}

شهداء مع فارقِ التوقيت...

أحمد زكارنة 13 نوفمبر 2023
سير شهداء مع فارقِ التوقيت...
محاكاة في برشلونة لأطفال فلسطينيين استُشهدوا بقصف إسرائيل لغزة(11/11/2023/Getty)

في موعدٍ لاحقٍ للحربِ، وربّما في اليومِ التالي لصمتِ المعارك، سيقولُ قائلٌ: لا أثرَ لشيءٍ كان هنا! لا رائحةً للبارود والدّم، لا بقايا للجدرانِ المقتولة، لا شظايا لرصاصٍ في القلوب، ولا لقنابلَ قُذفت لتُضيءَ الرؤوس، لا بقايا للحمٍ عُجنَ مع التراب، أو لبعضِ عظامٍ تكسّرتْ في صمتٍ وهدوء، ولا ما يشي بيومِ قيامةٍ مرّ من هنا، واستوطن الذّاكرة.
في وقتٍ لاحقٍ للحرب، ستستضيفُ الخيامُ وفودًا كثيرة، وفودًا جاءت لتفحص ما تبقّى من منسوبِ الأرواح في الصدور... مقدارَ ما اقترفَتْهُ من صبرٍ وثباتٍ وصمودٍ وإقدامٍ وإصرارٍ على الحياة، سيتساءلُ بعضُهم: كيفَ نجتْ كلُّ تلكَ الأرواح؟ لماذا لم تمُتْ وحسب؟ أين كانت حين آُطبقت السماءُ على الأرضِ ودَهَسَتْها الأرجل؟ ما الذي أبقاها حيّةً تغزلُ من الأوجاعِ سروالًا جديدًا للحلم؟ ما هذا؟ أين نحن؟ سيقولُ كبيرُهُم ويزيد، وهو معلقٌ من القدمين على أرجوحةٍ بلا أقدام، أنحن في مدينة من مدنِ الأشباح؟! أعادَ بنا التاريخُ إلى الأساطيرِ القديمة؟!
لمْ يكن يَعتقدُ أنَّهُ كغيرِه، خُدِعَ في بريقِ صورةٍ بلا لونٍ أو رائحة؛ لم يصدّقْ عينيْهِ، وهي تلتهم خيالاتِ أرواحٍ تنبضُ بالحياةِ رَغمَ الدمار؛ شعرَ للحظةٍ بما يشبهُ الدوار؛ تحسّسَ ملامحَ وجهِهِ، ليطمئِنَّ أنَّه ما زالَ على قيدِ الصحوِ لم يغفُ، لا، لم أغفُ ولا أحلم، وما أراهُ لا يُعقلُ أنْ يكونَ كابوسًا؛ نظرَ إلى الأعلى، ثمَّ إلى الأسفلِ، وراحَ يسألُ أينَ الباب؟
أين الباب؟ قالت بنتُ السنواتِ العشرِ وأردفتْ، أتسألُ عن البابِ وأشلاءُ الأطفالِ لا تزالُ حائرةً في تفسير معنى الموت؟ أتسألُ العابرين من ممرِّ الفقد، فقدُ الذّراعِ لأختِها، الضّلعُ للذي يليه، الشهيقُ عندما يستحيلُ عليه الزفير؟ ما حاجتُكَ للسؤالِ عن البابِ في مدينةٍ لم يعدْ لها جدرانٌ تتكئُ عليها الأبوابُ؟ لا عليكَ فتلكَ قصةٌ أخرى.
سأدخلُ إلى الموضوعِ مرةً واحدة؛ سأقولُ لك بقلبٍ مفتوحٍ وصوتٍ جريح، لاحظتُ أنَّ أسئلتكَ في جُلِّها تدورُ حولَ فوضى الخُطى، وهي تُزاحمُ الأرواحَ والحجارةَ في الشوارعِ، شوارعِنا التي لمْ تكن يومًا هادئةً وأليفةً، وعن وشوشةِ البحرِ وهو يُمارسُ تمارينَهُ اليوميّةَ بنشوةٍ مفرطَةٍ، وقدرٍ من الخيانة، ونحنُ والبحرُ كثيرًا ما كنّا في علاقةٍ متوترة، ليس لأنّنا لا نُحبُّهُ أو أنّهُ يَكرهُنا، ولكن لأنّنا نحفظُ عن ظهرِ قلبٍ معنى الوشوشةِ في حكمتِهِ القديمةِ المتجدِّدَة: "أمواجي لا تتقهقرُ أمامَ من أحبّها، ولكنَّها أحيانًا ما تأتينا بقاتل".
والمهم، تقولُ بنتُ السنواتِ العشر، أظنُّ، وبعضُ الظنِّ ليس إثمًا، أنّ سؤالكَ عن الأرواحِ، إنّما هو سؤالٌ مضمرٌ عن تلك السماءِ التي عادةً ما تُعطي بيد وتأخذُ بأخرى. سأقولُ لك:
الحياةُ في بلادِنا يا سيدي، لا سامحَ اللهُ! منْ اعتبركَ سيدًا بعدَ هذه اللحظة، يعتريها شيءٌ من وساوسِ حريّةٍ سُلبت عنوةً في غفلةٍ منَ الزمن، وبعضُ هواجسِ كرامةٍ تثيرُ الاهتمام.
الحياة في بلادنا تفاصيلُ أوجاعٍ متراكمةٍ وجارحة، وجعُ خيمةٍ نُصبت في بَدءِ الأمرِ على هيئةِ بيتٍ، جاورَ آخَرَ في النزوحِ والانتصاب، فباتَ مخيّمًا للّجوءِ والذكرياتِ، ومخيّمٍ أُقيمَ لبرهةٍ من الوقت، فتحوّلَ المؤقتُ بفعلِ فاعل، صامتٍ ومتواطئ، إلى دائمٍ ممنوعٍ عليه أن يتمدّدَ خارجَ حدودِ نكباتِهِ المتتاليةِ، ممنوعٍ على سُلالتهِ أنْ تؤرخ لتواريخِ قتلها المرةَ تلو الأخرى، أن يُمعنَ أيٌّ من شخوصها في جراحه، أن تملأَهُ الأوهامُ، فيستسلمَ للخيالِ العاري من أي أملٍ محتمل، ممنوعٍ عليه أنْ يتبرأَ منْ أوجاعِهِ، فيتأخرَ عنْ موعِدِ موتِهِ بلا أسبابٍ واضحةٍ ومقبولة.
في بلادي يا سيدي، لعنَ الله منْ يراكَ سيّدًا بعدَ هذهِ النكبةِ، كانَ لي بيتٌ أراه جنةً ومأوى، فقدْتُهُ ثلاثًا، واستعدْتُهُ ثلاثًا، ولكنّهُ على الأرجحْ فقدني مرّةً واحدةً وإلى الأبد؛ كانت لي أحلامٌ وذكريات فقدتُها حينَ مرَّتْ منْ هنا طائرةٌ بقنابلَ عمياءَ أطلقَها قلبٌ أعمى، لحقودٍ غبيٍّ لا يعرفُ كمْ كانتْ سمائي صافيةً وكم هو الله بنا أرحم. هذا لأنّي وأحلامي وذكرياتي هنا كنّا ولا زلنا، شهداءَ معَ فارقِ التوقيتْ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.