}

عن مارك أوجيه في غيابه: المدينة واللا مكان أنثروبولوجيًّا

جورج كعدي جورج كعدي 17 أغسطس 2023

 

انشغال مارك أوجيه ̸  Marc Augé (1935 - 2023) بالمكان واللا مكان ̸  Non Lieu والفرق الجوهريّ بينهما جعله ذا ميزة وفرادة موقع في عالم الأنثروبولوجيا. هذا العالِم الأنثروبولوجي في شكل أساسيّ، فضلًا عن اهتماماته الإثنولوجية أو علم الأعراق، غاب قبل نحو ثلاثة أسابيع (في 24 يوليو/ تموز الفائت) تاركًا وراءه نحو خمسة وثلاثين مؤلّفًا في مجالات اهتماماته المتنوّعة والكثيرة، وهي أبحاث ومعاينات شخصية (من مترو باريس إلى سكان شاطئ العاج الأصليين) ذات عناوين مثيرة وتدلّ على نشاط وحيوية غير عاديين، إذ كان أنثروبولوجيًا عمليًّا تطبيقيًّا غير نظريّ، أي أنّه لم يغص في النظريّات عن بُعد، بل كشف وعاش وعاين وانخرط لمدة طويلة من حياته في مغامرات "إكزوتيكيّة" وصلت إلى تشيلي في أميركا اللاتينية.

أيُّ عالمٍ، في أيّ مجال، لا يحتلّ مكانةً خاصة به وتُحسب له إنْ لم يأتِ لمجال علمه أو علومه المتعددة بأيّ جديد. لذا احتلّ أوجيه مثل هذه المكانة الخاصة بفضل رصده خصائص ما أسماه "اللا مكان" أو حتى "اللا أمكنة" في صيغة الجمع على نحو ما وردت في عنوان أحد مؤلفاته المهمة ومن أشهرها "اللا أمكنة – مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة فائقة السرعة" "Non – Lieux – Introduction à une anthropologie de la surmodérnité" الذي أصدره بالفرنسية عام 1992، وفصّل فيه فهمه لـ "اللا مكان"، أي تلك المساحة التبادليّة التي يلتقي فيها الناس لكنّ الفرد يلبث فيها مجهولًا أو ذا هوية غفليّة (مثل المطارات والفنادق والسوبرماركت والمتاجر الكبرى والطرقات السريعة...) فهذه أماكن - لا أماكن بلا هوية وبلا صلة علائقية وبلا تاريخ، أي نقيض "المدينة" ذات الهوية والعلائقية والتاريخ والمعالم، إلخ. ونعرض هنا للمفهومَيْن، بحسب أوجيه، على نحو مفصّل.

أنثروبولوجيّة المدينة

المدينة، في فَهْمِ مارك أوجيه وعُرْفِهِ، عالَمٌ. إنّها في المعنى الأول مكانٌ، مجالٌ متجسّد في رموز، معالم، آثار، قوّة استحضاريّة، أي كل ما يتقاسمه أولئك القائلون بأنّهم أبناء هذه المدينة، فما فتئنا نسمع سؤالًا متكرّرًا في فرنسا: "مِنْ أين أنت؟". السؤال يوحي بأنّ هوية كلّ فرد تمرّ أيضًا عبر مكان عيشه. عالم المدينة مكتفٍ بذاته وله تاريخه الخاص ومعالمه ورموزه. يندرج تاريخ المدينة في مَعْلَمٍ معيّن (تلال روما، مجرى تعرّجات نهر السين وجزيرة لا سيتيه في باريس...). بيد أنّ جغرافيّة المكان تتطوّر عبر التاريخ، فالحصون القديمة أخلت مكانها للشارع العريض، وأحياء جديدة تُبنى وسوف تُعدّ بعد قرن من الزمن أحياء تقليديّة (فلننظر إلى الشوارع الكبرى المعروفة في باريس). كما تُجرى الأعمال لحفر مزيد من أنفاق المترو، أو تنهض مبانٍ حديثة تذكّر بالعمارة القديمة. مجمل القول إنّ للمدينة تاريخًا وشخصية ويتعرّف قاطنوها (أو معظمهم) على ذواتهم فيها. هذا التماهي الجماعي قد يبلغ حدّ تأكيد صفات سيكولوجية مشتركة بين جميع سكان المدينة. والمدينة متعدّدة لتشكّلها من أحياء (أو دوائر كما في باريس)، ولها فرادتها في خيال كلٍّ من قاطنيها أو زائريها الدائمين وذكرياتهم. بين صورة المدينة وشخصية ساكنها أو زائرها رابط وثيق. التجوّل المستمرّ في المدينة هو تعبير عن حرية مزدهرة في المشهد الحضري.

ثمة فرق بين مدينة المتنزّه والشاعر والمغنّي، والمدينة الوظيفيّة. هنا يستشهد أوجيه بكتاب ميشال دو سِرتو ̸  Certeau الذي يحمل عنوان "إختراع اليوميّ" ̸  "L'Invention du quotidien"، لإيضاح هذا الفرق بين مدينة النزهة والمدينة الوظيفية المخطَّطة والمرسومة بصرامة على نحو يتيح رؤيتها من أعلى، مثلما هي نيويورك مثلًا منظورًا إليها من قمة مركز التجارة العالمية، فالمسار ورصد المواقع في المدينة يتأثّران بوجود نقاط قوية، وبالمخطّط العام للمدينة. في حين أنّ التجوّل أو التنزّه في المدينة يلبث خاضعًا لإرادة المتنزّه نفسه، إذ يمكنه التغاضي عن معالم تلك المدينة فيرسم مسارًا خاصًا، أصيلًا، وفرديًّا محضًا. هنا يتحدث سِرتو مثلًا عن "بلاغة المشاة" ̸  "rhétorique piétonnière" أي الاستخدام الشخصيّ والمتفرّد للغة. يستطيع المتنزّه منفردًا في المدينة فتح دربه الخاصة بين الرموز الحضرية الكبرى، ومن هنا غير مستغرب أن تكون النزهة في المدينة من المواضيع الكبرى في الأدب الأوروبي، منذ الأدب الرومانسيّ مع بلزاك وبروست وجويس وستندال إلى أزمتنا الحديثة مع "المشّاء الأكبر" بيتر هاندكه الذي يقدّمه أوجيه مثالًا ونموذجًا، والذي خصّصناه بمقالة حصرية بموضوع المشي في "ضفة ثالثة" ويمكن العودة إليه.

في عالمنا الراهن الذي تميّزه أهمية المرجعيّة الفردية، فضلًا عن تسارع حركة التاريخ وانتفاخ الصور وازدياد الوعي الكوكبيّ، لا يمكن للمجال (الفسحة، المكان) أن يكون مكانًا للجميع، إلّا إذا كان مكانًا لكلّ فرد. إن مخطّطّ مترو باريس، بحسب ما يرى أوجيه، يقترح على كل إنسان صورة لمجموع الشبكة، وعند كل محطة إسم ومَعْلم يحيلان على الماضي. ومع ذلك، لا تستطيع المدينة أن تدوم وتستمرّ إلّا إذا تطوّرت، فهي ليست معهدًا موسيقيًا ولا متحفًا، ولا ينبغي أن تكون كذلك. تميل المدينة إلى اختزال مادة العالم وحوادث الساعة والفرجة. وثمة مجال للا مكان في قلب المدينة يمارس فيه الفرد "حرية المتنزّه"، شرط ألّا تفضي هذه الفرديّة إلى العزلة. على المعماريين الالتفات إلى هذا الجانب ببناء مجالات يمتزج فيها معنى المكان بحرية اللا مكان. ولعلّه طلب طوباويّ، إلّا أنّه سليم وضروريّ في المعنى الاجتماعيّ حيثما وُجد بوضوح أو ضمنًا. مثل هذه التغيّرات يرصدها عالم الاجتماع، لكن ربما أكثر منه العالم الأنثروبولوجيّ، فساعة الأنثروبولوجيا تدقّ في العالم بأسره أكثر من أي وقت مضى.

بأسى بيِّن، ينظر أوجيه إلى المدن المعاصرة كتوليفة أماكن متعلقة بالحداثة، لكن ما يُقلقه هو رؤيتها تفقد شخصيتها، وتتوحّد أشكالها (أي تتماثل)، وتتوسّع كالإمبراطوريات، وتستحثّ هويّات أخرى من خارجها وضدها.


أنثربولوجيّة اللا مكان

بالنسبة إلى مارك أوجيه، تجتمع العوالم المعاصرة في الواقع المجاليّ للمدينة التي تجمعها كلّها على نحو أمبريقيّ (تجريبيّ)، وذاك جوهر الصعوبة اليوم في كلّ تفكير حول المدينة التي تحمل تساؤلًا موضوعه العالم بأسره كواقع معاصر بحدّ ذاته. فللمدينة الكبرى مكان في الأدب والرسم وحتى الموسيقى، إذ تشكّل نموذجيًّا موضوع التمثلات التي يسعنا الوقوع على نسخة متواضعة وفردية عنها في الكلام المتداول بين سكانها حول ما يربطهم بها علاقةً وتاريخًا ومسارات يجتازونها عبر فترات منتظمة. لو تحدثنا اليوم عن "الأزمة الحضريّة" فإنّ الأمر غير متصل بمشاكل عمرانية، هندسية وسوسيولوجية تنشأ من تضخّم المدن أو توسّعها فحسب، بل أعمق من ذلك، إذ بات تَمَثُّل (Représentation) المدينة أصعب. بهذا المعنى تردّنا "الأزمة الحضريّة" إلى أزمة أشمل لتمثّلات المعاصرة.

هذه المعاينة تدعونا إلى التأمّل في ثنائيّات تستخدم لوصف العالم المعاصر ومجالاته. الثنائية الأولى هي المكان̸  اللا مكان، والثانية هي الحداثة̸  الحداثة مفرطة السرعة. أمّا بالمكان̸  اللا مكان فنحن نشير إلى مجالات حقيقية وعلاقة المتعاملين ضمنها. يُعرّف المكان في هذه الحال بأنّه "هويّاتي"، أي متعلق بالهوية، ففي هذا المعنى يمكن لعدد من الأفراد أن يتعرّفوا إلى أنفسهم فيه ويحدّدوا هويتهم من خلاله. أمّا العلاقة فمعناها أن عددًا معينًا من الأفراد، هم أنفسهم، يمكنهم أن يقرأوا في هذا المكان الذي يربط بعضهم بالبعض الآخر. ولناحية التاريخ، فإنّ قاطني هذا المكان يمكنهم أن يعثروا فيه على سُكنى قديمة فيه أو إشارة إلى نَسَب. بذلك يغدو المكان ذا رمزية ثلاثية: العلاقة بينه وبين كلٍّ من ساكنيه، وبينه وبين السكان الآخرين، ومن ثم التاريخ المشترك. فالمجال (المكان) لا يتجسّد حيث لا هوية ولا علاقة ولا تاريخ. ما يُعدّ مكانًا للبعض قد لا يكون مكانًا لبعضٍ آخر. المطار، مثلًا، ليست له في نظر المسافرين الذين يمرّون عبره المكانة نفسها لدى العاملين فيه.

رغم ذلك، يبقى اللا مكان، في المعنى الأمبريقي، سمة العالم المعاصر، فقد أضحت مجالات حركة التنقّل (الطرقات السريعة، المسالك الجوية...) ومجالات الاستهلاك (المتاجر الكبرى أو "المولات")، ومجالات الاتصال (الموبايل، الإنترنت، التلفزيون...) تغطّي الكوكب بأكمله. إنّها مجالات ننوجد فيها ونتآلف، لكن من دون أن نحيا معًا، فمكانة المستهلك، أو العابر المنفرد، تمرّ من خلال علاقة تعاقدية مع المجتمع. هذه اللا أمكنة الأمبريقية – التجريبيّة، بما تثيره من مواقف الفكر والعلاقة مع العالم، هي سمة الحداثة مفرطة السرعة التي تتناغم مع تسارع التاريخ وانحصار المجال، وتفرّد المرجعيات التي تقلب مسارات الحداثة التراكمية.

كانت باريس، مثلًا، في نظر بودلير نموذج المدينة الحديثة في القرن التاسع عشر، إذ كانت تمتزج فيها أجراس الكاتدرائيات ومداخن المصانع، وكان فيها مزيج لا يمنع القُرْب المجاليّ رغم الفروق الاجتماعيّة. بينما نرى أنّ العمّال أو الزوّار المتدفّقين إلى المدن المعاصرة لا يجازفون – عبر وسائل النقل ومحوّلات الطرقات الجديدة – حتى باللقاء.

لو استطعنا تعريف المكان بأنّه "هويّاتي"̸  Identitaire و"علائقيّ" وتاريخيّ، فإنّ ذلك يعني أنّ كل مكان آخر يمكن تحديده بأنّه لا مكان. فالفرضيّة التي يدافع عنها مارك أوجيه تفيد بأنّ الحداثة مفرطة السرعة تنتج "اللا أمكنة"، أي الأماكن غير الأنثروبولوجيّة. نولد في عالمنا المعاصر داخل عيادة ونغادره من مستشفى، وتتضاعف فيه على نحو فخم أو لا إنسانيّ نقاط العبور والاهتمامات الموقّتة (شبكات الفنادق، المساكن العشوائية، نوادي العطلات، مخيّمات اللاجئين، مدن الصفيح الآيلة إلى الهدم أو إلى التعفّن المستمرّ)، وتزدهر فيه شبكة ضيّقة من وسائل النقل هي بدورها مأهولة، ويعيد فيه روّاد المجمّعات التجارية الكبرى (المولات) ومستخدمو الصرّاف الآلي وبطاقات الاعتماد المصرفية صلتهم بالإجراءات التجارية "الصامتة". بذلك يقترح العالَم المحكوم بالفردانية، والعبور، والموقّت والزائل، على عالِم الأنثروبولوجيا وآخرين موضوعًا جديدًا ينبغي قياس أبعاده غير المسبوقة قبل الحكم عليه. والأمر ينطبق على اللا مكان مثلما ينطبق على المكان. ومع ذلك، فإنّ اللا أمكنة هي مقاس العصر، مقاس كميّ يمكن اعتماده عقب إتمام بعض التحويلات بين المساحة والحجم والمسافة، عبر إضافة خطوط الملاحة الجوية، والسكك الحديد، والطرقات السريعة (الهاي واي)، و"المساكن المتنقلة" المدعوّة "وسائل النقل" (طائرات، قطارات، حافلات)، والمطارات، ومحطات القطار، ومحطات ريادة الفضاء، وشبكات الفنادق الكبرى، والحدائق العامة، والمحالّ التجارية الكبرى، والشبكات السلكية واللا سلكية التي تملأ الفضاء الخارجي ذات "التواصل الغريب" وهي تدفع معظم الأحيان إلى تواصل الإنسان مع صورة غريبة لذاته!

يعود أوجيه إلى الفيلسوف الفرنسي مِرْلو- بونتي̸  Merleau – Ponty الذي ميّز في كتابه "فينومينولوجيا الإدراك" ̸  "Phénoménologie de la perception" بين "الفضاء الهندسيّ" و"الفضاء الأنثروبولوجي" بصفته فضاءً "وجوديًّا" ومكانًا لعلاقة قائمة مع العالم يقوم بها شخص يملك في شكل رئيسيّ "علاقة مع المكان". في زمننا المعاصر أضحى المكان أو المجال أو الحيّز أقرب بكثير إلى تعريف اللا مكان. أمثلة: مصطلح "المجال الإعلانيّ" ̸  espace publicitaire ينطبق في الوقت عينه على حيّز مكانيّ أو زمانيّ "مخصّص لاستقبال الإعلانات في مختلف وسائل الميديا"، وتعبير "شراء مجال" ̸  achat d'espace ينطبق على كامل "العمليّات التي تنفّذها وكالة إعلانية على حيّز إعلاني". ولدينا كلمة "فضاء" التي دَرَجَ إطلاقها على صالات العرض وأماكن الالتقاء ولها معنى "حيّز" (مثل "حيّز كاردان"̸  Espace Cardin) في باريس، أو حيّز "إيڨ روشيه"̸  Espace Yves Rocher في لاغاسيّي (شمال غرب فرنسا)، أو تطلق تسمية "مساحة" على الحدائق ("المساحات الخضراء"̸  Espaces vertes)، وهناك "مقعد" لرحلات الطيران وفي السيارات... وهذا كلّه ومثله الكثير يدلّ على انهماكات العصر الحديث (الإعلانات، الصورة، الترفيه، حرية التنقل) وعلى تجريداته التي تنخر العالم وتهدّده، كما لو أنّ مستهلكي "الحيّز المعاصر" مدعوون إلى الاكتفاء بالثرثرة... لا إلى الانتماء لهويّة المكان وعبق تاريخه.

٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.