}

"الإنسانيّة": وقائع موتٍ غير معلن!

جورج كعدي جورج كعدي 7 نوفمبر 2023
اجتماع "الإنسانيّة": وقائع موتٍ غير معلن!
أطلق نيتشه مقولة "موت الله"، ليعلن فوكو "موت الإنسان"

في لجّة العدم تغور "الإنسانيّة" أكثر فأكثر مع كلّ مذبحة جديدة تشلّع أجسادًا طريّة لأطفال بالحديد والنار، وها محرقة غزّة الرهيبة ماثلة للعيان. نحن إزاء موت "إنسانويّة" هذا الكائن المدعو "إنسانًا" الذي سبق لميشال فوكو أن أعلن موته، فيما يستمرّ فلاسفة ومفكّرون آخرون في إنكار هذا الموت المعلن، غارقين في المزيد من الأوهام واليوتوبيّات وإسباغ المعاني المتهافتة على الوجود و"القيم" و"التطوّر" و"الوعي" و"السلام" و"الشُرعات" الواهمة مثل "حقوق الإنسان" بكامل هرائها الإنشائيّ الذي لا مكان له في ميدان الواقع، تاريخيًّا وأنثروبولوجيًّا. فمذ انتصب هذا الكائن المتوحّش على "قائمتيه"، قبل عشرات ألوف السنين، وهو لا يني يقتل أقرانه (متلذّذًا ومنتشيًا) بأبشع أساليب القتل، خائضًا حروبه الدمويّة بلا توقّف، ممجّدًا العنف والمجازر تحت عناوين "الشجاعة" و"البسالة"، منفّسًا عن عدوانيّته الكامنة والمتأصلة بذرائع شتى "عرقيّة"، "قوميّة"، "دينيّة"، "ثوريّة"، "تغييريّة"... تصبّ بالنهاية في حقيقة وحيدة ثابتة: هذا الكائن المدعو "إنسانًا" مفطور على العدوانيّة والقتل، وهو أوحش الكائنات على الإطلاق، متفوّقًا حتى على الديناصورات المنقرضة!

هذا "الإنسان" الذي لم يلفظ الحرب ويُسقطها من قاموسه، رغم تاريخه السحيق في القدم، ورغم ادعائه "التطوّر" و"ارتقاء الوعي" و"الحداثة" و"الخروج من الأطوار البدائيّة"، ما انفكّ هو نفسه، كائنًا عدوانيًّا، مجرمًا، ساديًّا، ولم يتبدّل شيء في واقعه القديم – الجديد سوى أنّه "طوّر" آلات القتل فصنع القنابل النووية (وألقى بها) والأسلحة الكيماوية المرعبة والطائرة الحربيّة القاتلة والمدمّرة التي ألغت حتى صفة "الشجاعة" في الحروب والقتال وجهًا لوجه كي تضحي أجبن سلاح يمكن أن يتخيّله عقل (الطيّار الحربيّ هو بالتأكيد الجندي الأجبن والأحقر والأوحش والأكثر افتقارًا إلى الصفات التي يمكن أن يتمتع بها بعض البشر من مثل "الضمير" و"الرحمة" و"الإحساس بالذنب").

يسأل الفيلسوف باسكال: "أيّ وهم هذا الإنسان؟ أيّ اكتشاف، أيّ فوضى، أيّ ذات متناقضة، أيّ أعجوبة! حاكم على كل شيء، دودة أرض غبيّة، أمين على الحقيقة، بالوعة من الشكوك والأخطاء، مجد العالم وانحطاطه، فمن ذا الذي يفكّ هذا التشوّش؟". وبعد باسكال بخمسة قرون من الزمن أتى إدغار موران ليخاطبنا أنثروبولوجيًّا بحقيقة الكائن البشري: "لا بدّ من أنّ الإنسان العاقل أباد إنسان النياندرتال Neanderthal  الذي كان يعيش في أوروبا منذ عشرات ألوف السنين قبل مجيء الإنسان العاقل Homo sapiens الذي أتى إلى أوروبا قبل أربعين ألف سنة، وبعد مجيئه اختفى إنسان النياندرتال (...) فمنذ عصر الصيادين، جامعي القوت، في العصور القديمة حتى عصر الفلاحين في العصر الحجري الأخير نعثر على علامات جروح وقتل وتعذيب وإبادات بأدوات هذا الإنسان العاقل. فالإنسان العاقل هو نفسه الذي أباد جنسه، سكان أستراليا الأصليين، والهنود الأميركيين. هو الذي ابتدع الرقّ والسجون، وهو الذي انطلق بقدرات علمية وتقنية نحو غزو الكون، وهو الذي ابتكر إمكانات موت قادرة على أن تبيده بالتأكيد. ومع ذلك، ثمة جزر صغيرة من الطيبة والكرم والحب والرحمة داخل هذا الجنس البشريّ المجرم. إنّ تاريخ البشرية مليء بالشواهد على العدوانية، وعلى حروب نهب خارجية وجنح وجرائم داخلية. ويرافق الانتصارات دومًا هذيان من التدمير والقتل والتعذيب. ويهيج جنون القتل في الصراعات بين الأديان والأمم والأيديولوجيات. خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وقعت صراعات وحروب أودت بحياة اثني عشر مليون إنسان في: كمبوديا، رواندا، العراق، إيران، زائير، أنغولا، أفغانستان، السودان، الموزمبيق، بروندي، الصومال، أوغندا، غواتيمالا، ليبيريا، لبنان، فيتنام، كولومبيا، سيريلانكا، السلفادور، تنزانيا، أثيوبيا، الفيلبين، الجزائر، تشاد، الشيشان، نيكاراغوا، الهند، صربيا، كرواتيا، البوسنة، سيراليون، بيرو، تركيا، اليمن، جنوب أفريقيا، روديسيا، باكستان، هاييتي، إيرلندا الشمالية، فلسطين، كوسوفو، مقدونيا... والقائمة تطول". هذا في التاريخ القريب، الحديث، ما عدّده موران، ولو أراد العودة أكثر في قائمة الحروب والنزاعات لاحتاج إلى مساحة سرد وزمن لا يقدّر حجمها. و"الإنسان العاقل" في عُرف موران هو أيضًا "إنسان مجنون" Homo Demens  تحرّكه نوبات الغضب والهذيان والجنون (من الإسكندر إلى نتنياهو، مرورًا بنابليون وهتلر وسائر القادة الذين يحسبون ذواتهم آلهة أو ملهمين لحكم العالم). وهو أيضًا وأيضًا "إنسان مغالٍ" Homo Hubris، جدّ متطرّف ومبالغ في أفعاله، على نحو ما فعل أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية، وما يفعل الإسرائيليّ "بيبي" اليوم في غزة. وبين "الإنسان العاقل" و"الإنسان المجنون" ثمة بالنسبة إلى إدغار موران "الإنسان العاطفي" Homo Affectivus الذي تقوده العاطفة والإحساس، مشيرًا إلى أنّ المغالاة (hubris) تبلغ لدى انفلاتها ذروة الوحشية إذ تجتاح عقل المغالي قوى غريزيّة مجنونة من ناحية، و"عقلنة" في إطار ممنهج من ناحية مقابلة، تنتج استخدامًا مفرطًا للعنف. وتنطبق هذه المغالاة على الأفراد والجماعات سواسية.

في لجّة العدم تغور "الإنسانيّة" أكثر فأكثر مع كلّ مذبحة جديدة تشلّع أجسادًا طريّة لأطفال بالحديد والنار (Getty, Gaza, 5/11/2023)


من ناحيته يقول إيمانويل ليڨيناس: "إنّ أصل أزمة النزعة الإنسانية humanisme في عصرنا، يعود بلا ريب إلى اكتشاف حقيقة أنّ المبادرات البشرية عقيمة ومن دون جدوى، على رغم تعاظم الطموحات ووفرة وسائل العمل. إنّ انعدام فاعلية الأعمال البشرية يفضح هشاشة مفهوم الإنسان". فالنزعة الإنسانية، أو "الإنسانويّة" في تعبير آخر، ليست سوى خطاب متهافت. يتحوّل الإنسان من مشيّد للحضارات ومبدع للثقافات وسليل لبروميثيوس إلى مجرّد نسخة من سيزيف. لا وجود لمعنى، ولا وجود لحقيقة، بل مجرّد تناسل عشوائيّ للتأويلات، وشعور قاتم بضآلة الإنسان، وبعبثية مبادراته، وبوهم الإنسان "الإنسانيّ"، وبأنّه كائن سلبيّ، منفعل، عاجز، غارق في عالم لم يختره ولا يد له في صنعه. النزعة الإنسانية خطاب عام عن الإنسان، مشحون بالمضامين العاطفية والانفعالية، التي تتراوح بين الشفقة والإدانة والاحتجاج الأخلاقي، وبين التمني والركض وراء الأحلام الجميلة. ومعظم الذين تكلّموا، أو يتكلّمون اليوم عن الإنسان وعن إمكانات تحرّره (وارتقائه)، إنّما يتكلمون على نحو شبيه بلغة الأخلاق والميتافيزيقا. إنّ النزعة الإنسانية ليست أكثر من خطاب فلسفي ميتافيزيقي يخفي أوهام الإنسان عن نفسه ويستر عجزه وجهله، وهي نزعة متنافية مع طبيعة الإنسان الحقيقية، أي "اللا إنسانية" inhumaine. ومهما خلصت نوايا النزعة الإنسانية وسمت مقاصدها فهي في ذلك مثل مقاصد العلم وغاياته، لا تحمل في ذاتها تلقائيًا أيّ فضيلة تقود بالضرورة إلى الحقيقة، بل إلى الحقيقة وحدها. لن تبارح النزعة الإنسانية يومًا أرض الأحلام والأوهام والطوباويات والتصوّرات المثالية، فإمّا تكون وسيلة ناجعة لتحرير الإنسان من جميع الاستلابات أو تبقى مجرّد علاج وهميّ لمشاكله، مجرّد عزاء فكري لا يفتأ يتجدّد.

أطلق نيتشه مقولة "موت الله"، ليأتي ميشال فوكو بعده ويعلن "موت الإنسان"، مواصلًا تبديد أوهام "الإنسانويّة" وتقويض أسسها المشيّدة على الوهم، وهم إصلاح الوضع البشريّ بعامة، فيما هو غير قابل البتة للإصلاح، وتاريخ البشرية المديد خير إثبات. ينزل فوكو بمعوله الفكري تحطيمًا لفكر ماركس وهيغل المتفائلين (الواهمين) وتبديدًا للأوهام الأيديولوجية. فالإنسان، هذا "المخلوق الغريب" ليس في نظر فوكو أكثر من حدث معرفي موقّت عملت على ظهوره مجموعة من الشروط والأواليات التي كوّنت ثقافة القرن التاسع عشر، ومحكوم عليه بالاندثار حين تبدأ أسس تلك الثقافة في التصدّع. أما "الثقافة الجديدة" التي ينتمي إليها مشروع فوكو الفكريّ فبدأت تملأ الفراغ الذي خلّفه "اختفاء" الإنسان واندثار أسطورته.

يرى فوكو أنّ الفلسفة بشّرت، منذ القرن التاسع عشر، وبنبرة مفرطة في التفاؤل، باستقرارٍ حسنٍ للإنسان على هذه الأرض حين يتمّ "إجلاء" الآلهة عنها ويتمكن البشر بفضل معارفهم الوضعية من القضاء على الأوهام وتجاوز الاستلابات. ويؤكد من منظور الثقافة الجديدة على أن الفكر المعاصر بات عاجزًا عن التنفّس والنموّ والازدهار إلّا في فضاء غياب الإنسان نفسه، مذكّرًا بفضل نيتشه في ظهور هذه الفكرة إذ كان أوّل من تنبّأ بأن موت الإله سيعقبه لا محالة موت الإنسان. ويقول فوكو في هذا الصدد: "إنّ ما يعلنه فكر نيتشه هو انفجار صورة الإنسان وتشظّيها... إنّه الاختفاء النهائيّ للإنسان".

نحن إذًا أمام نهاية كئيبة، ليس فوكو (أو نيتشه قبله) مسؤولًا عنها، بل "الوضع البشريّ" غير القابل للإصلاح وغير المنطوي على رجاء وتبديل. لم يفعل فوكو سوى الحفر أركيولوجيًّا في التاريخ وإبستمولوجيًا في اللغة وجيونولوجيًّا في التركيبة الأخلاقية والقيميّة للإنسان، ليخرج بهذه الرؤيا اليائسة، الواقعية والموضوعية، التي يُسأل عنها الواقع الإنسانيّ وليس المنقّب فيه معرفيًّا وفكريًا. وما تهديمه لـ"النزعة الإنسانية" سوى تهديم للوهم واليوتوبيا اللذين أغرق الإنسان نفسه فيهما منذ ولادة الفلسفة والفكر، ثم الأديان واليوتوبيات، التي ثبت بالممارسة أنّها لم تُصلح شيئًا في المكوّن البنيويّ للإنسان وطبيعته المركّبة والمعقّدة والمتناقضة التي انزلقت كالماء من بين أصابع الذين يحاولون القبض على حقيقتها واقتراح حلول ناجعة لها.

فالإنسان الذي تتصارع في داخله منازع الخير والشرّ، القسوة واللين، العدوانيّة والسعي إلى كبتها، القسوة والرأفة، لا يعثر لوجوده على نقطة حسم وثبات، وعي وارتقاء (لا يحلّ العلم معضلة في زعم مثل هذا الارتقاء بل هو يقوده أكثر فأكثر إلى مزيد من الاستلاب والركون إلى تفاهات التكنولوجيا ورفاهها المصطنع). الإنسان مشروع فاشل مهما زيّنت له اليوتوبيات (بالكلام والنظريات) مستقبلًا أفضل، وخلاصًا مرجوًّا. الإنسان هو الإنسان منذ سحيق الأزمنة حتى اليوم، مع اختلاف أشكال التدمير الذاتيّ والسير إلى الحتف على القدمين. ولا يخلو تاريخ البشر من مظاهر التهافت والسقوط السريعين، ومن بعض اللحظات المضيئة التي لا تعمّر طويلًا، ولا شيء ينتقل ويتراكم ويتحوّل إلى ما يمكن اعتباره مكتسبات متحققة خلال هذه المغامرة الكبرى لحياة البشر.

فيما كنتُ مبحرًا في هذه الأفكار حول موت الإنسان وإنسانيته، كان البرهان يردني عبر الشاشات على شاكلة مجازر ومحارق تدمي العين والقلب لأطفال غزة يمزّقون بالطيران الإسرائيليّ أشلاء بالآلاف، فلا أستطيع بالتالي سوى الخروج بخلاصة ختامية: إنّه موت الإنسان وسقوط التجربة الإنسانية.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.  

                                

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.