}

في الإمبرياليّة الثقافيّة: نماذج ماديّة ومجابهة أخلاقيّة

أحمد زكارنة 31 ديسمبر 2023
اجتماع في الإمبرياليّة الثقافيّة: نماذج ماديّة ومجابهة أخلاقيّة
الشاعر البريطاني كبلنج 1865- 1936 (Getty)
في كتابه الأهم "الاستشراق"، يستدعي إدوارد سعيد مقاطع من قصيدة "أنشودة الرّجالِ البيض" للشاعر البريطاني كبلنج، والتي يقول فيها: "هذا هو الطريق الذي يسلكه الرّجال البيض/ عندما يذهبون لتنظيف بلدٍ من البلدان... فليهنأ العالم عندما يخطو الرّجال البيض على طريقهم العام جنبًا إلى جنب". ليعلّق سعيد على قصيدته بالقول: "كانت كينونة الرّجل رجلًا أبيض، شكلًا من أشكال الوجود في العالم، وطريقة لإدراك الواقع، واللغة، والفكر. وجعلت وجود أسلوب معيّن أمرًا ممكنًا... أفكار كهذه تنشأ وينشأ مؤلفوها من ظروف تاريخيّة وثقافيّة معقّدة.
عند الحديث عن النّشأة، نجد، مع قليل من البحث، أنّ كبلنج المولود في النصف الثاني من القرن الثّامن عشر، كتب هذه القصيدة عام 1899، وحصل في العام 1907، على جائزة نوبل للآداب، كأول وأصغر إنكليزي في العالم يحصل على مثل هذه الجائزة. وهو منْ كان يردد: ’عندما تُجرح وتُلقى على سهول أفغانستان، وتأتي القسوة لتُقطّع ما تبقّى منك، ازْحَف نحو رشّاشك، وفجّر دماغك، واٌذهب إلى ربّك كجندي’".
فإذا ما قرّبنا بين نصّ قصيدة كبلنج ومقولته، وهو من لقّبه جورج أورويل بلقب "نبيّ الإمبراطوريّة البريطانيّة"، سيبدو لنا خطاب استعلاء المركز الأوروبيّ، بوصفه ذاتًا فاعلة، تملأه البلاغة "الوقحة" في تعبيرها عن صورة الهامش باعتباره موضوعًا مفعولًا به، وهو خلاصة ما أنتجته حركة الاستعمار الغربيّ عبر خطه الزمنيّ التاريخيّ، ببنيته الكليّة والمتعالية، بحكم طبيعته الامبرياليّة العدوانيّة، التي شرعت في تطوير المشروع، ليتدرّج من كونه مشروعًا كولونياليّا استعماريّا استيطانيّا، إلى مشروع ثقافيّ وظّف المعرفة في خدمة الهيمنة.
وهي هيمنة جاءت لتمكّنه من ترويض هويّة النقيض الحضاريّ (العربيّ/ الإسلاميّ) على وجه التحديد من جهة، وخلق بدائل اجتماعيّة تدّعي زرع أخلاق وقيم حضاريّة تساعد إنسان هذا الجزء من العالم، على تمدين سلوكيّاته وتصرّفاته، على نحو يدفع في اتجاه تغيير مزاجه العام من التخلّف إلي التحضّر، وبلغة أخرى من العنف إلى السّلم، وربما (الاستسلام) من جهة ثانية. إذ تعدّ أشكال الهيمنة المتنوّعة من أهمّ أنماط التحكّم والسيطرة في عصر الاستعمار الإمبرياليّ المُستهدف للشرق بكلّ موروثه العقائديّ، وخيراته الاقتصاديّة، مستغلًّا ما يُعرف بالتلاقح الثقافيّ، أو المثاقفة، وفي روايات أخرى تواصل الثقافات؛ الأمر الذي ترك آثاره الواضحة والمباشرة على وعي الإنسان العربيّ بحقيقة حضارته بجذريها الوجوديّ التاريخيّ والمعرفيّ. ذلك، على الرّغم من اليقظة التنويريّة لرفاعة الطهطاوي، والنزعة الثوريّة لجمال الدين الأفغاني، والمحاولات الإصلاحيّة للإمام محمد عبده، وكلّ مقاربات غيرهم من قادة حركة النّهضة العربيّة والإسلاميّة في القرن التاسع عشر.
ولأنّ أساس مشروع الاستعمار منذ القرن الخامس عشر على وجه الدقّة، هو مشروع ثقافيّ إلى جانبِ كونه مشروعًا كولونياليًا؛ تضمّنَ منذ اليوم الأوّل في تصوّره الاستعماريّ أشكال المواجَهة المحتملة والعنيفة مع تجلّيات المعرفة المحليّة التي واجهته، ما أدّى إلى خلق بيئة مناهضة للعروبة بشكل خاص، وللإسلام بشكل عام، في استجابة واضحة لسياق الإطار المعرفيّ/ السياسيّ المراد تشكيله لإعادة رسم ملامح الشرق وفق ما يخدم الرؤى الاستعماريّة ومحميّتها الاستيطانيّة في المنطقة (إسرائيل) على نحوٍ ينطوي على مفارقة غاية في الوضوح عند الحديث عن مفاهيم الديمقراطيّة الليبراليّة، وانتهاك محميّتها لأبسط تصوّراتها. خاصّة مع تعريف نفسها باعتبارها دولة دينيّة أقرت ما أسمته بـ"قانون القوميّة".




بيد أنّ مفهوم الدولة التي ترى نفسها تعبيرًا عن نظام إلهيّ أو طبيعيّ، (هذا إن سلّمنا بأنّها دولة طبيعيّة)، تستطيع أن تتطلّع إلى معانٍ خارجةٍ عنها لتقييد أفعالها، كما ينظّر للأمر وائل حلّاق في كتابه "الدولة المستحيلة"، والذي يوضّح أنّ قانون الدولة الديني متناقض مع ذاته بصورة فعليّة، فإمّا أن ينتمي القانون للدّولة، أو لله. فما دام القانون يعتمد على القدرة الذاتيّة للدولة من أجل إحكامه وتطبيقه، فإنّ أي قانون تفرضه الدولة، ليس قانون الله بصورة حتميّة. وإلّا لزم أن نكون مستعدّين للاعتراف بأنّ فشل قانون الدولة، هو فشل لقانون الله، وبالتّالي لله نفسه.
ولأنّ "التراجيديا هي أسمى درجات العراك مع الأقدار، والتي من عناصرها الأوليّة أن تشدّ الناس، وأن تثقّفهم"، وفق منطق أرسطو، لا يسع المرء إلّا أن يتأمّل حركة التاريخ، في ظلّ هكذا صراع استعماريّ إحلاليّ استيطانيّ، بكلّ تجلّياته السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة في المنطقة العربيّة والعالم، وعلى الأفكار في آن واحد، حيث نرى النموذج الاستعماريّ في مثل هذه الحالة، نموذجًا ماديًا لا رمزيّة فيه سوى ادعائه أنّ بدائيّة العرب، إنّما تجلسهم في المقاعد الخلفيّة لتاريخ الحضارات.
وعلى سيرة الحضارات، فإنّ مقاربة الدّلالات السياسيّة ضمن نطاق سياسات الهيمنة التي عادة ما تخدم الغايات الإمبراطوريّة الاستعماريّة، تبدو بدهيّة وواضحة، على نحو مسوّغ ومستدام، تفضحه حمولة الخطابات الرسميّة، كما حال خطاب الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وحديثه عن الحملات الصليبيّة، والإشارة إلى العرب بـ"هم"، وهو يطرح سؤاله الافتراضيّ، ويجيب عنه بافتراض يقيني، لماذا يكرهوننا؟ موضحًا "يكرهون حرّيّاتنا، حرّيتنا الدينيّة، حرّيتنا في التعبير، حرّيتنا في التصويت والتجمّع والاختلاف مع بعضنا".
إنّ تأملًا بسيطًا لاستعارات مثل هذه الخطابات وتحليل مدركاتها، يحيلنا بالضرورة إلى أنّ قوى الاستعمار تنظر إلى الآخر النقيض وفق تصورات ثقافيّة وأيديولوجيّة تنهض على فكرة تفوّق جنس بشريّ على آخر، كما توظيف هتلر لمفهوم "العرق الآري"، والصهيونيّة لمفهوم "شعب الله المختار"، وفي الحالتين فإنّ العداء بوصفه مرجعيّة أساسيّة لا يمكن أن يكون إلّا للحضارة العربيّة الإسلاميّة باعتبارها صوت وصورة النقيض الفيزيائيّ، التي تؤهله حضارته ومبادئه لإمكانيّة تشكيل حالة فكريّة عقائديّة تمتلك مقوّماتها التاريخيّة والجغرافيّة والبشريّة، بتصوّراتها الأخلاقيّة، وهو ما عبّرت عنه إحدى فقرات وثيقة كامبل السرّيّة عام 1907 لحظة تناولها للدول التي لا تقع ضمن الحضارة الغربيّة المسيحيّة، ويوجد تصادم حضاريّ معها وتشكّل تهديدًا لتفوّقها (وهي بالتحديد الدول العربيّة بشكل خاص والإسلاميّة بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم، ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنيّة، ومحاربة أيّ اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنيّة.





هذه البارانويا، أو حالة الريبة المسيطرة على فكر القوى الاستعماريّة، أدّت إلى "اختلال العالم" وفق تحليل أمين معلوف في كتابه المعنون بهذا العنوان نفسه الساعي للردّ على سؤاله الأخطر: هل البشريّة بلغت عتبة إفلاسها الأخلاقيّ؟ حيث ظهرت على العالم في مطلع القرن الواحد والعشرين علامات اختلال عديدة، اختلال فكريّ يتميّز بانفلات المطالبات المتعلّقة بالهويّات من عقالها... وكذلك اختلال اقتصاديّ وماليّ، وثالث مناخيّ، ورابع وخامس وعاشر قيميّ أخلاقيّ.
هذا الاختلال، نستطيع أن نتأكّد منه اليوم، ونحن نشاهد في بثٍّ حيّ ومباشر استهداف عشرات الآلاف من البشر في قطاع غزّة، على سبيل المثال لا الحصر، فضلًا عن استهداف البنى التحتيّة، ودور العبادة، والمشافي، وكلّ ما يعبّر عن معاني الحياة على وجه البسيطة، وفي الوقت ذاته يَصعُب الإشارة إلي علاقة سببيّة واضحة تربط هذا الاختلال بسياسات قوى الاستعمار بشكل حصري، ولكنّه أيضًا يمنحنا أوجهًا عدّة تلتصق بمخرجات الحضارة العربيّة الإسلاميّة في حقول وميادين عديدة ومختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر، حقول تفسير العقيدة، ومفهوم الاجتهاد، والحداثة، وميدان تعاملنا مع فسيفساء الهويّات الفرعيّة الإثنيّة والمذهبيّة، وكذا مع السّمات الفكريّة والفلسفيّة للأحداث والوقائع والتاريخ، وهو ما اشتغل عليه عدد من مفكّري المغرب العربيّ مثل محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وهشام جعيط، وغيرهم، مع الالتزام بحقّ الاختلاف أو الاتفاق مع ما يُطرح من أفكار وتصوّرات تقول، بلغة أو بأخرى، أنّنا إذ نعاني في أحد أهمّ الجوانب الفكريّة من أثر الإمبرياليّة الثقافيّة على التاريخ العربيّ بكلّ إكراهاته السياسيّة والأيديولوجيّة، ملزمون بالبحث عن مكامن الخلل الذاتيّ، وملامح الضعف الموضوعيّ، بغية ترميم الأوّل، ومجابهة الثاني.
الردّ بهذا المعنى هو طموح لو نظرنا إليه بجدّيّة وثقة، أشار إليها الفلسطينيّ د. إياد البرغوثي في مشروعه الحالم  تحت شعار "تحرير الشرق ـ نحو امبراطوريّه شرقيّة ثقافيّة" سنجد أنّه قابل للتحقّق، باعتباره أداة قوّة لا تقلّ أهميّة عن قوّة السلاح النوويّ، ليس لأنّه بهذه الفاعليّة التدميريّة للآخرين، ولكن لأنّه يمتلك من العدّة المعرفيّة ما يمكن أن نعرّفه بـ"القوة المبصرة"، التي إن أحسنّا استخدامها، وظّفنا قدراتها بوصفها لغة فعل وفاعليّة، يمكنها محو آثار التجزئة والتبعيّة والتخلّف، بِرَدّ أخلاقيّ من شأنه أن يخرجنا من أمراض التفاصيل السياسيّة والاقتصاديّة بأمن وسلام، لنشتبك فرديًّا وجماعيًّا مع ما هو اجتماعيّ ثقافيّ، بسموٍّ قادر على تحويل تدافع الهويّات الفرعيّة، إلى تنوّع ثقافيّ حضاريّ، يصوغ بالضرورة، معنى الهويّة الجامعة، ليشكّل الصورة الكليّة والمتحقّقة، لمفهوم إرادة التحرّر ونيل الحريّة من الإمبريالية الثقافية ونماذجها المادية بمجابهة أخلاقية، وهو ما نحن في حاجة ماسة إليه، ونبحث عنه منذ عقود طويلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.