}

الشحّاذ بين يدٍ ممدودة وفلسفة وأدب

باسم سليمان 26 فبراير 2024
إناسة الشحّاذ بين يدٍ ممدودة وفلسفة وأدب
"ديوجين يطلب الصدقة"، بريشة جان برنارد ريستاوت، 1767


كثيرًا ما يُشار إلى أنّ الحضارة الإنسانية بدأت عندما اكتشف الإنسان كيفية إشعال النار، ولكن الإنثروبولوجية مارغريت ميد أجابت عن سؤالٍ من إحدى طالباتها عن لحظة ظهور الحضارة البشرية بالقول: "إنّ أول علامة على الحضارة في الثقافة القديمة هي الدليل الذي وجدناه، وهو عبارة عن عظام لشخص أصيب بكسر في عظم الفخذ، وشفي منه، واستمر في الحياة". لقد كانت العناية والمساعدة التي قُدمت لهذا الشخص، هي التي صنعت الفارق بين الحياة والموت؛ فحسّ المساعدة للقريب أو الغريب، هو اللبنة الأولى في أي تجمع بشري حضاري. إنّ البحث عن أسطورة تمجِّد هذه المساعدة سنجدها في الحضارة اليونانية، حيث تنكّر الإلهان زيوس وابنه هرمس بصورة شخصين مدقعي الفقر وغريبين عن المدينة، فلم يستقبلهما أحد من سكانها، إلّا عجوزين، قدّما لهما ما توفّر في بيتهما على الرغم من قلّته. كافأ الإلهان العجوزين بأنّ أنقذاهما من الطوفان الذي أغرق المدينة الفاسدة، ومن ثم حوّلاهما إلى شجرتي سنديان وزيزفون بعد موتهما. تكمن أهمية هذه الأسطورة في إعلاء شأن تقديم المساعدة إلى الآخر/ الغريب الخارج عن دائرة الأسرة والعشيرة والقبيلة والمدينة. وبذلك يعتبر استقبال المتسوّل أول انفتاح على الآخر لا يقوم على الزواج أو التجارة أو الحروب، بل على حسّ المساعدة الإنسانية البحتة التي لحظتها الأساطير وحكايا الشعوب التراثية والآداب بسبب أهميتها في التضامن المجتمعي الإنساني. وفي الوقت نفسه كشفت عن الذين يستغلّون هذه الميزة الإنسانية في مآربهم الخاصة حيث يزاحمون الفقراء والشحاذين الحقيقيين على لقمة عيشهم. لقد ابتدأت رواية فيكتور هوغو البؤساء بسرقة رغيف، عندما لم يجد جان فالجان من يتكرّم عليه بقطعة خبز تسكت جوعه. وليس غريبًا أن يكون الاستجداء متوجهًا دومًا نحو الطعام من قبل الشحاذين، كونه اللبنة الأساسية في قوام الحياة وأن يكون الطعام سببًا للثورة الفرنسية التي غيّرت وجه العالم.

إنّ مفهوم الضيافة اليوناني ومساعدة الغريب المتسوّل الذي نجده في الأسطورة السابقة سنلقاه في أوديسة هوميروس. عاد أوديسيوس/ عوليس من تيهه إلى بيته في إيثاكا ليجد الخطّابين يحاصرون زوجته على أمل أن تأتي أخبار موته. يتنكّر أوديسيوس كشحاذ ويدخل بيته، فيستقبله ابنه وخادمه ويقومان بواجب الضيافة من دون أن يتعرّفا عليه، أمّا الخطّابون، فيلومون الخادم على إدخال هذا المتسوّل. إنّ ثيمة التسوّل التي أدخلها هوميروس كانت من أجل تبيان فساد الخطابين الذين سعوا للزواج من بينيلوبي زوجة أوديسيوس؛ ومن ثم ليكون الموت جزاءهم على يد البطل الذي هزم طروادة بخدعة الحصان، فهم لا يستحقون أن يكونوا بدلًا من سيد البيت الذي يكرم الضيوف، سواء أكانوا ضيوفًا، أم مجرد شحاذين غرباء. لقد سقط خطابو بينيلوبي بالامتحان الأخلاقي الذي تعود جذوره إلى مفهوم التطهير اليوناني، فالشحاذ البائس يرمز إلى أيام السوء التي يجب أن تُدفع بالأفعال الجيدة، فاستقباله وإطعامه أي قبول استضافته يشير إلى الرضوخ للأقدار الإلهية مهما كانت، وقبولها بقلب صبور. يقوم المتسوّل بالدعاء لزيوس/ رب الضيافة ليكرم أهل البيت الذين استقبلوه وأطعموه ومن ثم يحمل عنهم أخطاءهم ويذهب. وكأنّ تقديم المساعدة للمتسوّل فعل تطهير يشبه الكاثرسيس/ التطهير الأرسطي. إنّ المغزى من مبدأ الضيافة في المجتمع يعني بأنّ أي شخصٍ في أية لحظة قد تتبدل أحواله إلى الأسوأ، وبالتالي يصبح إكرام الضيف الغريب تأمينًا مستقبليًا للمضيف يمنحه إياه المجتمع في حال وقوعه بضائقة تشبه وضع المتسوّل. وهذا ما نجده في مفهوم الكرم والضيافة عند العرب في الصحراء.

إنّ تدهور حال المجتمع سيؤدي إلى ظهور طبقة من المتسوّلين، كما سنرى لاحقًا في العصر العباسي، ففي المجتمع اليوناني الذي فتكت الحروب بمدنه كأثينا وإسبارطة، وبالتالي فقد ازدادت الفروق الطبقية بين سكانه؛ الأمر الذي أدّى إلى ظهور طبقة من الفقراء المتسولين، وإلى أن يخرج ناطق باسمهم يذمّ المجتمع الذي تركهم يسقطون في الفاقة والعوز والمرض. لذلك كان لا بدّ من ديوجين الفيلسوف الذي كان يحمل مصباحه في النهار بحثًا عن رجل! والرجل هنا؛ رجل العدالة الذي فُقد من اليونان.

نستطيع أن نعدّ الإغريقي ديوجين الكلبي أول فيلسوف شحاذ، فهو لم يكن ينتقد النظم الدينية والسياسية والاجتماعية للإغريق وفلاسفة اليونان فقط، بل كان يمتحن مجتمعه بالتسوّل أيضًا، هذا المجتمع الذي يتشدّق بالأخلاق والثروة وامتلاك العبيد. وعندما هرب منه عبده (مانيس) قال: "إذا كان مانيس يستطيع العيش من دون ديوجين، فلماذا لا يعيش ديوجين من دون مانيس"، وهو بمقولته هذه، كان يسخر من السادة الذين لا يستطيعون عمل شيء من دون عبيدهم. وإذا كان لنا أن نُرجع القصص الشعبية التي تحكي حكاية الملك الذي أصبح شحاذًا أو التقى بمتسوّلٍ والتي بموجبها سيستخلص الملك العبر العميقة من حياة الفاقة، فإنّ لقاء ديوجين بالإسكندر المقدوني منطلقها. يروي المؤرخ اليوناني بلوتارخ ما دار بين ديوجين والإسكندر ذي القرنين: "بينما كان ديوجين يسترخي في ضوء شمس الصباح، سأل الإسكندر، الذي كان سعيدًا بلقاء الفيلسوف الشهير، عمّا إذا كان هناك أي معروف يمكن أن يقدّمه له. فأجاب ديوجين: نعم، قف بعيدًا عن ضوء الشمس". ثم أعلن الإسكندر: "إذا لم أكن الإسكندر، فإنّني أودّ أن أكون ديوجين. فأجاب ديوجين: لو لم أكن ديوجين، لكنت لا أزال أرغب في أن أكون ديوجين". ما قصده ديوجين من ردّه على الإسكندر الذي كان في طريقه ليفتح العالم القديم، بأن هناك في بلده من لا يجد غير الشمس وسيلة للتدفئة وأنت أيّها القائد تحلم بأن تجعل العالم كاليونان! وفي رواية أخرى للمحادثة، وجد الإسكندر الفيلسوف ينظر بانتباه إلى كومة من العظام البشرية. قال ديوجين: "أنا أبحث عن عظام أبيك، ولكنّي لا أستطيع تمييزها عن عظام العبد الميت!".             

لقد كان ديوجين صوت الذين لا صوت لهم؛ من فقراء ومعوزين ومرضى وعبيد، فإن كان سقراط يريد أن يداوي رجال أثينا الأحرار، فإنّ ديوجين ذهب إلى من أسقطهم المجتمع اليوناني من حسابه وصدح بما يعتمل في صدورهم، حتى قال عنه أفلاطون بأنّه أشبه بسقراط، لكن بهيئة المجنون!

إنّ مقارنة بين سيرة حياة ديوجين وسير أدباء الكدية/ التسوّل في الأدب العربي وخاصة في كسرهم الأعراف نلحظها أيضًا لدى ديوجين الذي كان يطلق الريح في مجالس السادة الأحرار، ويتغوّط في المسارح، ويبول على من أهانوه... إلخ.

ليست اليونان هي الوحيدة في هذا المفهوم، بل الهند أيضًا، فالإله شيفا تنكّر في هيئة متسوّل؛ والمقصد من ذلك يكمن في أن الأفعال المثابة من الآلهة من الممكن أن تتخذ أشكالًا عديدة كإطعام أحد المتسوّلين. وفي الديانة البوذية نجد أن الكهنة كانوا يحملون أوعية الطعام ويطوفون على البيوت يستجدون طعامهم. ولم يشذّ عن هذا الأسلوب بوذا فقد قرع الأبواب مستجديًا طعامه قبل أن يجلس تحت شجرة التين الهندي وينال الاستنارة. هذا التقليد المجتمعي في مساعدة الفقراء والغرباء أكّدت عليه الديانات السماوية أيضًا. وفي الأعراف العربية كان مفهوم الكرم مرتبطًا باستضافة الغريب اللاجئ بحيث أصبح الفخر بهذا الأمر والمديح به أحد أهم التقاليد المجتمعية والشعرية في جاهلية العرب.

آل ساسان

ليس التسوّل مقصورًا على حضارة معينة، بل عمّ جميع الحضارات قديمًا وحديثًا، لكن ما يعنينا من ذكره هو اللحظة التي يتحوّل فيها المتسوّل إلى فيلسوف أو أديب! وفي حضارتنا العربية إبّان العصر العباسي بدأ ظهور أصحاب الكدية/ الشحاذون/ آل ساسان. والكدية مصطلح يعني الإلحاح في السؤال طلبًا للطعام والمال بواسطة الحيلة والدهاء، أمّا الشحاذ فيجد معناه: شحذ الجوع معدته إذا ضرمها وقواها على الطعام؛ وهذا يعني بأنّ الشحاذ يعني الجائع الذي كانت تطلق عليه العرب: الشحذان. بينما أتى مصطلح: (آل ساسان) من أسطورة ذكرها الطبري في تاريخه، بأنّ ساسان بعد أن أصبحت أخته من أبيهما (بهمن) الملكة، زهد بالملك وتنسّك في الجبال واتخذ لنفسه غنمًا. يأتي ارتباط هذه الأسطورة الذي ذكرها الطبري بالشحاذين وأصحاب الكدية، بأنّهم كانوا يعلّلون سؤالهم الناس عن المال والطعام، بأنّ السُبل قد تقطّعت بهم وهم قد كانوا في أحسن حال؛ لكن الزمان بدّل الأحوال، أو أنّهم نازحون بسبب حرب، أو جائحة، أو جفاف، وكأنّهم ساسان الذي فقد الملك. وقد افتخر الشاعر أبو دلف وكان من المكديين بنسبه إلى آل ساسان ونختار منه بعض الأبيات:                             

على أنّي من القوم الـ/ بهاليل بني الغرّ!

بني ساسان والحامي الـ/ حمى في سالف العصر

فنحن الناس كل النا/س في البر والبحر

لنا الدنيا بما فيها/ من الإسلام والكفر.
                                                   
لقد تكاثر أهل الكدية في العصر العباسي، بعد أن ضعفت الخلافة، فساهمت عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية في ظهور هذه الفئة التي تتعيش على سؤال الناس الطعام والمال، عقب انتشار الفقر وقلّة الموارد، فأصبح إيجاد لقمة العيش من الصعوبة بمكان، فابتدع أهل الكدية أساليب عجيبة في إقناع الناس لمنحهم المال والطعام. وما يعنينا منها استخدام الآداب، لاستدرار عطف الناس، حتى أصبح لدينا ما يمكن تسميته بأدب المكديين.

وأمام تنامي هذه الفئة من البشر لحظهم الجاحظ وذكر بعضًا من أصنافهم وحيلهم في التكسب: الكاغاني: من يتصنّع الصرع. والمشعّب: من يحتال ليتسبّب بعاهة للطفل الصغير من عمى وما شابه، فيتسوّل به ونجد شبيهًا له في رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ بشخصية المعلّم (زيطة) الذي كان يتسيّد الشحاذين ويصنع بهم العاهات التي يتسوّلون بموجبها. والمزيدي: من يدور بعدد قليل من الدراهم ويطلب من الناس أن يمنحوه فوقها ليشتري كفنًا. والمكّي: من يدّعي بأنّه كان ابن نعمة فأصبح ابن حاجة. والكان: هو رفيق القصاص الذي يستدرّ عواطف الناس الدينية بقصصه عن الأنبياء والرجال الصالحين، فيطلب منهم التبرّع له، وبعد انتهاء الجلسة يتقاسمان الغلّة. ولقد اهتم المؤرخ المسعودي والفيلسوف أبو حيان التوحيدي بذكر تراجم لهؤلاء الشعراء وغيرهم من الأدباء المكديين، كذلك كان الصاحب بن عبّاد يهتم بهم ويستقبلهم في قصره. ومن هؤلاء الأدباء والشعراء نذكر: أبو المخفّف، والأحنف العكبري، وأبو دلف وغيرهم.

كان للروائي النوبلي نجيب محفوظ عدّة وقفات مع الشحاذين ولربما أهمها في روايته "الشحّاذ"


لم يكن شعراء الكدية غافلين عن أغراض الشعر العربي من فخر ومدح ونسيب وإلى ما ذلك، لكنّهم أرادوا أن يكون شعرهم معبّرًا عن حالهم أولًا، فها هو الأحنف العكبري يعترف ساخرًا بأنّ الناس قد كشفوا حيله وخداعه وكذبه، فارتحل إلى الأرياف ليمارس ألاعيبه، ويتكسّب حيث لا يعرفه أحد، فيقول:

ولستُ مكتسبًا رزقًا بفلسفة/ ولا بشعرٍ ولكن بالمخاريق

والناس قد علموا أنّي أخو حيلٍ/ فلستُ أنفق إلّا في الرساتيق.

ومثله فعل أبو الشّمقمق عندما وصف بيته بطريقة تنضح سخرية لكنّها مبطنة بالألم:

برزتُ من المنازل والقباب/ فلم يعسرْ على أحدٍ حجابي

فمنزلي الفضاء وسقف بيتي/ سماء الله أو قطع السحاب

فأنت إذا أردت دخلت بيتي/ عليّ مسلمًا من غير باب

لأنّي لم أجد مصراع باب/ يكون من السحاب إلى السحاب.

وأمام واقعهم المرّ شرعوا بخرق كلّ محرم قد سنّته الأديان والأعراف، فما دام المجتمع قد أخرجهم من عماده، فلماذا يستبقون قوانينه، فاتجهوا إلى المجون والدعارة والسرقة والكذب وها هو أبو دلف الخزرجي لا يستحي من ذلك: (نترك شرح الأبيات للقارئ!) حيث يقول:

ومنّا  كلّ صلّاج/ بكيذ وافر نكَر 

قد استكفى بكفيه/ عن الثيب والبكر

فلا يخشى من الإثم/ ولا يُؤخذ بالمهر

ولا يحذر من حيضٍ/ ولا حمل على طهر.

وعندما يمدحون أحد القادة أو الأغنياء طمعًا في ماله، فسريعًا ما يتخطّون المدح إلى غايتهم في طلب المال أو الطعام والثياب. يقول أبو فرعون الساسي مادحًا وزير المأمون الحسن بن سهل:

الناس أشباهٌ كما قد مُثلوا/ وفيهم خير وأنت خيرهم

إليك أشكو صبية وأمهم/ لا يشبعون وأبوهم مثلهم.

لم يكن شعراء الكدية غافلين عن الأسباب التي قادتهم إلى التسوّل وذلّ السؤال وذلك بسبب فساد السلطة، لذلك يقول أحد شعراء الكدية أبو اليَنْبُعي:

 ألا يا ملك الناس/ وخير الناس للناس

أتنهاني عن الناس/ فأغنيني عن الناس

وإلّا فدع الناس/ ودعني أسأل الناس.

لقد كان شعراء الكدية نماذج واقعية لكتّاب المقامات، فتم استلهامهم، فالأديب بديع الزمان الهمذاني جعل من  شخصية أبي الفتح الإسكندراني تمارس الكدية في الكثير من المقامات أحيانًا عبر البلاغة وأحيانًا بلبس الثياب البالية أو حتى التنكر بإعاقة يستدر بها عطف الناس، حتى أنّه جعله ينطق بأحد أبيات شعراء الكدية أبي دلف الخزرجي:                                                                 

ويحك هذا الزمان زور/ فلا يغرنّك الغرور

لا تلتزم حالة ولكن/ دُرْ بالليالي كما تدور.

وليس الهمذاني وحده من استلهم حياة المكديين، بل ابن ناقيا البغدادي بمقاماته، وابن الحريري أيضًا، فنلفى بطله السروجي في المقامة الدينارية، تارة يمدح الدينار وتارة يذمّه، وكل همّه أن يُفرج المستمعون عن دراهمهم ودنانيرهم له، فيمدح الدينار بالقول:                       

أكرم  به أصفر راقت صفرته/ جواب آفاقٍ ترامت سفرته.

وبعد لحظة يذمّه: 

تبًا له من خادع مماذق/ أصفر ذو وجهين منافق.

وهو إذ يتقلّب في سعيه، فلا تعرف له رأيًا؛ يتخذ من أشعار أبي دلف مبدأ، ما دام هذا الزمان يمضي بالزور. لم يكتف أصحاب الكدية بما قالوه من أشعار، بل حتى أنّهم أبدعوا لغة خاصة بهم، نسجوها من العربية والفارسية والرومية والسريانية والعامية، بحيث أصبحت كشيفرة بينهم لا يفهمها غيرهم. وقد سجل لنا الشاعر صفي الدين الحلّي في قصيدته الساسانية الكثير من مصطلحاتهم:

بتبريخ أدصاي وتربيخ مشتاني/ غدت سائر الأخشان والغرش تخشاني

خعَفتُ دوانيك العراكيس كلّها/ فشحّمني مَنْ كان قبل داصاني

وهابرتهم فيما استكافوا بفيسهم/ وبالقجم من تبكٍ ومرْد ومرقان(1).

ومعنى أبيات الحلي؛ بأنّ صاحب الكدية قد كشف أعداءه عبر حيله الذكية، حتى أصبحت العامة وكبارهم يخشوه. وأنّه قد حفظ الأشعار والأحاديث حتى أطعمه من كان يعاديه لبلاغته. وقاسم الأغنياء ما كسبوه بكذبهم من دراهم ودنانير.

في زمننا الحالي

لقد استطاع الشحاذون في الزمن العباسي وما تلاه إيجاد حالة أدبية تستحق أن تدرس وينظر فيها بعمق لقدرتها على كشف المسكوت عنه في التاريخ الرسمي.
أمّا في زمننا الحالي، فقد استخدم الأدباء وخاصة الروائيين والمسرحيين شخصية الشحاذ لتحميله مضامين ثورية واجتماعية وفلسفية.

كان للروائي النوبلي نجيب محفوظ عدّة وقفات مع الشحاذين ولربما أهمها في روايته "الشحّاذ". لقد كان بطل الرواية عمر الحمزاوي يعيش قلقًا وجوديا اكتسح حياته بعد أن فشل في مواجهة الوجود. لقد كان يفتقر للمعنى في حياته، فلا يجده في الدين أو العلم أو الثقافة. استعار محفوظ ثيمة الشحاذ الذي يلهث وراء الماديات ليرينا نمطًا آخر من البشر تكمن مشكلتهم في إيجاد غاية لحياتهم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى العزلة والوحدة وكأنّ المعنى هو العملة الوحيدة التي تكافئ الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والوجودية، وبما أنّ عمر الحمزاوي قد افتقده، فهو يحاول أن يستجديه لكن لا معطٍ له، لأنّ المانح هو نفسه، ولأنّها خسرت معناها ظلّت يده ممدودة، لا أحد يلتفت إليها. كذلك فعل الروائي ألبير قصيري في روايته "شحاذون ونبلاء". تتناول الرواية عدّة شخصيات من طبقات اجتماعية مختلفة، ليكشف لنا الصراعات الدائرة بينها وخاصة شخصية أستاذ التاريخ الذي يستقيل من وظيفته احتجاجًا على تزوير التاريخ، لينتهي متسولًا للحقيقة التي يتعلمّها من أحد الشحاذين، الذي لا يطلب شيئًا ولا يشكو، لكنّه شحاذ على باب الوجود.

تظهر وتغيب شخصية المتسوّل في الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والفلسفية والأخلاقية، لكن معانيها كامنة في كلّ واحد منّا، فهناك من يتسوّل الحبّ ليسامح. وهناك من يتسوّل الحقد ليثأر. وهناك من يتسوّل وطنًا بعدما أضناه اللجوء والهجرة. وهناك من يتسوّل حرية بعدما أصبحت السجون بعدد العِباد. لكن أكثرنا شحاذو مال في زمن رأسمالي لا يعترف بأي معنى خارج الربح والخسارة، فهل لنا بنصيحة أبي دلف منجاة؟ لربما!:                                       

ويحك هذا الزمان زور/ فلا يغرنّك الغرور

لا تلتزم حالة ولكن/ دُرْ بالليالي كما تدور.  

 

الهوامش:

1-  شرح المفردات: التبريخ: الكشف- أدصاي: أعدائي- التربيخ: تحسين وتحكيم الحيلة- مشتاني: حيلتي- الأخشان: العامة- الغرش: أكابر الغرباء- خعفت دوانيك: حفظ الأشعار والأحاديث- العراكيس: أكابر الغرباء- شحمني: أطعمني- داصاني: عاداني- هابر: قاسَم- استكاف: سلب سرق- الفيس: الكذب – القجم: الكلام المنمق- التبك: الفلس – المرد: الدراهم- المرقان: الدينار.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.