}

في لون بشرة كليوباترا

آراء في لون بشرة كليوباترا
أطلقت "نتفليكس" مسلسلاً عن حياة كليوباترا
ما الذي يعنيه أن نصف أحدهم، أو إحداهن، بأنه، أو أنها، أبيض، أو بيضاء؟ ما الذي يقتضيه هذا الوسم؟
يأتي هذا السؤال كثيفًا في الحالة العربية، خصوصًا، والعالم ـ ثالثية عمومًا، نظرًا لموقعها من المفهوم الثقافي والسياسي للبياض، والذي يظل حاضرًا في أحداث كثيرة، كان آخرها إعلان شبكة نيتفليكس عن موعد إطلاق مسلسل جديد يقدم حياة الملكة الشهيرة كليوباترا التي حكمت مصر. وهو ما أثار جدلًا كبيرًا لدى المصريين، بعد اختيار ممثلة سمراء للقيام بالدور الرئيسي. قد يبدو الأمر ظاهريًا مفهومًا؛ فكليوباترا تأتي من سلالة مقدونية لأبيها، أتراه يكفي هذا لفهم ضرورة أن تكون "بيضاء"، أو معنى أن تكون بيضاء في التحديق إلى تمثلاتها الفنية والثقافية؟
حسنًا، لا يبدو الأمر لنا بهذه المباشرة، وبالذات بعد تدخل الدولة الرسمي في مصر لاستغلال جسد المرأة ولونها وموضعته ملكًا قوميًا عامًا تقيم عليه خطابها لتعريف موقعها من التاريخ ورموزه؛ حيث أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية أن فيلم نيتفليكس ما هو إلا "تزوير وتدليس تاريخي يتوجب الرد عليه" (أون تي في، 29/ 4/ 2023). لتعلن بعدها قناة "الوثائقية" المصرية أنها ستقوم بإنتاج فيلم يحكي القصة "الحقيقية" بشأن الملكة كليوباترا (أون تي في ـ 29/ 4/ 2023)، وقبل ذلك نشرت جريدة الأخبار المصرية رسمًا كاريكاتوريًا (27/ 4 /2023)، تفوح منه رائحة عنصرية مقيتة، يحتفي بفيلم كليوباترا (الأميركي) الذي قامت ببطولته الممثلة إليزابيث تايلور، وأخرجه جوزيف مانكفيتش في عام 1963، بمشاهد أبهة للملكة في نسختها البيضاء، مقابل تمثيل كليوباترا السمراء كثة الشعر متواضعة الجسد، والمجلس الملكي، وغير ذلك من عناصر التقابل الدونية. كل هذا وأكثر منه يدفعنا إلى تأمل الفيلم باعتباره ممارسة خطابية مركبة، تستلزم شكلًا من أشكال التحليل أعمق، ولو قليلًا، من فكرة الدقة التاريخية التي تمرر باعتبارها المسوغ الوحيد لرفض سمرة بشرة الملكة الجديدة، التي وُظفت هي أيضًا هنا لغايات خطابية، ليُمرر من خلالها كثيرًا من العنف والأشكال الاستشراقية، سواءً بوعي، أو من دون وعي.
يمكننا مقاربة كليوباترا الرمز التاريخي من أكثر من ناحية، ولنبدأ برمزيتها وموقعها التاريخيين. كليوباترا، وإن أتت من سلالة مقدونية تعود جذورها إلى اليونان، فهي كرمز تاريخي لا ترتبط باليونان بقدر ما ترتبط بمصر وبمخيال شعبي ورسمي مصري، بشأن الرموز التاريخية (سنشير لاحقًا لموقعها من اليونان). وبتساؤل بسيط، لو كانت شجرة الدر هي التي صوّرت سمراء، أو بيضاء، هل كنا لنشهد رد الفعل نفسه؟ من أين تأتي الحمية السمراء بشأن بياض بشرة كليوباترا تحديدًا من دون غيرها، ومن أين تأتي رمزية كليوباترا، إذن، في المخيال الشعبي المصري، وما هو عنصر القوة المستهدف من خلال موضعتها في ذلك الموضع؟
لا يخفى على متابع للشأن الثقافي والفني والتاريخي المصري ما أُريد للمكون التاريخي الفرعوني في الثقافة المصرية أن يمثل في أعين المصريين من ناحية، وفي أعين من ينظر إلى مصر والمصريين من ناحية، وما حُمِل من معانٍ سياسية وترميزات ساهمت في مراكمة خطاب سياسي وأشكال أدائية هوياتية تغلغلت في الممارسات اليومية لدى المصريين بشأن تعبيرهم عن أنفسهم، بداية من المؤسسة النظامية للدولة وخطابها الرسمي، وصولًا إلى اليومي المعيش للمصريين. صحيح أن الرئيس المصري الراحل السادات هو صاحب مقولة "نحن أصل العرب، فهاجر زوجة النبي إبراهيم هي أم إسماعيل أبو العرب وهي مصرية، وإذا كان هناك من يريد الانتساب فلينتسبوا هم لمصر وليست مصر لهم"، في معرض رده أمام مجلس الشعب المصري، على دعوات المقاطعة العربية الرسمية التي أتت نتيجة زيارته للكنيست الإسرائيلي وتوقيعه على اتفاقية كامب ديفيد. إلا أن فترة رئاسته هي التي شهدت المراكمة الخطابية الأكبر للخطاب المصري القطري بشأن الهوية الفرعونية باعتبارها هي الهوية المركزية، وتكاد تكون الوحيدة لمصر. حتى أن عبارة "المصريون ليسوا عربًا"، والتي درجت في العقود الأخيرة، بدأ ترسيبها في عهده مع العديد من سياسات "الاستثنائية المصرية" تجاه العروبة والخطاب القومي، كشكل من أشكال الانقضاض على الإرث القومي والعروبي لسلفه عبد الناصر. ومن بعده كانت فترة حكم مبارك التي استُكملت فيها عمليات قوننة ورسملة تلك المقولات ورعايتها، وما مؤلف مسرحية "العيال كبرت"، إلا نموذج من عديد النماذج، وصولًا إلى رجال أعمال يرعون منصات ثقافية، ويتشاركون مع إسرائيليين.



بالعودة إلى كليوباترا، نتبين أن التحديق إليها، وإلى لون بشرتها، لا يبدأ من موقع الحياد ولا الدقة التاريخية مصريًا، بل من موقع التأكيد المزدوج التحديقة بشأن الهوية المصرية الفرعونية، المطلوبة استشراقيًا للغرب، وقطريًا للداخل المصري. وعليه فإن موضعتها لونيًا في هذا السياق التاريخي لا تأتي باعتبارها يونانية، أو مقدونية، كما تقول الدقة التاريخية، ولكن باعتبارها مصرية مطلوبة جسدًا ولونًا وهوية وخطابًا، ليجري من خلالها تعريف مواقع الذات والآخر.
تلك كانت العتبة الأولى للنظر إلى كليوباترا الجديدة.
لكن ما معنى أن تكون كليوباترا من سلالة مقدونية؟ ولا نشير هنا إلى السلالة بمعناها النسلي فقط، إنما من منظور الهوية الحداثية الدولانية. بكلمات أخرى، لنا أن نتساءل لماذا تنسب إلى أبيها وسلالتها الأبوية دون الأمومية؟ ألا يمثل هذا الفصل والطمس شرعنة لممارسة ذكورية فحولية في تعريف الذات؟
الأمر المهم هنا أن تلك الممارسة هي في صلب مفهوم فحولة الدولة القومية الحديثة، فتلك الدولة تعرف المنتمين إليها من خلال النسل الأبوي، الأمر ذاته في النظر إلى مفاهيم المواطنة والانتماء وغيره، وهو ما نراه جذرًا أساسيًا في كل الممارسات العنصرية تقريبًا. من هنا لنا أن نفهم لماذا يميل المهاجمون لسمرة بشرة كليوباترا إلى استخدام تصنيفات خطابية تجاه من يحق له ومن لا يحق له الحديث عن الملكة كليوباترا، وكأن الأمر يتحول إلى شكل من أشكال الاستحواذ الأبوي، وهو كذلك على طول تاريخ الممارسات الذكورية في استحواذ الجسد المؤنث ومنحه قيمة فرعية من قيم الذكورة. بقي أن نبحث عن البياض في هذه الممارسات القائمة على النوع الاجتماعي.




هذا الشكل الخطابي المتلبس لبوس الثقافة باسم الدقة التاريخية، وتنوع لون بشرة المصريين، يتعامل مع الأمر بشكل أفقي مدعى، ويتجاهل ما مورس تجاه البشرة المصرية السمراء خصوصًا، وتجاه الافارقة عمومًا. ولنا أن نشير هنا إلى بعض النماذج الحديثة باقتضاب. في عام 2020، أثارت مسؤولة كينية اللغط باتهامها رئيس الوفد المصري في مؤتمر الجمعية العامة لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة في نيروبي، بالعنصرية، حين وصف الأفارقة بأنهم "كلاب وعبيد" (الجزيرة، 17/ 9/ 2020)، مما أثار جدلًا واسعًا على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث قالت منسقة لجنة الخبراء الأفريقية لدى برنامج الأمم المتحدة للبيئة، السفيرة الكينية إيفون خامتي، في مذكرة نشرتها على حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، إن المسؤول المصري هو "مساعد وزير البيئة"، ورئيس الوفد المصري إلى المؤتمر الذي عُقِد في نيروبي، وأضافت في مذكرتها أنه تحدث بالعربية، ووصف أبناء بلدان جنوب الصحراء الأفريقية بأنهم "كلاب وعبيد" في أثناء مناقشة قرار بشأن قطاع غزة لم يُتبنَّ لعدم توفر النصاب. بينما نشرت صحيفة اليوم السابع تحت عنوان "Niggers.. عصابات الرعب الأسود في القاهرة"، تحقيقًا صحافيًا مرفقًا بعنوان تكميلي "المراهقون الأفارقة ارتكبوا 115 جريمة"، شنّت الجريدة حملة "كراهية وتحريض" ضد الجالية السودانية في مصر (الجزيرة 17/9/2020). وكيف لنا أن ننسى فض قوات الأمن المصرية، الدموي، لاعتصام اللاجئين السودانيين في القاهرة، حي المهندسين تحديدًا، وكيف وقف المارة يصفقون لمشاهد الدماء والعنف. وهو ما أكّدته الدكتورة شيرين أبو النجا بقولها في حينه "إنها صُدمت لتصفيق الشباب في الشوارع لقوات الأمن وظهور خطاب عنصري في أوساط هؤلاء الشباب، والتي ظهرت تجلياته في وصفهم لهؤلاء اللاجئين بالكفرة والمجوس وأصحاب الرائحة الكريهة"(الحوار المتمدن 2006).

مالكوم إكس: إذا اشتعلت النار في بيت السيّد، فزنجيّ البيت سيقاتل بشدّة أكبر لإخماد الحريق ممّا يفعل السيّد (Getty)

هل يقف الأمر عند السودانيين في هذين النموذجين؟ لا نظن ذلك، إذ أن للأمر جذورًا تاريخية تتعلق بتاريخ العلاقات المصرية السودانية، سواء أيام الحكم المصري، أو الحكم الثنائي الأنجلو مصري في السودان قبل الاستقلال. وهو ما يدفع ثمنه المصريون النوبيون أيضًا، في تصاوير لا تتوقف عند "عثمان" خادم المنزل وحارسه في الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود.
يقول الأكاديمي والباحث جوزيف مسعد إن بعضًا من العرب يظنون أنفسهم بيضًا (الجزيرة، 2022)، وهنا نضيف نموذجًا شارحًا بشأن هذا الخطاب العنصري، بجانب كونه معبرًا عن متلازمة ستوكهولم التي تتعاطف فيها الضحية، وهي المصرية هنا، مع جلادها، وهو الاستعمار الأبيض، فهي تلعب أيضًا دور زنجي المنزل في مواجهة زنجي الحقل. يقول مالكوم إكس في "رسالته إلى الناس العاديّين"، التي أُلقيت في ديترويت في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1963: (وهي نفس السنة التي أنتج فيها فيلم كيلوباترا البيضاء المحتفى به مصريًا): "هنالك نوعان من العبيد، هنالك زنجيّ البيت، وزنجيّ الحقل، زنوج البيت هم الذين عاشوا في البيت مع السيّد، ارتدوا ملابس جيّدة، وأكلوا طعامًا جيّدًا، لأنّهم أكلوا طعامه، وما خلّفه. عاشوا في العلّيّة، أو القبو، لكنّهم عاشوا قرب السيّد، وقد أحبّوا سيّدهم أكثر من حبّ السيّد لنفسه، كانوا يقدّمون حياتهم لإنقاذ بيته أسرع ممّا كان هو نفسه ليفعل. إذا قال السيّد: لدينا بيت جيّد هنا. سيقول زنجيّ البيت: أجل، لدينا بيت جيّد هنا. متى قال السيّد: نحن. قال زنجيّ البيت: نحن. ذلك ما يمكنك أن تقوله عن زنجيّ البيت".
ويُكمل إكس، كما أورد ألبرت فمي في كتابه "المستعمِر والمستعمَر" (1991)، يقول: "إذا اشتعلت النار في بيت السيّد، فزنجيّ البيت سيقاتل بشدّة أكبر لإخماد الحريق ممّا يفعل السيّد. وإذا مرض السيّد، سيقول زنجيّ البيت: ما المشكلة يا سيّدي، هل نحن مرضى؟ نحن مرضى! إنّه يطابق نفسه مع سيّده أكثر ممّا يفعل سيّده مع نفسه. وإذا أتيت إلى زنجيّ البيت وقلت: دعنا نركض، دعنا نفرّ، دعنا نستقلّ. زنجيّ البيت سينظر إليك ويقول: يا رجل أنت مجنون. ماذا تعني، نستقلّ؟! أين يوجد بيت أفضل من هذا؟ أين يمكنني أن آكل طعامًا أفضل من هذا؟!
لعل هذا ما يفسر موقف النخبة الثقافية المصرية من فيلم كليوباترا ولون بشرتها. يذكّرنا هذا المشهد بفيلم Django Unchained (2012) للمخرج الأميركيّ كوينتين تارينتينو، الحائز على جائزتي أوسكار، حيث يؤدّي الممثّل الأميركيّ صامويل جاكسون دور "ستيفن"، وهو  "زنجيّ البيت" الذي يموت دفاعًا عن سيّده، مالك البيت "كالفين كاندي"، الذي يؤدّي دوره الممثّل الأميركيّ ليوناردو ديكابريو. وعلى وجه "ستيفن" تعلو أمارات الحزن أمام موت سيّده "كاندي"، ويبكيه ويبكي ذكرياته معه، في بكائيّة لا تختلف كثيرًا عن بكائيّة هؤلاء باسم الدقة التاريخية، والتي عادة ما يكتبها الرجل الأبيض، ليدافع عنها زنوج المنازل والقصور والقبب الإعلامية العاجية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.