}

"سيمبر أوبر" في دريسدن.. من أجمل مسارح العالم

ناصر ونوس ناصر ونوس 21 أغسطس 2022
أمكنة "سيمبر أوبر" في دريسدن.. من أجمل مسارح العالم
واجهة "سيمبر أوبر" أو أوبرا دريسدن في ألمانيا

لم يكن ملوك سكسونيا، وألمانيا عمومًا، بل وأوروبا قاطبة، مجرد ملوك عاديين يحكمون رعايا. بل كانوا من عشاق الثقافة ومتذوقي الفنون، وأولها فن العمارة. ولا أدل على ذلك من التحف المعمارية التي بنوها وتركوها لتتمتع بها الأجيال اللاحقة على مر العصور. من بين هذه التحف المعمارية، دار الأوبرا في دريسدن، التي تسمى "سيمبر أوبر"، والتي يعدها كثيرون أجمل دور المسارح في العالم.
ينتصب المبنى في ساحة شاسعة، هي ساحة المسارح، وسط مدينة دريسدن (القديمة) بجوار الجدار الشرقي لقصر تسفينغر، ولا يبتعد سوى بضع مئات من الأمتار عن نهر إلبي.
تعود تسمية "سيمبر أوبر" إلى المهندس المعماري جوتفريد سيمبر الذي صمم المبنى وأشرف على بنائه.
وكان جوتفريد سيمبر (29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1803 ـ 15 مايو/ أيار 1879) مهندسًا معماريًا ألمانيًا، وناقدًا فنيًا، وأستاذًا في الهندسة المعمارية، قام بتصميم وبناء دار أوبرا سيمبر في دريسدن بين عامي 1838 و1841. في عام 1849، شارك في انتفاضة مايو/ أيار في دريسدن، ونتيجة ذلك تم إدراجه على قائمة المطلوبين للحكومة، فلم يكن أمامه إلا الهروب خارج البلاد. حطّ به الرحال أولًا في مدينة زيوريخ السويسرية، ثم توجه إلى لندن. وبعد العفو عن الثوار الذي صدر عام 1862 عاد إلى ألمانيا.
كتب سيمبر كثيرًا من الدراسات والمقالات عن أصول العمارة، أهمها كتابه "العناصر الأربعة للهندسة المعمارية"، الذي صدر عام 1851. وكان أحد الشخصيات الرئيسية المشاركة في الجدل الدائر حول النمط المعماري متعدد الألوان لليونان القديمة.




وإضافة إلى مبنى الأوبرا في دريسدن، قام جوتفريد سمبر بتصميم وبناء عدد من المعالم المعمارية، مثل غاليري سيمبر، التي يضمها قصر تسفينغر، ومبنى "مكسيميليانوم" في ميونيخ، ودار مسرح المهرجانات في مدينة بايروت، والمعبد اليهودي في دريسدن الذي بناه وفق نمط العمارة الإسلامية المغاربية، والذي تمت إزالته عام 1938. وفي النمسا، شارك سيمبر المهندس المعماري، بارون كارل فون هاسيناور، في بناء "متحف التاريخ الطبيعي"، و"مسرح بورغ"، و"متحف ومكتبة نوي بورغ"، و"متحف تاريخ الفنون" في فيينا.
ناقش عدد من المتخصصين الأسلوب المعماري لمبنى "سيمبر أوبر"، الذي ينطوي على أنماط وأساليب معمارية عدة، منها أسلوب عصر النهضة المبكر، ونمط عمارة الباروك. كما أنه يتميز بأعمدة من الطراز الكورنثي النموذجي لليونان الكلاسيكية (الإحياء الكلاسيكي). وبالتالي، ربما تكون التسمية الأكثر ملاءمة لهذا الأسلوب المعماري هي "الانتقائية"؛ حيث يعد مزيجًا من العديد من الأساليب ـ وكان هذا النمط هو الأكثر شيوعًا خلال تلك الفترة.
تم إنشاء التصميم الداخلي من قبل المهندسين المعماريين المشهورين في ذلك الوقت مثل يوهانس شيلينغ. وتصور المنحوتات الموجودة على البوابة فنانين مشهورين، مثل يوهان فولفجانج فون غوته، وفريدريش شيلر، ووليام شكسبير، وسوفوكليس، وموليير، ويوريبيدس، والتي قام بنحتها عدد من أشهر النحاتين في ذلك العصر، مثل إرنست ريتشل، وإرنست يوليوس هانيل. هذا إلى جانب عشرات التماثيل والمنحوتات الموزعة على مدخله الرئيسي وأعمدته وجدرانه الداخلية والخارجية، أهمها تمثال "بانثر كواردريغا مع ديونيسوس وأريادني" (Panther Quadriga with Dionysus and Ariadne)، الذي ينتصب أعلى المدخل الرئيسي، وهو من أعمال النحات يوهانس شيلينغ (1828 ـ 1910)، الذي نحت أيضًا التمثال الذي ينتصب أمام دار الأوبرا للملك يوهانس (جون) ملك سكسونيا معتليًا حصانه.

منحوتتان واحدة لغوته، والثانية لشيلر، على جانبي المدخل الرئيسي لدار الأوبرا "سيمبر أوبر"


الخبر الصاعق والمؤسف لعشاق الفنون، وخصوصًا فن العمارة، هو أن مبنى الأوبرا هذا تم تدميره مرتين. الأولى كان نتيجة حريق شب فيه عام 1869. لكن أهالي دريسدن سارعوا على الفور لإعادة بنائه وفق ما كان عليه تمامًا، وبناء على المخططات المعمارية نفسها. وتم افتتاحه في عام 1878. أما المرة الثانية فكان تدميره متعمدًا، على أيدي قوات التحالف (البريطانية والأميركية) خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية في عام 1945، خلال القصف الجوي الهمجي العنيف والواسع لمدينة دريسدن في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من شهر فبراير/ شباط عام 1945، والذي لم يكن له أي مبرر عسكري، سوى تعمّد القضاء على هذه الصروح والتحف المعمارية الحضارية الفائقة الجمال لمدينة دريسدن. لكن بعد أربعين عامًا، أي في الثالث عشر من فبراير/ شباط عام 1985 اكتملت عملية إعادة بناء دار الأوبرا "سيمبر أوبر" كما كانت عليه قبل الحرب. وأعيد افتتاحها بالأوبرا نفسها التي تم عرضها قبل التدمير في عام 1945، أي أوبرا "دير فرايشوتز"، من تأليف الموسيقي والمايسترو كارل ماريا فون ويبر. كانت عملية إعادة الافتتاح هذه احتفالًا اجتماعيًا ثقافيًا شارك فيه المئات، وربما الآلاف من أهالي دريسدن ومحيطها من عشاق هذا الفن العريق. أما المقصورة الداخلية فقد تم بناؤها وفقًا للقوالب والخطط الأصلية المتاحة، مسرح وقاعة مجهزة بأحدث التقنيات. بينما تم تخصيص مبنى آخر جديد ليكون مقرًا لمكاتب الإدارة ومساحات للتدريب. تشتهر "سيمبر أوبر" عالميًا بما يقدم فيها من عروض لا تضاهى بأصوات ذات فخامة عالية، والتي ما تزال تجتذب جمهورًا كبيرًا من جميع أنحاء العالم.




أما فن الأوبرا في مدينة دريسدن فيعود تاريخه إلى عام 1548. وهو تاريخ تأسيس "فرقة مدينة دريسدن السكسونية" (Saxon Staatskapelle Dresden) التي أصبحت إحدى أشهر الفرق الموسيقية في العالم. وفي عام 1667 تم افتتاح أول دار للأوبرا تحت قيادة رئيس المحكمة يوهان أدولف هاس. ومن يومها بدأت أوبرا دريسدن في التطور والنمو لتجعل من دريسدن عاصمة الأوبرا الأوروبية.
في دار أوبرا دريسدن "سيمبر أوبر" أسس كارل ماريا فون ويبر عام 1817 "فرقة أوبرا سكسونيا". وفي "سيمبر أوبر" أيضًا تمت كتابة تاريخ الأوبرا مع عدد من العروض الأولى، مثل "الهولندي الطائر"، و"تانهاوزر"، و"رينزي"، لريتشارد فاغنر، الذي أصبح في عام 1843 مدير موسيقى البلاط. وكان هنالك أكثر من 40 عرضًا أوليًا، بما في ذلك تسعة عروض لريتشارد شتراوس، منها "سالومي"، و"إلكترا"، و"دير روزنكافالييه". وبحلول عام 1938، قدمت خمسة عروض أوبرالية أخرى في العالم لأول مرة في دريسدن. وإلى الآن يجري افتتاح عدد من العروض الأوبرالية للفرق العالمية للمرة الأولى في دار "سيمبر أوبر"، إضافة إلى عروض الفرق المحلية المتواصلة.


(الصور بعدسة كاتب المقال).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.