وكما هي حال أحياء غزّة المدينة والقطاع جميعها، نال الحيّ حصّته من الموت والدمار والإبادة الجماعية الموثّقة على الهواء مباشرة من دون رقيب أو حسيب يوقف المجرمين الموغلينَ في دماء الأبرياء، وينْتصر للضحايا المستهدفين، ويُغيث الأطفال المقْصوفة أعمارهم بحقدٍ منهجيٍّ عقائديٍّ مريض.
على كل حال ظلّت عائلة الصّبرة، حتى وقتٍ قريب، تقوم على تكية الشيخ سالم، وظلّ الناس هناك يقرّون لهم بِعراقة النسب، ومشروعية الواجب.
أما الرواية الثانية المتعلّقة باسم الحيّ فهي أن الاسم له علاقة بنبات الصبر (الصبّار) المنتشر في الحيّ أكثر من أي مكان آخر في غزّة. يحدّ الحيّ من الشرق حيّ الزيتون وحي الشجاعية، ومن الشمال حي الرّمال. ومن عائلات/ حَمايل الحيّ القديمة فيه: حمْدقه، الخُور، دغْمش، أبو عصر، عبد العال ، شحْبير، الديري، الداعور والعماوي.
تفاصيل
الحيّ الذي كان في عام 2008 مسرحًا مؤلمًا للأحداث الدامية خلال مواجهة حكومة غزّة لـ"السلفيّة التكفيريّة" وأجنداتها غير البريئة، يشكّل بوابة غزّة البلد نحو الشطر الجنوبيّ من القطاع. وفوق مساحة تقدّر بحوالي 1500 دونم يعيش زهاء 50 ألف غزّيٍّ من سكّان الحي، معظمهم لم يبرحوه ولن يفعلوا. وفي الحيّ مركز رعاية أوليّة، إضافة إلى مركز الصّبرة الصحي التابع لوكالة الغوث الذي أنشئ في عام 1989، بدعم من الحكومة الفنلندية. وفيه، كما معظم غزّة، أشجار الزيتون، وأغنيات البحر. ولِنبات الصبّار فيه خصوصيةٌ أسلفْناها. في حيّ الصّبرة اغتال الصهاينة أحمد ياسين في عام 2004، وفيه اغتالوا القائد أحمد الجعبري (في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012)، وهي الجريمة التي شكّلت مقدّمة لِعدوان الأيام الثمانية في ذلك الوقت، واستدعت زيارة رئيس الوزراء المصري آنذاك للقطاع، حينما كان لِمصر رئيس وزراء قلبه على غزّة، ووجدانُه وجدانُ أمّة.
مجازر الحيّ
المجزرة الأكبر التي تعرّض لها الحي وقعت قبل ساعات من دخول الهدنة التي اتفقت عليها أيامها المقاومة مع الوسطاء لتبادل عدد من الأسرى خصوصًا الأطفال والنساء في سجون الاحتلال الصهيوني، وتحديدًا في تاريخ 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، حين أغارَ سلاح الجو الصهيوني على مربعٍ سكنيٍّ يتبع لعائلة الحساينة وأبو شريعة بحي الصّبرة جنوب مدينة غزة، وأدّت إلى استشهاد 93 مدنيًا من أبناء الحمولتيْن جلّهم من الأطفال والنساء.
مجزرة ثانية وقعت بتاريخ 30 حزيران/ يونيو 2024، وكان يوم أحد، حيث اُستشهد وأصيب عدد من المواطنين، في قصف للاحتلال الإسرائيلي على حيّ الصّبرة جنوب مدينة غزة.
قبل ذلك، وتحديدًا يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي بعد اندلاع الطوفان بأربعة أيام، ارتكب العدو الصهيونيّ مجزرة داخل حيّ الصّبرة، ودائمًا عن طريق سلاح جوّه الغاشم الجبان.
مجزرة رابعة بحق الحيّ وقعت في الخامس من تموز/ يوليو 2024، عندما استهدفت مدفعية الصهاينة تجمعات وأماكنَ داخلَه.
على كل حال تقديم الحيّ للشهداء كما هي حال كل مكان في غزّة المدينة والقطاع لم يقتصر على العدوان الجديد بعد اندلاع الطوفان، ففي 21 أيار/ مايو 2014، قضى آدم ياسين شهيدًا محروقًا جراء قصف الصهاينة منزل أهله في الحيّ.
وفي شهادتها حول استشهاد ابنها آدم، تقول والدته السيدة سحر الفرعاوي: "منذ وفاة آدم أشعر وكأنّني أعيش كابوسًا أنتظر الاستيقاظ منه. انهارت صحّتي وبتّ أرْتاد العيادات الطبيّة يوميًا. أعاني من تشنّجات في العُنق والكتفين ومن وهن في الرّجلين واضطراب دقات القلب (خفقان في توصيفةٍ أُخرى)". السيدة سحر تواصل شهادتها قائلة: "روحي تتألّم على فقدان ابني. كلّ يوم أقول لنفسي ’بُكرا بتهون’ لكن عبثًا، لا شيء يتغيّر. أدخل إلى غرفة آدم كلّ يوم وأتخيّله في كلّ زاوية. لم تبق لنا أية ذكرى منه لأنّ غرفته احترقت برمّتها؛ ملابسه، حقيبته، حاسوبه النقّال... كلّ شيء احترق". لا تستطيع الأم أن تنسى أي تفصيلة تتعلّق بابنها الذي كان في سنته الجامعية الأولى عند استشهاده، لا تشارك، بحسب شهادتها، في أي مناسبة اجتماعية، وتفزع حين يهلّ رمضان لِما كان يؤديه من دورٍ حيويٍّ خلال شهر الصيام، وهو الفزع نفسه الذي يلاحقها في الأعياد ومختلف المناسبات الاجتماعية.
أم آدم تختم شهادتها بلوعة: "لا أستطيع أن أنسى منظر آدم والنار مشتعلة في جسده كلّه. عندما كنّا نحاول إطفاء النار قال لي ’لا تخافي يا أمّي’. أنا على يقين بأنّه في الجنّة الآن وهذا ما يطمئن قلبي قليلًا".
من جرائم العدو الصهيوني بحق أهل حيّ الصّبرة ما جرى قبل ثلاثة أعوام لِفرح وبَهاء اسْليم، طفلة وشقيقها وشقيقان آخران لهما أصيبوا إثر قصف الاحتلال الصهيوني لمنزلِهم في الحي من دون سابق إنذار، حيث كانوا هدفًا لطائرات الاحتلال مثل عشرات الأطفال ممن استشهدوا وأصيبوا بعد استهدافهم بشكل يخالف القانون الدولي الذي يضمن حماية الأطفال في النزاعات والحروب. تقول فرح التي تضرّرت إحدى قدميها بشكل بليغ في تقرير تلفزيونيّ: "ما ذنبي أن أُستهدف وأنا نائمة... لم يقدروا على الرجال المقاومين فاخْتارونا أهدافًا سهلة؟! حسبنا الله ونعم الوكيل". شقيقها بهاء يتكلّم بصوتٍ وئيد وقد غطّت الشظايا ملامح وجهه، بينما يداه تعزفان على (كي بورد، أورغ) صغير هو لعبة أكثر منه آلة موسيقية. أما منزلهم فوق سطح عمارة من عمارات حي الصّبرة، فقد أحدث القصف الغادر فتحة كبيرة فيه مع بزوغ صباح ذلك اليوم بينما كان والدهم لم يعد بعد من مناوبته الليلية كمسعف في إحدى مستشفيات القطاع، ليفاجأ حين وصول مصابين جدد أن هؤلاء المصابين هم أولاده الأربعة جميعهم، إصابة اثنين منهم كانت بسيطة، أما بهاء وفرح فكان يجب أن يرْقدا على سرير الشفاء أيامًا، على أمل أن تتعافى قدم فرح ولا تتعرض للبتر كما هي حال آلاف أطفال غزّة وطفْلاتها. على كل حال عدوان عام 2021، القصير والمحدود، أدى رغم محدوديته إلى استشهاد 66 طفلًا من أطفال غزّة، ليصبح هذا العدد بالآلاف في حرب الإبادة الجماعية القائمة اليوم. وعلى سيرة الأطفال، فقد قتل العدو الصهيوني بعض أطفال حي الصّبرة وهم يلعبون كرة القدم.
وخلال الأيام القليلة الماضية ارتكب العدو عددًا من المجازر بحق الحي وأهله أدت إلى استشهاد عدد من سكّانه. وهي استهدافات ترتكب في سياق جولات العدوان التي ينتقل العدو خلالها من حي إلى آخر، ومن مخيّم إلى مدينة، خالية من أي مضمون عسكريّ، بهدف القتل فقط، وإدامة العدوان، وضَمان عدم توقّف نهر الدم المتدفّق بلا هوادة.
جرائم العدو الصهيوني لا تقتصر على البشر في الحيّ، فهي قد طاولت الحجر، وأكثرنا حتمًا شاهد فيديوهات الجنود الصهاينة وهم يحتفلون بتدمير منازل في الحي على الهواء مباشرة، بالعدِّ العكسيّ والأمراض النفسية المُزمنة، ومخْتلف قرائن لا إنسانيّتهم وجُبْنهم وخسّتهم. ناهيكم عن جرائم المربعات السكنيّة التي كان نصيب الحيّ منها وافرًا.
قصص صمود
رغم كل المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحقِّ حيّ الصّبرة وأهلِهِ الصابرين، إلا أنهم وبلسانٍ واحد يعلنون إصرارهم على الصمود والبقاءِ في حيّهم لا يبْرحونه ولا يتركونَ بيوتَهم؛ هذا ما يقوله الحاج أبو أحمد "صامدين وصامدين وصامدين لآخر يوم لآخر نفس... هينا موجودين في دورنا وبنطلعش منها رغم كل الظروف وكل المخاطر. صامدين في الصّبرة ومش طالعين لا جنوب ولا شمال ولا شرق ولا غرب". أبو أحمد يخاطب مجرم الحرب نتنياهو قائلًا له بالعاميّة ما معناه: ماذا تتوقّع من طفل فقد أباه وأمه وكل أشقائه؟ سيكبرُ ويكبرُ غضبهُ معَه، وسيكونُ أكثر شدّة ومقاومة وإصرارًا على دحرِكم أكثر ممّن سبقوه من المقاومين. وهي الفكرة نفسها التي يتطرّق إليها ابن الحيّ شحادة أبو شريعة الذي يؤكد أن الطفل الذي رأى كل هذه الويلات سيصعد فوق الدبابات ولن يخشى لا الدبابات ولا الصهاينة المختبئينَ داخلَها. رجل الدين عمر الحاسينة يحمد الله ويؤكد أنهم صابرون في حيّهم رغم كل الظروف "مش حنسيب أرضنا ولا بيوتنا"، ويرفض أن يبثّ شكواه للمجتمع الدولي "الميّت" بحسب وصفه، بل إلى الله: "نشكو همّنا وحزننا إلى الله وحده لا لأحد سواه". الحاج أبو صبحي يقول "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا... مش طالعين ييجوا يطخوني وأنا على تختي في بيتي... أما طلوع من هانه مش طالع". أبو شريعة يؤكد بدوره أن الخوف اُنتزع من قلوب جميع أهل الحيّ الصغير قبل الكبير، وحتى الجيل الذي سيأتي لاحقًا سيكبر من دون أي خوف من المحتل المعتدي، معللًا انتزاع الخوف بما شاهده الجميع من بسالة المقاومة وشجاعة رجالها الذين ينزلون تحت الدبابة، أو يقتربون منها ويلصقون عبوّة العمل الفدائيّ فوقها. صمود لا يعني أنهم لا يعانون، فها هو أبو صبحي يؤكد أن معاناتهم تحتاج إلى مجلّدات لوصفِها وكتابةِ تفاصيلها، لكن، ورغم هذه المعاناة جميعها، فلا خروج، ولا نزوح، وليس أمامهم إلا الصمود... الصمود، ولن ينصرهم، بعد الله، إلا هذا الصمود.
من قصص الصمود في الحيّ، إلى ذلك، ما جسّدته عائلة أسامة حبشي من سكان الصّبرة، مشكّلةً نموذجًا في كيفية مواجهة مخططات العدو الصهيونيّ الراميةَ إلى تهجير الفلسطينيين. فبعد أن قصفت قوات الاحتلال منزل العائلة، انتقلت إلى حيّ التفاح في المدينة، رافضة النزوح إلى الجنوب، ومع بدْء الهدنة المؤقتة بنهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، عادت العائلة المكوّنة من خمسة أفراد إلى منزلها المدمّر جراء القصف الصهيونيّ، وبدأ الجميع جعلَه صالحًا للحياة مرّة ثانية رغم خلع الصهاينة حتى للشجر، وحرمان أهله من موسم الزيتون. وفي لفتة معبّرة خلال التقرير التلفزيوني عن أسرة حبشي، يحمل الأب أسامة بحنوٍّ قطّة بين يديه ويتكلم معها قائلًا: "حتى أنت ماتوا ولادك... لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... العدو الصهيوني حتى الحيوان مش سايبوا بحاله... والله حزين على ولادك". باكيًا يصرخ أسامة حبشي أنه سيبقى صامدًا "أقسم بالله رغم كل الفقد والدمار صامدون... أهلي فقدتهم هنا... لم أدفنهم حتى... أسيبهم وأطلع على سيناء واللا على أي مكان تاني... والله لو طوّبولي الدنيا بحالها ما بترك الصّبرة وبرحل". يجتمعون في نهاية التقرير حول نار ما قُسِم من طعام الله... أشعلوا النار بأخشاب شجرهم المغدور... يطلب أسامة من أحد أقاربه أن يطلُع بالموّال (إدّيها موال)، ولا يكذّب القريب الشاب خبرًا: "جار عالفجّار كيف النار ما تنصان كيف الكرامة ما تنهان وإنه الموت فدا الأوطان مش إرهاب". وفي القفلة يرددون جميعهم: "لا تحزن معاك الله... معاك الله يا أعظم شعب... يا أعظم شعب"، و"بكتب اسمك يا بلادي عالشمس ال ما بتغيب... لا مالي ولا ولادي على حبّك ما في حبيب".
فور هزيمة حزيران/ يونيو في عام 1967، انخرط شباب الحيّ بِالمقاومة والعملِ الفدائيّ، ونفّذوا سلسلة عمليات ضد الجنود والمسْتوطنين قبل إلقاء القبض عليهم وسجْنهم مدى الحياة. وعلى مدى تاريخهِ المعاصر، مثّل الحي عقدةً للعدو الصهيونيّ، لا سيما في سبعينات القرن الماضي، حين كان الفدائيون يعملون بأريحيةٍ كبيرة من خلال تنفيذ عمليات فدائية قبل اختفائهم عن أنظار الاحتلال. وفي شهر نيسان/ أبريل من عام 1988، كان الحيُّ على موعد مع أوّل عملية فدائية بالسلاح الأبيض تنفّذ في انتفاضة الحجارة، حيث قتل أبناء عائلة الكردي في شارع الثلاثينيّ وسط الحيّ ثلاثة جنود صهاينة. ألم أقل لكم إن الحيّ قلعةٌ من قلاع البسالة الفلسطينية الخارقة الحارقة، وأنه قصةُ صمودٍ منسوجةٌ داخل عروقِ المستحيل.