}

"سوق البرغوث أو المُستَعْمَل" بدريسدن: تحف الأدب والفكر العالمي

ناصر ونوس ناصر ونوس 1 أغسطس 2023
تغطيات "سوق البرغوث أو المُستَعْمَل" بدريسدن: تحف الأدب والفكر العالمي
سوق البرغوث على ضفة نهر إلبي في دريسدن

على ضفة نهر إلبي في مدينة دريسدن الألمانية، وفي المنطقة الممتدة من جسر ألبيرت وعلى امتداد نحو خمسمئة متر في اتجاه الشرق، أي في اتجاه جمهورية التشيك، يفترش الدريسدينيون كل يوم سبت الأرض ناثرين فوقها، وفوق طاولات صغيرة، أشياءهم القديمة التي لم يعودوا في حاجة إليها، عارضينها للبيع لمن يهتم أو يرغب.

تسمى هذه السوق الأسبوعية بـ "سوق البرغوث" والبعض يسميها "سوق المُستَعْمَل"، ولا تكاد تخلو من مثلها مدينة كبرى، ألمانية أو حتى غير ألمانية. يقال إن التسمية أتت من أحد مصدرين أو احتمالين أو من كليهما، الأول هو أنه قبل مئة أو مئتي عام، عندما بدأت ظاهرة بيع الأشياء القديمة، كان من بين هذه الأشياء الملابس التي إما مات أصحابها أو أن أصحابها لم يعد لديهم رغبة في ارتدائها، وعندما كانوا يأتون بها إلى هذه السوق للبيع، كانت بعض البراغيث ما زالت تعشش في ثناياها، ومن هنا تمت تسمية هذه السوق بـ "سوق البرغوث"، أي لتوفر الكثير من البراغيث في جنبات السلع المعروضة للبيع وثناياها، وبالتالي كان على المشتري شراء السلعة مع براغيثها كحزمة واحدة. أما المصدر أو الاحتمال الثاني للتسمية، فيقال إنها جاءت من السعر البخس الذي تباع به هذه الأشياء القديمة عادة. والله أعلم.

في هذه السوق يعود المرء إلى اكتشاف الأشياء المنسية، والتي لم تعد تخطر على بال أحد، ربما من عشرات السنين. وهي أشياء من مختلف الأنواع والأشكال والألوان، والتي من الصعب أن يتصوّر المرء أنها ما زالت متوفرة. من بينها كافة حاجيات البيوت ومستلزمات المعيشة وأدواتها بكافة أشكالها وأنواعها، والحاجيات الشخصية من ثياب وأحذية، وأغراض وأدوات لا تعد ولا تحصى من زمن جمهورية ألمانيا الديمقراطية: أوسمة ونياشين وشعارات تعلق على الصدور، صور وألبومات قديمة، دراجات نارية ما زالت تعمل، دراجات هوائية... أشياء يعتقد المرء أنه من المستبعد أن يكون هناك أحد يهتم بها، ومع ذلك، ستجد من يهتم بها ويقتنيها من جديد وربما يعتبرها تحفة أثرية. والدليل على ذلك هو أن تشاهد شخصًا أو فتاة يحمل بيده أو يدها، مثل هذه "التحفة". على سبيل المثال لا الحصر: دلو معدني كان يستخدم لسقاية الدواب. أو نوافذ خشبية عتيقة، وربما مهترئة، لبيوت بنيت قبل أكثر من مئة عام وقام أصحابها بتجديدها، وبدل أن يرسلوها إلى مكب النفايات، يعرضونها للبيع، متأكدين وواثقين من أنهم سيجدون من يشتريها، وعادة ما يجدونه بالفعل، لينطبق عليهم المثل القائل: "رزق الهبل على المجانين". ماذا سيفعل بها هذا المشتري يا ترى؟ لا أحد يعرف. وإذا أتينا للأشياء الصغيرة والحميمية، بالنسبة لي على الأقل، فيمكن للمرء أن يجد مثلًا مذياعًا من ماركة فيليبس أو غرونديغ أو توشيبا أو ناشيونال، يعود تاريخ إنتاجها إلى ستينيات وسبعينات القرن الماضي، من مختلف الأحجام؛ على سبيل المثال، من النوع الذي كان والدي يقتنيها ويضعها في صدر الدكان، أو البيت، حيث تستقبل نشرات الأخبار بأصوات مذيعي إذاعة صوت العرب، أو إذاعة لندن، أو إذاعة الشرق الأوسط، أو أغاني أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم من مطربي تلك المرحلة التي كان والدي يعشقهم، وورثنا عنه ذلك العشق. من بين الأشياء الجميلة أيضًا التي يمكن للمرء أن يعثر عليها في هذه السوق كاميرات البراكتيكا أو بينتاغون والتي كانت مدينة دريسدن مقرًا لمصنعها، واستمر في إنتاجها حتى عام 1990.

"ألف ليلة وليلة" و"أولاد حارتنا" في السوق


أما أكثر الأشياء اهتمامًا بالنسبة لي، صاحب النفس الأمّارة بشراء الكتب واقتنائها، فهي الكتب، بطبيعة الحال. متعة لا توصف عندما أجد في هذه السوق مؤلفات الكتّاب الألمان على وجه الخصوص، مسرحيات وأشعار بيرتولد بريشت وغوته وشيلر، وروايات كافكا وهاينريش بول وبيتر فايس وغونتر غراس وهيرمان هيسه وأريش ماريا ريمارك وباتريك زوسكند ومارتن فالزر وأريش كيستنر، والقائمة تطول... والمؤلفات الفلسفية والنقدية لكل من ماركس وهيغل وكانط ونيتشه وفالتر بنيامين وهابرماس وأدورنو وبقية جماعة مدرسة فرانكفورت. كتب بطبعات قديمة، وقديمة جدًا أحيانًا، يمكن أن يشتريها المرء بيورو أو اثنين أو ثلاثة يوروهات. مرة وجدت كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي صدر بالألمانية بعدة ترجمات وبأزمنة مختلفة، وقد كتب على هذه النسخة "اختاره وحرره هاينز غروتسفيلد، وصدر عن دار رولد تاشنبوخ للنشر قرب هامبورغ عام 1995، وتعود حقوقه الأصلية لدار إنزل للنشر بين عامي 1921 و1928". ومن الكتب الأخرى التي وجدتها أيضًا، على سبيل المثال، طبعة قديمة جدًا، بلا تاريخ، للأعمال الكاملة لغوته، وطبعة تعود لمنتصف الخمسينيات، ربما تكون الأولى، لبعض مسرحيات بريشت. وطبعة تعود لعام 1946 لكتاب "نقد العقل المحض" لكانط. وكتاب عن سورية وبلاد الشام صادر عام 1971 لرحالة ألماني كان قد زار المنطقة وكتب إثر ذلك هذا الكتاب وضمّنه بعض الصور التي التقطها للأمكنة التي زارها. كما يمكن العثور على المؤلفات الكاملة لأشهر كتاب ألمانيا والعالم، وبأسعار بخسة. وبالتالي يمكن للمرء أن يجمع مكتبة تضم تحف الأدب والفكر العالمي ببضع مئات من اليوروهات. صحيح أن قراءة أغلب هذه الكتب وفهمها على أكمل وجه، ما زال صعبًا بالنسبة لي، لكن أن تجد هذه الكتب في السوق وتشتريها وتقتنيها في بيتك وعلى طاولتك أو في مكتبتك، مع الإحساس بأن أولادك سيقرؤونها يومًا ما، لهي متعة لا توصف. لكن، إذا ما تحدثنا عن الجانب السلبي في الأمر، مثل هذه المكتبة سرعان ما تتحول إلى عبء لمن لا يمتلك بيتًا مستقرًا فيه، ولهذا لا بد للمرء أن يفكر مطوّلًا قبل شرائه أي كتاب.

إن بيع الكتب في هذه السوق لا يقتصر على سكان المدينة، ففي إحدى المرات تعرفت في السوق على عجوز أتى هو وزوجته من مدينة كولونيا غربي البلاد، مصطحبًا معه ما تيسّر له حمله من الكتب في سيارته (يبدو أنها مكتبته الشخصية). الهدف من ذلك لا يكون عادة الربح المحض وإنما نوع من السياحة والتعرف على أماكن جديدة ولقاء أناس جدد من خلال بيع الكتب. من الكتب التي كان يعرضها الأعمال الكاملة لإريش كيستنر، ابن مدينة دريسدن والتي تضم متحفًا باسمه لأعماله ومقتنياته. كان يتوقع أن يتم بيع هذه الأعمال. لكن الوقت أصبح متأخرًا ولم يتم بيعها. عرضها عليّ بسعر بخس، لكنني للأسف لم أشترها للسبب المذكور أعلاه.

في أحد الأيام، وبينما كنت أتمشى في هذه السوق، رأيت من بعيد، وعلى نحو لافت، خيمة كبرى. وعندما اقتربت منها وجدت أنها مليئة بالكتب المرتبة على رفوف خشبية. وعندما اقتربت أكثر، وجدت هذه الكتب مصنفة بحسب الموضوعات. يا له من اكتشاف. عندما خلص البائع من المداولة مع بعض الزبائن اقتربت منه وبدأت معه حديثًا. إنه قادم من إحدى مدن تورينغن التي تبعد نحو مئتي كيلومتر عن دريسدن. حدثني عن تجربته في جمع الكتب وتأمين مكان لحفظها بالتعاون مع بلدية المدينة، التي أعطته مكانًا مهجورًا قام بإعادة تأهيله ووضع الكتب فيه وحوّله إلى مقهى ثقافي. خصوصًا بعد أن صار عدد هذه الكتب يفوق التوقع، "حوالي نصف مليون كتاب" حسب قوله، لكن لا بد وأن يكون الرقم مبالغًا به. يقوم هذا البائع العاشق للكتب، بزيارات متكررة للمدن التي تضم أسواقًا كهذه السوق، ينصب الخيمة ويرتب الكتب على الرفوف مصنفًا إياها حسب الموضوعات، ويبدأ في بيعها. سألته إن كان الأمر يستحق كل هذا الجهد والعناء من تحميل هذه الكتب في عربة تجرها سيارة قوية تستهلك الكثير من الوقود، وقطع هذه المسافة الطويلة، وإعادة تنصيب الخيمة وترتيب الكتب ليوم واحد فقط، ثم نقل الكتب من جديد إلى العربة والعودة بها إلى مدينته.

إحدى الطبعات الأولى لمؤلفات شاعر ألمانيا الأشهر فولفغانغ فون غوته، و"نقد العقل المحض" لكانط بطبعة قديمة و"تاريخ الأدب الألماني"


- نعم يستحق. حيث إنني أعيش تجربة بيع جديدة والتعرّف على أماكن جديدة وأناس جدد مثلك على سبيل المثال... كما أنني غدًا سأنتقل إلى أحد شوارع المدينة وأنصب الخيمة فيه وأبدأ في البيع، أجاب.

- بماذا يمكنني مساعدتك؟ سألته.

- يمكنك أن تأتي في أي وقت وتساعدني في البيع.

- حسنًا سآتي غدًا.

وفي اليوم التالي أتيت وساعدته قليلًا في البيع، وفي إعادة الكتب إلى العربة عندما حان الوقت لعودته إلى مدينته. سألته إن كان لديه كتب عربية مترجمة إلى الألمانية.

- عندي بعضًا منها، سأجلبها إليك في المرة القادمة، أجاب.

بعد نحو شهر وبينما كنت أسير في السوق وجدت الخيمة فاقتربت منه وسلمت عليه. لقد أحضر لي ثلاثة كتب. اثنان لنجيب محفوظ هما "أولاد حارتنا" و"اللص والكلاب" والثالث هو كتاب باللغة الفارسية، اشتبه بأنه عربي بسبب تشابه الأحرف الأبجدية.

هكذا هي "سوق البرغوث" في دريسدن إذًا، والتي اعتدنا على تسميتها بـ "سوق السبت" ويمكنك أن تجد فيها كل ما تتوقعه وما لا تتوقعه وتستمتع باكتشافه.

[الصور بعدسة الكاتب]

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.