}

التمثال المتحرك لرأس كافكا.. أعجوبة بفن النحت الحديث والتكنولوجيا

ناصر ونوس ناصر ونوس 22 يونيو 2022
أمكنة التمثال المتحرك لرأس كافكا.. أعجوبة بفن النحت الحديث والتكنولوجيا
التمثال من جهات عدة (بعدسة الكاتب)




عند زيارتي لمدينة ما، عادة ما تكون رغبتي الأولى هي البحث عن متاحف بيوت الكتاب الذين ولدوا أو عاشوا أو درسوا أو عملوا في تلك المدينة، لينطبق بذلك عليّ قول الشاعر أبي نواس:

عاج الشقي على رسم يسائله         وعجت أسأل عن خمارة البلد

وللأسف فإن الشقي الذي يقصده أبو نواس في هذه الحالة هو أنا. مع ذلك، فأن تتعرف على المكان الذي يحمل ذكرى كاتب ما، لهي متعة كبرى تتمثل في الاكتشاف العياني للجوانب التي لم يكتب عنها ذلك الكاتب في أعماله. أو كتب عنها بأسلوبه الأدبي الممزوج بخياله الإبداعي. فتكون مهمتك هنا هي اكتشاف الفارق بين الواقع (المكان) والخيال (النص الإبداعي).

في زيارتي الأولى للعاصمة التشيكية براغ كانت مهمتي الأولى هي البحث عن أي مكان متعلق بالكاتب الألماني التشيكي الأصل فرانز كافكا. سألت عن ذلك صديقي الصحافي عمر بسيسو، فأخذني مباشرة إلى تمثال كافكا المتحرك المنتصب وسط إحدى أشهر ساحات المدينة. ما إن وصلنا إلى موقع التمثال إلا وكانت المفاجأة مما رأيناه! ربما يحتاج الأمر لناقد فني على علاقة وثيقة بأدب كافكا كي يفسر حركة هذا التمثال الرأسي الذي لا يكاد يستقر على وضعه الطبيعي إلا ويتحرك باتجاه التشوه، بحيث تصبح أجزاء الرأس والوجه مبعثرة في اتجاهات مختلفة؛ قمة الرأس متجهة إلى الأمام، والعينان في الخلف والأنف في الجانب، بينما الفم في الجانب المعاكس، عاكسًا بذلك الوضع النفسي والاجتماعي القلق والمضطرب الذي كان يعيش فيه كافكا، والذي عبّر عنه في عدد من قصصه ورواياته القصيرة مثل "الانمساخ" و"الحكم" و"رسالة إلى الوالد". بل إن التمثال لا يتوقف عن الحركة، متغيرًا ومتحولًا باستمرار مثل شخصية "ك K" في رواية كافكا "التحول" أو "الانمساخ".

والأمر لا يقتصر على الحركات هذه، بل يتعداه إلى الأصوات التي تصدر في أثناء حركات أجزاء الرأس هذه، لتعزز لدى المتفرج الشعور بالصخب والاضطراب الذي يعتمل في داخل رأس هذا الكاتب العظيم الذي لا يكاد يمر يوم إلا ويذكر فيه اسمه في صحيفة ما في بلد ما من هذا العالم، وفق ما كتب مترجمه الأبرز إلى العربية إبراهيم وطفي.

وإذا أتينا إلى المادة التي صنع منها هذا التمثال نراها المعدن المطلي بمادة النيكل اللماع الشبيهة بالمرايا، أو المعدن الملبّس بالمرايا ذاتها. إنها مرايا تنعكس عليها البيئة المحيطة بالتمثال الرأسي. ولما لا؟ ألم يكن أدب كافكا أيضًا انعكاسًا للمحيط الاجتماعي الذي عاش فيه الكاتب، حاله حال جميع كتاب الواقعية الاجتماعية؟ وهو ما تجلى في معظم أعماله إن لم يكن كلها.

افتتح هذا التمثال ليكون متاحًا للزوار في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2014 بعد أن أنجزت عملية تركيبه، وهو من تصميم الفنان التشيكي الذي يوصف بالفنان المثير للجدل، ديفيد سيرنو، في الحي اليهودي في العاصمة التشيكية براغ التي ولد فيها كافكا عام 1924. ويقع بالقرب من الكنيس الإسباني ومركز كوادريو التجاري، ومباشرة فوق محطة مترو نارودني تريدا. وأهم من كل ذلك، بالقرب من المبنى الذي عمل فيه كافكا كموظف في شركة تأمين. يبلغ ارتفاعه أحد عشر مترًا، ووزنه خمسة وأربعين طنًا، ويتألف من اثنتين وأربعين صفيحة دوارة، كل واحدة منها تدور بشكل مستقل استدارة كاملة، أي بزاوية ثلاثمئة وستين درجة، لتمثل مجتمعة رأس كافكا بتعبيراته المختلفة الواقعية والمجازية والمتحولة. ممثلًا بذلك أعجوبة بحد ذاتها ليس في فن النحت الحديث فحسب، وإنما في عالم التكنولوجيا أيضًا.

قال عنه مبدعه الفنان سيرنو: "إنه ليذكرك بكافكا عندما تكون محبطًا تمامًا من عدم كفاءة موظفي الدولة".

لكن هذا التمثال ليس وحيدًا في هذا العالم، فهو شبيه بتمثال آخر للفنان نفسه، ديفيد سيرنو، يحمل اسم ميتالمورفوسيس، ويقع في حديقة التكنولوجيا الواقعة في منطقة شارلوت في ولاية كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. مما يؤكد فكرتنا بأن هذا التمثال هو أعجوبة تكنولوجية بقدر ما هو أعجوبة نحتية.

لكن الفارق بين التمثالين هو أن ميتالمورفوسيس (Metalmorphosis)، الذي يزيد اسمه بحرف واحد فقط هو اللام عن اسم رواية كافكا بالإنكليزية (Metamorphosis) واسمها بالألمانية (Die Verwandlung) أي التحول أو الانمساخ (حسب ترجمة وطفي) ينتصب وسط بحيرة في الحديقة المذكورة ويتدفق الماء من فمه ويمثل الفنان نفسه (ديفيد سيرنو) الذي قال عنه مرة: "هذا ما أشعر به، إنه صورة ذاتية ذهنية". إن كونه ينتصب وسط البحيرة يعطيه أبعادًا جمالية أكثر عندما ينعكس على صفحة الماء الذي يتغير لونها وشكلها وتقلباتها تبعًا لتغير حالة الطقس وأوقات النهار والليل والأضواء والظلال المحيطة.

- لمشاهدة التمثال وهو يتحرك، قمت بتصوير مقطع فيديو له. يمكن مشاهدته بالنقر هنا أو على الرابط التالي:

https://www.youtube.com/watch?v=mcA88TzIEp4&t=3s

 

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.