}

مَكامِن الجسدِ وكَمائِن التجْريد

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 نوفمبر 2024
آراء مَكامِن الجسدِ وكَمائِن التجْريد
إبادة جماعية على الهواء مباشرة
"لم يفلحْ القتلُ على الهواء مُباشرة بمنْع الشعراء من شتمِ المُباشَرة".

ما الذي يجعل القططَ الكبيرةَ جامحةً، مفترسةً، قاتلةً، متسيّدةً، إلى كلِّ هذا الحد؟ الجواب ببساطةٍ كامنٌ في أجسادِها ومواصفات هذه الأجساد؛ رشيقة (تصل قفزة بعضها إلى ثلاثة أمتار في الهواء الحُر)، جماجمها كبيرة، سريعة (تصل سرعة بعضها إلى 73 كيلومترًا في الساعة)، قدرات تسلّق استثنائية (خصوصًا النمور)، قدرات على السباحة، أنيابها خارقة (قد يصل طولها إلى 10 سنتمترات)، مخالبها كاسرة صلبة لا تضاهى (تظهر عند الحاجة وتختفي عند انتهاء المَهمة)، أجسادها انسيابية تمنحها قدرات ميدانية ضرورية لإنجازها مهامها مثل التخفي والمناورة وما إلى ذلك.
تلك أجساد وظيفية بالمعنى الحرفيّ للكلمة، كيّفتها الطبيعة لتظل قادرة على الافتراس وتأمين قُوتها مهما طوّرت الحيوانات الحزينة المستهدفة قدراتها على الهروب من تلك النهاية المأساوية. أجساد الحيوانات على وجه العموم تتصف بمهارات كل حسب اختصاصه؛ المفترسة (بفتح الراء) تملك أجسادها مهارات كسرعة الهرب كما في حالة الغزلان على سبيل المثال، وإصدار رائحة كريهة مثل القنافذ والسمندل وبعض السنوريات، وهناك أجساد حيوانات تتميز بقدرات استثنائية على التخفي مثل الحرباء، إفراز السموم، التنكّر (التظاهر بالموت)، أشواك دفاعية فوق أجسادها (بعضها، كالنّيص على سبيل المثال، يطلق سهامًا قاتلة من الأشواك)، اللجوء إلى التحرّك الجماعيّ (التكتل الاجتماعي)، استخدام الصوت العالي (الخفافيش)، التكاثر السريع التعويضيّ، حتى أن بعض الحيوانات كالأخطبوط على سبيل المثال، تستطيع تجديد أجزائها المفقودة أو التالفة، مما يساعدها على النجاة.

النمر البطل 

أما المفترسة (بكسر الراء) فتملك المواصفات التي بدأنا الموضوع بها وغيرها، على أن الحيوانات (بحالتيّ الراء) ليست موضوعنا، وما الاستهلال بها إلا لأن حساسية الموضوع الذي أنوي، مكرهًا، الخوض فيه، تجعلني أخشى من غضبة الشعراء فهم إن غضبوا أوغلوا في قتل الخصم وتوجيه الطعنات على اختلاف أنواعها له؛ طعنات التقليل من الشأن، طعنات التجهيل، طعنات الشعبوية، المزاودة، وطعنات كثيرة أخرى ما أنزل الله (ولا أفلاطون) بها من سلطان.

مكامِن الجسد

الجسد، بالتالي، وبناء على ما تقدم، هو هيكل وظيفي يملك بني البشر أجمله {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (الآية الرابعة من سورة التين)، وهو يقوم في حالة الإنسان الذي خلقه الله، بحسب الآية، في أحسن تقويم، بعديد الوظائف، منها المعقدة وغير المرئية لنا مثل الحفاظ على التوازن الهرموني التي تقوم به الغدد في أجسادنا، ومثل تنظيم الحرارة والحفاظ على التوازن الداخلي، وصولًا إلى الوظائف التي يقلّب الشعراء وجوهها أكثر من غيرها، وأقصد وظيفة التكاثر والنموّ، مرورًا بالوظائف الأساسية التي تشمل التنفس، الهضم، الدورة الدموية، الحركة، والإحساس، إضافة إلى الوظائف الحيوية الأخرى التي تساهم في الحفاظ على الحياة والصحة، أي أن كل جزء من أجسامنا، من الأعضاء إلى الأنظمة المعقدة مثل الجهاز العصبي والهرموني، يعمل بتنسيق لتلبية احتياجات الجسم وتحقيق التوازن الداخلي. فأين الشعر في كل ذلك؟ قد يكون الشعر مزروعًا... مغروسًا في كل تفصيلة من تفاصيل أجسادنا السابحة في الفُلْك الكونيّ كأنها قصيدة القصائد، وترنيمة الصلوات، وسيمفونية الفصول، ومعجزة الخلق، وهبة الخالق. إلا أنها ليست قصيدة للعبادة، ولا لتحميلها ما لا تحتمل، فكثير من ممكنات أجسادنا مكيّفة لكي تيسّر سُبُلَ غرائزنا، وتمكّنها من بلوغ مرادها، تمامًا بما يجعلنا مجرّد نوعٍ من بين أنواع باقي الكائنات، على أن الرب منحنا من السّمات ما يجعلنا نسمو ونحْن نسعى نحو غرائزنا، فالقرد لا يرتقي وهو يمارس غريزته الجنسية التي تكفل له التكاثر.





أما نحن فقد منحناها قيمة مضافة حين ربطناها بالحب والعاطفة، وتلك مشاعر وجدانية ليس لأجسادنا علاقة بها، فأجسادنا ليست مقدّسة، بل على العكس من ذلك؛ تتناقص، برأيي، قدسيّتها كلما اعتنينا بها أكثر، وتزداد قدسيّتها كلما زهدنا بها وزهدنا لها وتعفّفنا، بحيث تصبح أقدس الأجساد أجساد المعتكفين فوق رؤوس الجبال، هناك حيث يتسنى للنسّاك التأمّل السامي، واليقظة الروحية، من خلال مكابدات وجولات من التفكّر، وصولًا إلى "اليوغا" حيث الوحدة الحقيقية بين الجسد والعقل والروح، وحيث تحقيق السلام الداخلي. أمّا لماذا فوق رؤوس الجبال، أو في كهوف العزلة، فلكي يكونوا بمنأى عن كل مفاتنِ الشعراء وغواياتِ اللذّة العابرة.
أمّا أن يتفرّغ شعراء (أمّتيْنا) للجسد مُبحرين في تفاصيله جميعها، غارقين في نكاياته (عفوًا أقصد كناياته) واستعاراته ومجازاته وتشبيهاته، مانحينَه أنواع البلاغة جميعها؛ من الإيقاعية، إلى البيانية، فالصوتية، فالمعنوية، فالحجاجيّة (وركّزوا على هذه، فهم لا يريدونك مجرد متلقٍ سلبي، بل يوجّهونك عاطفيًا، ويفرضون عليك تقديس لحظتهم تلك شئت أم أبيت)، تاركين كل عبادة غيره (غير الجسد أقصد)، فهذا، وأيم الله، تجديف كامل الأوصاف خارج الأسئلة الملحّة للإنسان القويم والإنسانية الحقّة.
يقولون دع الشعراء يفعلون ما يشاءون، وهو مطلب مشروع، على أن يتركونا نقيّم ما يفعلون كما نشاء. يركلون المباشرة، حتى لو ارتبطت بالقتل على الهواء مباشرة، وما أسهل أن يوصموها بالمصطلح القاتل الكفيل بإزاحة أي أحد من طريق صعودهم نحو العاج: الشعبوية. وكان من الممكن أن يتعاملوا بجدية مع العبارة التي وضعتها قبل الولوج في الموضوع: "لم يفلحْ القتلُ على الهواء مباشرة بمنْع الشعراء من شتمِ المُباشَرة"، لو ادّعيت أنني اقتبستها من روجيه إيبار Roger Chartier، على سبيل المثال، أو من جان- فرانسوا ليوتار، أو من هانز- جورج غادامر (Hans-Georg Gadamer)، أو أن قائلها هو هيرمان هيسّه بلحمه وعظمه وسدومِهِ وسدودِهِ وذئابهِ البرّيّة، أما وأنها، بكل تواضع، لي، فهو سبب مقدّس لرفضها والتهامس حولها والانكفاء عن الموضوع من صدره إلى عجزه، حيث العجز سمة مستفحلة في طرق تعاملنا مع بعضنا، وفي أسس قراءتنا لماهيّتنا وهويّتنا وأولوياتنا.
تحت سموم المِبضع الغربيّ الذي وضعنا في رأسه منذ عام 1187 ميلادية، تمدّد مبدعونا ومثفقونا من دون أن يسألوا إلى أين، ولماذا، وما الغاية والمُرتجى، فإذا بهم يتحدثون بلسان عربي ولكن ببيان استعماريّ، ويمنطقون اللامنطق، ويهرطقون الذي لا يهرطق مثل حب الأوطان، والانتصار للضحايا، وإشعال نشيد الأنشاد لعيونها غزّة، ولشرارها جنين، ولجبروته جنوب لبنان وبقاعه وهرمله وضاحيته. ثم إنهم، وفي أحسن حالاتهم، يقولون لك يا أخي إننا لا نكتب في معمعان الحدث، دعنا نخرج منه ثم لكل حادث حديث، لا يريدون أن يضعوا أي احتمال (ولا واحد بالمليون) أنهم قد يكونوا روافع في الخروج منه، والانتصار فيه. وكأن الحدث لحظة عاطفية تحتاج الكتابة عنه، تشربه عن آخره، وكأن ترك الطفلات للموت المفجع ودروب المتاهة والمجاعة ليست خيانة للشعر والإنسانية والحياة والمعنى، فما بالكم إن كنَّ طفلاتنا، وعيونهنّ بعض جينات أمّهاتنا؟!

تلاطم الألوان 

كثير من شعرائنا العرب في مشرق الأمة ومغربها خارج الأحداث تمامًا بالمعنى الحرفيّ للغياب، عالقين، لا يزالون، داخل مكامن الأجساد، متقوقعين في خندق أوهام برجهم العاجيّ، أما خندق المقاتلين البواسل فهو آخر همهم، لا يرون فيه محرضًا للشعر، ولا محفزًا لاستدعاء عبقر، فعبقر هناك "في غياهب الليل"، حيث "تذوبُ الهمساتُ"، وحيث "أصابعُ الوقتِ تتناثرُ فوقَ العرشِ"، و"تشتعلُ أجنحةُ الحرائقِ في الصمتِ". والمعركة الوحيدة التي يتقن بعض شعرائنا خوضها هي تلك التي بين الجسد وشهواته والروح وترفّعها منتصرين، بالطبع، للجسد: "كلُّ خطوةٍ فوقَ الأرضِ هي معركةٌ... بينَ الجسدِ الذي يغني الشهوةَ... وبينَ الروحِ التي تسكنُ الزمانَ"، أما هم فمسافرون غارقون في بحرٍ لا يقاسُ، حيث نغمهم الوحيد شفتاها التي، لو عدنا لموضوع الوظائف، هي للكلام وإدخال الطعام: "شفتاكِ، أنغامي اللامتناهية". وحين تنفجر الصواريخ فوق رؤوس الأطفال، يكون شاعرنا مشغولًا بإخبارها كيف تنفجرُ الفصولُ في جسده: "هل تعرفينَ كيف تنفجرُ الفصولُ في جسدي؟"، أما ليل الرعب من القصف فهو بالنسبة له ليل الشبق النرجسيّ، والنشوة الغامضة، ولثْم الكؤوس، وثنايا الرغبات!
صحيح أن الحياة تولد من أعمق حالات الموت، وأن شعوبنا تستلّ الفرح من أعين الأسى، لكن هذه المعاني ليست ما أرادوه، ويا ليتهم فعلوا، هم في غيبوبة أي منها غيبوبة الجرحى المكلومين بصمتنا. هم في واد وقضايا ناسِهم وأهلهِم ومَن حولهم في واد.

الهروب إلى التجريد

وكما هي حال الشعراء المقصودين في كلامي، ينْحى كثير من الفنانين التشكيليين (الرسامين) إلى الهروب من استحقاقات واقعهم المعاش نحو التجريد، فبحسب واحد من تعريفاته، التجريد هو تعمّد التخلص من العناصر الواقعية والتفاصيل التقليدية، بهدف الحصول على رمزيات غير محددة المعالم، ويمكن الاختلاف حولها، هذا في حال التقاط بعض دلالاتها! إنها الحفلة الكبرى التي أقامها الروسي فاسيلي كاندينسكي الحامل في مسيرته لَطَشات ألمانية وفرنسية، ودعا إليها الألوان فقط رائيًا أن بمقدورِها أن تقيم فيما بينها لغتها العاطفية الخاصة بها بعيدًا عن الكون والوجود والعدم والخير والشر ومختلف ثِيمات الفن والأدب منذ أول الزمان.




يقيم الجوّال الأوروبي حفلته فيرقص في بلادنا مقلّدوه. على أن التجريد، حتى التجريد، يحتاج إلى أدوات، ومؤهلات، وهو دعوة للتحرر من التقاليد والقيود المادية، والتوجه نحو التعبير عن الشعور والتجربة الذاتية بطريقة غير محددة وغير مباشرة. وسواء من خلال الألوان والأشكال في الفن، أو الرموز والمجازات في الشعر، يفتح التجريد مساحة للتفسير الشخصي ويشجع على تأمل أعمق وأكثر تحررًا. والسؤال، أو الأسئلة، هنا: أليست المقاومة دعوة إلى التحرّر، بل هي سعي نهائي إلى الحرية، فإما نيلها أو الموت دونها؟ ما المانع، بالتالي، من أن تتقاطع مساعي التحرر عند فنان تشكيلي يرشق القماش بالألوان، مع مساعي التحرر الفدائية فوق أرض الواقع المدجج بالأعداء والأعدقاء؟ ولماذا لا يستحق كل هذا الألم بعض تأمّل مبدعينا؟ ألا يفترض أن يجافينا النوم أمام كل هذه الإبادة التي باتت تثقل كل معاني وجودنا؟؟
في حين يشكّل منطق الغابة جزءًا طبيعيًا من نواميسِها، تقوم خلالها الكائنات المفترِسة بدورها الوظيفي الغرائزيّ ضمن سلاسل صراع البقاء، وهو ما تواجهه الكائنات المستهدفة بالمنطق نفسه محاولة الدفاع عن نفسها بكل ما تتيحه لها متوالية التطوّر من إمكانات، فإن ما يجري فوق أرض غزّة والضفة وجنوب لبنان وضاحيتها، خارج كل ناموس، عقيدة قتل منزوعة الأخلاق والشرف والقيم، سرقة موصوفة للأرض والتاريخ والحقوق، ولكنه، على وضاعته، ورغم كل ما انتهكه وما حصده من آلاف الأرواح البريئة المغدورة، لم يحرّك مجسّات الشعر ولا صرخات اللون عند طغمة تقيم بيننا وبَالها عند غيرنا، يريدون أن يصعدوا فوق التلّة ليروا المشهد على حقيقته، ليفجعونا، وفق منطقهم هذا، بحقيقتهِم.
"ستنجلي الغَمْرةُ يا موطني" فلا تبتئس، وسوف "يَمْسحُ الفَجْرُ غواشي الظُّلَمْ... والأمَلُ الظامئُ مَهْما ذَوىَ... لسَوْفَ يُرْوى بلهيبٍ وَدَمْ... لنْ يَقْعُدَ الأحرارُ عنْ ثأرِهم... وفي دمِ الأحرارِ تَغْلي النِّقَمْ"، نعم صدقني، وكما أنجبتَ لنا فدوى طوقان وشعراء المقاومة جميعهم، فسوف تنجب لنا شعراء يطلّقون الشّبق النرجسيّ، ولا يحمّلون الأجساد ما لا تحتمل، كيف لا والأوطان ولّادة وفلسطين لن تفنيها الإبادة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.