتباره ملكًا رمزيًا للجسد الدولاني المذكر (الألفا) لذكر من هؤلاء الذين يتماهون مع الذكر الألفا من خلال الدولة وجنسيتها، والتماهي المقصود هنا هو جسدنة الدولة في الذكر الألفا. من هنا نستطيع فهم تقاعس وعجز الدولة المصرية عن الإتيان بحق سلمى وابنها، ليس فقط من منطق أنها هي جسد مؤنث فقط، ولكن لأنه جسد مهدر من الرأسمال المادي والرمزي للذكر الألفا الدولاني، ناهيك عن خضوع هذا الذكر المصري أمام الذكر الفرنسي. (مع العلم أن سلمى تحصلت على حكم قضائي نهائي بحقها في حضانة ابنها قبل كتابة هذه السطور بأيام وربما بساعات قليلة).

جيل دولوز (يسار) وفيليكس غواتاري في فرنسا (1980/Getty)


يمكننا هنا أن نستدعي فلسفة جيل دولوز، وفيليكس غواتاري، لمحاولة فهم تضافر الجسد والمنظومة الفكرية والنظرية، وعلاقة ذلك بالإنتاج والممارسة الاجتماعية لتلك البنى والمنظومات. فمن خلال فحص مفهوم "الرغبة"، بوصفها "ماهية العلاقة الاجتماعية المتحققة في الإنتاج الاجتماعي"، نرى أن لها القدرة على تفسير عمل آلات إنتاج الحيز الرمزي والمكاني، بكل رأسماله، وتفسير عمل اللاوعي المنتج لتمظهرات تلك الأحياز الواقعية في الفضاء الاجتماعي. هنا نقول إن المساهمة الأهم لكل من دولوز، وغواتاري، هو تقديم سياسات وفلسفة تعترف بـ "تداخل الرغبة في الداخل من كل العلاقات السياسية والاجتماعية"، فالرغبة، بحسب براديغم دولوز وغواتاري للإنتاج الرغائبي، تستثمر في المجال الاجتماعي، الذي تنبني فيه القوى البنائية والتغييرية.




الرغبة هنا هي النموذج الذي يمكننا من خلاله فهم موقف الدولة الفرنسية والدولة المصرية من الجسد، وتحديدًا جسد سلمى وابنها. الأمر ينسحب على طول امتداده من الإرث الاستعماري للدولة الفرنسية، بداية من نماذج مثل سارة بارتمان، وصولًا إلى تضافر العدسات الرأسمالية في النظر إلى الجسد العربي، هنا تصبح فرنسية "علي" ابن سلمى أهم من أمومتها له، بل وأكثر قيمة. الأمر ذاته هو في ما يتعلق بوارين جيفز الذي كان يمنح الأطفال لرجالات مجموعته الدينية الأكثر ولاءً وخضوعًا وطاعة، وينتزعهم/ ن من أمهاتهم.
من هنا نستطيع فهم العلاقة التماهي بين الدولة الحديثة ومنطق مجموعة "الكنيسة الأصلية ليسوع المسيح وقديسي الأيام الأخيرة"، المتطرف والإجرامي. لكن الفرق أن دولة كاملة هي من تقوم بهذا العمل.
بالعودة إلى سارة بارتمان من القرن السادس عشر، التي ذكرت أعلاه، والتي نشير باقتضاب إلى أنها كانت مادة عرض طبي استخدمها طبيب الإمبراطورية الفرنسية لإثبات سمو العرق الأبيض، ودونية ما سواه في كليات الطب. واستمرت رفاتها معروضة في متحف التاريخ الطبيعي الفرنسي، إلى أن استردتها حكومة جنوب أفريقيا بقضية في المحاكم الدولية، رفعها الرئيس الراحل نيلسون مانديلا عام 2003.
يمكننا أن نرى تقاطعات بين ما فعله الطبيب الفرنسي باسم الطب لصالح الدولة، وما يفعله الرئيس التونسي، قيس سعيد، باسم القانون لصالح الدولة. كلاهما وظف سياسات الرغبة والتصنيف والوصم الجسدي بكل دينامياته الخطابية لحماية حيز الذكر الألفا على حساب الجسد المؤنث. هي السياسات العنصرية والجنسية نفسها القائمة على امتلاك الدولة لأجسادنا جميعًا، وأشكال تأويلها الدولاني، وعمومية امتلاك الجسد المؤنث، فهو ملك الجميع، وهذا ما يفسر مخيال "كشوف العذرية" الذي يقوم على إقحام/ إيلاج الدولة، باعتبارها فضاءً عامًا لمجموعة من الذكور داخل أجساد النساء، باعتبارهن ملكًا عامًا لهؤلاء الذكور. وهو أمر تكرر في الحالة المصرية، وفي احتلال البوسنة، وحتى في برلين مع سقوط النازية (كطقس احتفالي)، كشوف العذرية ليست سلاحًا في الحالات الاستثنائية، بل هو أحد أهم أدوات القمع في تعامله مع اليومي المعيش، وتحديدًا الجسدي فيه؛ سواءً الجسدي بشكله الحيزي/المكاني، أو الرمزي الأدائي، من هنا يمكننا فهم كيف أن تطهير القضاء لدى سعيد يبدأ من الجسد الأنثوي، كما أن حماية قيم المجتمع المصري بدأت منه في حالة إيقاع كشوف العذرية على فتيات مصريات قدمن محتوى راقصا. بتفعيل مفهوم الإنتاج الرغائبي، يمكننا فهم مدى الخلل النفسي في هذه القرارات. لكن المخيف فعلًا هو موقفنا نحن منها. وهنا نستدعي نموذجًا منذ سنوات خلت فقط، حين كتب الشاعر السوري الكردي، سليم بركات، مقالًا في صحيفة "القدس العربي"، يخبر سرَّ صديقه، شاعرنا محمود درويش، بوجود ابنة له من علاقة مع سيدة مجهولة. حينها هبت رياح الثقافة الذكورية للدفاع عن شاعرنا وإرثنا، وتنادى الذكور للدفاع عن الشاعر الذكر الألفا بين شعراء فلسطين، لكن لم يتساءل أحدهم عن الأم وابنتها، وما قد يحدث لهما. خيط التماهي مع الذكر الألفا نمده على استقامته في أمور أخرى، كموقف بعضهم من فيلم "صالون هدى"، أو "أميرة"، وما هو إلا حمية الدفاع عن جسد الذكر الألفا، حتى وإن كان عادلًا ومشروعًا.




للدولة أولوية في سياسات الرغبة على ذواتنا الراغبة، فسرقة أطفال يهود اليمن لا يمكن فهمه إلا باعتباره سياسة دولانية لتوجيه الرغبة واستحواذها لصالح الذكر الألفا باسم الدولة والدين، ليس فقط ضمن سياسات الإنتاج الرأسمالية، إنما كذلك إنتاج شكل رمزي ومادي لليهودي المرغوب للدولة الحديثة، وهو اليهودي الغربي، وليس العربي، إذ يمكننا رؤية اليهود المتشددين وهوسهم بالتكاثر بأرقام تكاد تقارب مجموعة جيفز في أميركا، لصالح الدولة اليهودية. برغم أنهم لا يخدمون في الجيش (مؤسسة الإنتاج الرغائبي الأولى في الدولة).
ولا يمكن فهم مركزية الجسد هنا، سواءً في حالة جيفز وجماعته، أو اليهود المتطرفين، من دون سياسات إنتاج حيز. فجيفز الذي أنشأ لجماعته مدنًا مسوَّرة منعزلة عن العالم، وتحكم في كل الأجساد المادية والرمزية فيها، يتماهى مع إسرائيل في سياسات الحيز، فامتلاك الجسد يلزمه امتلاك المكان.
ختامًا، نقول إن جيفز وإلهه الذي يوحي له، ليسا الإجابة عن سؤال الدين، وقيس سعيد وصنيعه ليسا إجابة عن سؤال القانون، وفرنسا ليست الإجابة عن سؤال التنوير والعدالة، وإسرائيل ليست الإجابة اليهودية عن سؤال المنفى والوطن، والأهم أن كل هؤلاء مجتمعين إنما يمرون بأزمة وجودية نشهد مظاهرها تنبثق من أجسادنا، بما أنها مصدر للمعرفة والقوة والحرية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.