}

في تتبع الترحال والرحيل: عن التاريخ والتأريخ

اجتماع في تتبع الترحال والرحيل: عن التاريخ والتأريخ
ملصق المعرض

ضمن برنامج "مشاريع في المختبر" لعام 2023، وبحثًا في مفهوم الأرشيفات بالعموم والأرشيفات العائلية تحديدًا، افتتحت مؤسسة خالد شومان - دارة الفنون، في العاصمة الأردنية عمان، معرضًا فنيًا بعنوان "في تتبع الترحال والرحيل". قدّم المعرض أعمالًا متنوعة لخمس فنانات تقدمن لإقامة فنية في المختبر، بإشراف الفنان رائد إبراهيم، حيث عملن على استكشاف أرشيفات عائلية، شخصية وغير شخصية، بحثًا عن التوثيق السردي والبصري لذكريات ومذكرات وشهادات، ولحظات غابت وأخرى لم تروَ بعد.

بين التاريخ والتأريخ

ترى ما الذي عناه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو حين قال: "لعل التاريخ قادر على حمايتنا من التأريخ". بالنظر إلى المسافة التي قطعتها الوثائق الأرشيفية المستخدمة في هذا المعرض، والتي درجت تسميتها "المواد الأولية"، وصولًا إلى العرض على الجمهور، في معرض الدارة، الكثير من الإجابة، والتأمل والجمالية.

تقدّم هذه الأرشيفات منظورًا للتاريخ الاجتماعي لهذه المنطقة من العالم، والتي حفلت في العقود الأخيرة بالكثير من الأحداث والتقلبات التي شكلتها وأثرت في تكوينها الاجتماعي والتاريخي. ومن هنا تأتي أهمية المادة الأرشيفية الأولية المستخدمة في هذا المعرض، ومبناها وعلاقتها الفرعية بين الفنانات وجمهور المساحات الثقافية والفنية. فأشكال المعالجة والتقييم والإشراف التي خضعت لها هذه المواد الأرشيفية الأولية، إنما أغنت مفهوم التأريخ باستخدام الفنون المعاصرة؛ إذ قدّم المعرض منهجية فنية للتأريخ، تقوم على تحويل القيمة الجمالية والفنية والأداتية إلى شكل من أشكال التأريخ الاجتماعي، من خلال العلاقة التي تربط الفنانات بالمواد الأرشيفية المنتقاة، من ناحية، ومن أخرى أشكال المعالجة ومنهجياتها.

فبينما تقوم أماني عادل بمعالجة بصرية يدوية للتاريخ البصري للأعراس وتوثيقها منذ مطلع القرن الماضي، بما شكلته الصورة الفوتوغرافية للأعراس من ذاكرة اجتماعية مشتركة، فهي تمنح تأويلات متباينة للعناصر البصرية في تلك الأرشيفات الفوتوغرافية، بما تحمله من تكوينات ساهمت في الذاكرة البصرية لشعوب هذه المنطقة، والتي يلاحظ الزائر للمعرض أن ثمة ألفة بصرية مع صور الأعراس تلك، راكمتها الحكايات المتناقلة، كما الثقافة البصرية من سينما وغيرها. لتفتح لنا الفنانة تأويلًا في الصورة من خلال المعالجة بالخياطة. "حضور متخيل"، عنوان العمل الخاص بأماني، إنما يجعل عملية التلقي داخل نفس هذا السياق والتاريخ الاجتماعي تأملًا لموقعنا ولأنفسنا في وثيقة تاريخية حاضرة، ألفتها أعيننا – ثقافيًا وتاريخيًا وفنيًا-  برغم البعد الزمني. وهو الامتحان الذي يؤسس له الاشتباك مع النسيج البصري للصور من خلال مواد مغايرة كالخيوط، لتفتح لنا كمتلقين مجالًا للحوار مع "الحضور المتخيل"، لأي درجة هو متخيل، وكيف للمتخيل أن يكون حاضرًا لهل الدرجة الملموسة كالخيوط. يمكن لنا أن نتخيل في التاريخ، وهذا هو لب المعالجة الفنية لمقولتين أساسيتين شكلتا التكوين الاجتماعي في منطقتنا؛ ألا وهما: الذاكرة والتاريخ.

من المعرض


وتحاول أرزاق أبو عيد، من خلال رحلة ذاتية لها، وبالاستناد إلى شهادات عائلية، إعادة تصوّر الخط الروائي لرحلة فلسطينيي الكويت إبّان الغزو العراقي، وما شكله هذا الأمر من سردية ذاكراتية خاصة لدى من باتوا يعرفون بـ "فلسطينية الكويت"، والذين كان لهم تكوينهم الاجتماعي الخاص بهم والمتفرد على امتداد جغرافيا الشتات الفلسطيني، والتاريخ السياسي للفلسطينيين. إن المعالجة التي أتمتها الفنانة، إنما تسائل سياق جماعة باتت فجأة وللمرة الثانية في تاريخهم مطرودين ومنفيين وبلا دولة. لعل هذه الإشارة تحضر واضحة في سؤال الخلفية في المواد البصرية الفوتوغرافية التي اعتمدت عليها الفنانة في عملها بعنوان "أيام لن تعود"، لأي درجة لنا أن نصدق تلك المقولة، فلسطينيًا؟.

إن المعالجة التي أتمتها الفنانة وقدمها المعرض، إنما تحاول التأكيد على إرث الحكاية الشخصية الشفاهية داخل مؤسسة التوثيق والتأريخ. لتصبح الحكاية والصورة هنا توثيقًا يعلي من التجربة الإنسانية بقيمها الجمالية والدرامية على التحليل السياسي، وبالذات بالنظر إلى موقع الفنانة من أرشيفاتها في هذا المشروع.

تقدّم هذه الأرشيفات منظورًا للتاريخ الاجتماعي لهذه المنطقة من العالم، والتي حفلت في العقود الأخيرة بالكثير من الأحداث والتقلبات التي شكلتها وأثرت في تكوينها الاجتماعي والتاريخي

يعتمد المعرض والمعالجة الفنية للمواد الأرشيفية الأولية على مناهج مختلفة. فنرى في "رشاد"، وهو العنوان المختار لعمل زينة الغول الفني، خيوط عودة جدها الذي عشق التصوير أملًا في العثور على الحلقة المفقودة من حكايته قبل رحيله. إن بحث زينة عن أثر جدها، إنما هو بوجه ما من الأوجه استعادة لموقعه خلف الصور الفوتوغرافية من خلال العلاقة بين آثاره فيها، ومن خلال موقعها هي فيها أيضًا. الأمر هنا هو تأويل بصري – فوتوغرافي للصمت الذي تلا موت "رشاد" في هذه العائلة، وتجربتها الجماعية كأفراد، والفردية لكل عضو في تلك العائلة. إن "رشاد" هنا يشبه في بنائه عملية معالجة للنصوص البصرية الفوتوغرافية من خلال مفهوم التحديق والبحث عن الأثر، من خلال صندوق الفرجة، الذي تم بناؤه في المعرض.

في "اختفاء ... إعادة ظهور"، توظف آية أبو غزالة استعارة أساسية في المخيال البشري في معالجتها للمواد الأرشيفية الأولية بحوزتها، وهي استعارة "الطين". والتي تحضر في المخيال البشري باعتبارها مادة الخلق البشري والبناء العمراني، ولو تأملنا قليلًا لوجدنا أن الوثيقة التاريخية الأرشيفية من دون العمران والإنسان، وكلاهما امتداد لرمزية طين الخلق وطين البناء، كانت أقل قيمة.

توثق آية أبو غزالة هجرات عائلتها المتكررة بين مخيمات اللجوء والسكن المؤقت، وتمتحن من خلال الطين والقماش والورق، مقولات عصرنا عن المؤقت والدائم في الانتقال بين الأوطان والمنافي، وبين البيوت والحكايات. تقول آية إن "العقد الذي ولدت فيه، توقف الجميع عن الحركة"، لعل هذا التوقف هو أحد أهم أشكال الحركة التي شكلت المنطقة العربية مؤخرًا وانعكست من خلال تغيرات التركيب الاجتماعي والتاريخي للمنطقة في العقود الأخيرة.

من المعرض


وأما في "فينومينولوجيا السؤال"، فتوظف الفنانة ماريا خرزم عملًا تركيبيًا سمعيًا وبصريًا، يستعيد فكرة أساسية وهي أن الصوت والاستماع إنما هما مواد وأفعال اجتماعية. يضع عمل ماريا الصوت كمادة أساسية في الفنون المعاصرة والحديثة باعتباره مادة تاريخية وجمالية في آن، أي أن له حكاية، تتخطى مضمون الصوت ومقولته المباشرة. فماريا من خلال الاستماع إلى الأحاديث الصوتية المتضمنة في تلك الأرشيفات، وإمكانية إعادة الاستماع لها إنما تقدم حفرًا رأسيًا في الوثائق الأرشيفية الصوتية، بحثًا عن الأثر والحكاية، في حين أن العين في مناهج التوثيق والأرشفة إنما لا تعنى بالمضمون السمعي بقدر محمولات الوثيقة البصرية. ما يقدمه "فينومينولوجيا السؤال" في برنامج "مشاريع في المختبر"، في دارة الفنون، إنما هو فرصة للمتلقين والمستمعين لأن يكونوا جزءًا من صوت الوثيقة والحدث التاريخي فيها، ولعل فرادة المبنى الفني والمعالجة في مساحة المختبر أيضًا، هي التي تمنح الوثيقة مساحة اجتماعية تحقق مقولة فوكو، أعلاه.

إن برنامج "مشاريع في المختبر"، الذي تقيمه دارة الفنون، إنما يقدم شكلًا مركبًا من الفنون المعاصرة، يقوم على جعل المعالجة والعلاقة بين الوثائق التاريخية والأرشيفات، عملًا فنيًا في حد ذاته. حيث الأعمال المشاركة تساؤلات حول ثنائيات الشخصي والعام، الخاص والتشاركي، المخفي والمُعلن، المؤقت والدائم، الحاضر والغائب، المحكي واللا محكي، من خلال مواد أرشيفية جرت العادة التاريخية أن ينظر إليها باعتبارها حكاية كل شيء فيها.

كما يقدّم المعرض بشكله الجماعي أساليبه الخاصة في السرد وتجاوز حدود الرواية العائلية، وإعادة قراءة التاريخ الشخصي ضمن سياق فضاءات العرض والمساحات العامة، فهو بذلك مساحة تجريبية فنية، تعطي الجمالي في الوثيقة نفس القيمة الممنوحة للتاريخي والسياسي والاجتماعي، بل إنها تمنحه دورًا أساسيًا في التاريخ بما هو حكايتنا جميعًا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.