}

في أضلاع المائدة

عزيز تبسي 11 أبريل 2024
إناسة في أضلاع المائدة
(Getty)

 

يأتي الكلام عن الطعام من رغبة التمسك بديمومة الحياة. سار بمسيرة طويلة عمرها من عمر تكون الحياة البشرية، انتقلت معه وبه الجماعات البشرية من الصيد، والتقاط الثمار الساقطة من الأشجار، إلى التعرف على النباتات وخصائصها، إلى التمكن من تدجينها وزراعتها، أي الانتقال من مرحلة التطفل على الطبيعة النباتية والحيوانية، إلى المساهمة في إنتاج الغلال الزراعية وتدجين الحيوانات، وتحويلهم إلى مادة غذائية، يتحقق بها الأمان الغذائي الضروري لحفظ استمرار الجماعة البشرية. قبل الانتقال في العصور المتأخرة التي عرفت التدوين، حيث بدأ يسود تنوع الأطعمة والانتقال من الوجبة الواحدة في اليوم إلى تعدد الوجبات، وتنويعها وبذخها، عناصر كثيرة عكست حالة الوفرة وتكون فائض مادي وارتفاع مستوى الرفاه العمومي.

ويظهر الحديث الدائم عن الطعام كتعويذة لطرد أشباح الجوع، الذي ما انفك يعود، بأثر من الحروب والجفاف واحتكار المحاصيل والتحكم بأسعارها، الذين أوصلوا الشعوب إلى عتبة المجاعات.

كما يحسب أن شدة الإكثار من وصف موائد الطعام واستعراض ألوانها والتحفيز على إنتاج ما يماثلها، وتوجيهها إلى شعوب يعيش أغلب سكانها تحت خط الفقر... أن التاريخ صراع بين الأطباق لا بين الطبقات.

-1-

تفاعلت عبر التاريخ ثقافات القمح والأرز والذرة الصفراء وعموم الحبوب الأخرى، وأثبتت تفاهمها برضى وسهولة، على عكس الذي يستمر في المعتقدات، إذ تقبل الشعوب العادات الغذائية لبعضها، فيما ترفض المعتقدات التي تعيش معها. حاز الأرز والتوابل الآتيان من ثقافة الهند موقعًا مركزيًا على مائدة الطعام العربية، بينما بقيت البوذية في موقعها المنبوذ بوصفها عقيدة وثنية. مما يؤكد حيادية وديمقراطية المائدة وانحيازية واستبدادية عقائد الطباخين، وبهذا جمعت الموائد ما فرقته العقائد.

عكست مدونات الثقافة الغذائية بتنوعها وغناها، أحوال الفئات العليا في المجتمع الأغنى والأوسع اطلاعًا على الثقافات الغذائية للشعوب الأخرى، وقدرتها على استضافتها على موائدها، كما على امتلاك المواد الغذائية وتخزينها، إلى حيازة فنون ومهارات طهوها، واستخدام الإضافات الوافدة معها من الأباريز والتوابل وعموم المنكهات. لا تعتبر اللحوم من أساسيات الطعام في المدن والأرياف، لارتفاع ثمنها في المدن بالنسبة لأجور الأغلبية الشعبية، وحاجة سكان الأرياف لحيواناتهم، الذين يعتبرونها وسائل إنتاج، لا يمكن الاستغناء عنها، واستبدلوها بصيد الحيوانات البرية والنهرية والبحرية، الطيور والأرانب والأسماك، تعويضًا لحاجتهم لتناول اللحوم.

تشير أسماء العشرات من الأطعمة إلى منشأها غير العربي، الأوزي: تركية تعني الخاروف، وتصنع من عجينة رقيقة، يوضع عليها اللحم المفروم المسلوق، والأرز المطبوخ، مع إضافة الصنوبر أو اللوز المحمصين بالسمن، ثم تطوى أطرافها وتخبز بالفرن. الأوظورتما: تركية، تعني المسخن، تسخن القاورما ويصب فوقها ماء البندورة وتترك حتى تتكثف، ويؤكل بجانبها مطبوخ الأرز أو البرغل. كما حافظت العشرات من الأطعمة والنباتات على اسمها الفارسي "أنكري" صحن نحاسي عميق، يطبخ في اللحم، واليوناني والأرمني كإشارة إلى منشأها وهويتها.

وفي سياق الكلام عن الطعام، لا بد من العبور على موائد الوفيات والولادات والزواج... إلخ، وفيها ولائم عامرة وحضور أوسع من العائلة والجوار... وهذا يفتح الباب لدخول "أهل القجم"، وهم فئة من الطفيليين، معروفون بالسليتة أو السلتجية، يترصدون هذه الموائد بغريزة الثعالب، ولهم لغة خاصة بهم. "عرق السقف" كناية عن سيلان سمنه أو دهن أقراص عش البلبل التي وضعها السلتجي تحت طربوشه، أو "الصابونة على الجرن"، إشارة إلى ضرورة الإستعجال بمغادرة المائدة إلى غسيل اليدين، للالتحاق بمائدة أخرى.

-2-

حاز الباذنجان على موقع أساسي في مائدة الطعام، البانجان أو الباتنجان أو بادنجان من الخضار ذات الثمر المستطيل. مفردها بانجانة وبانجاناي وبانجاناية وباتنجانة أو بادنجانة. أسماه العرب الحذق أو الحدق، والقهقب والكهتب والمغد والوغد والأنب والحيصل، ويرجح أن العرب نقلوه إلى البر الأوروبي. يؤكل نيئًا ومشويًا ومقليًا ومطبوخًا وتصنع منه المقالي والمحاشي والمسقعات ومربيات ومخلل. ويزرع منه في حلب نوعان: البانجان الأسود، المعروف بالفرنجي، وهو من تعريب الأتراك له "فرنك باطليجاني". والبانجان التادفي، وهو أبيض اللون مشرب بحمرة، نسبة لقرية تادف قرب بلدة الباب (شمال شرقي مدينة حلب). ويجلب إلى أسواق حلب نوع من البانجان الكبير يسمونه العجمي أو بيض العجل، يشوى في الأفران أو التنور، لتعد منه أطباق البابا غنوج والباطرش وأطعمة أخرى.

أنتج الحضور الطاغي للباذنجان في الغذاء العمومي ميتافيزيقا باذنجانية، تتأسس على تقطيع الكلمة، المكونة من مقطعين "بان": ظهر، و"جان": كائنات سفلية يؤكد ذلك لونه الأسود والجان سود وفق المعتقدات الشعبية. واستخدم في وصف الإنفعالات بزّر معو البانجان: انفجر بالغيظ والسباب، ولتعدد الأطعمة التي اعتمدت عليه، حاز على الجدارة الشعبية باسم: أبو العيال.

-3-

تنتمي بلاد الشام غذائيًا، لحضارة القمح، المنتج الزراعي الذي يدخل في الأطعمة الرئيسية، يستعجل بحصاد القمح قبل نضجه ويشوى على النار، ويسمى فريكة. تعززت مكانة القمح على مدار أيام السنة، لتوفر البيئة الطبيعية لزراعته، لكونه قابلًا للتخزين، ينتج منه الطحين، المادة الأساسية في صناعة الخبز، ومن جريشه المادة الثانية التي تدخل في عدد غير محدود من الأطعمة، بعد سلق القمح أو الحنطة، وتجفيفها تحت أشعة الشمس، بغرض أن تتصلب حبتها، لتجرش لا لتطحن. وإن كان الأول ينتج الطحين المادة الرئيسية لصناعة الخبز الذي ارتبط اسمه بالعيش أي الحياة، وأحد أسباب استمرارها، ليكون المنتج الثاني البرغل بدرجات نعومته المختلفة، لإنتاج الطبيخ، الدال دلالة طبخة، قوامها جريش الحنطة المسلوقة.

أتى اسم البرغل وفق الباحثين في التاريخ، من التركية بلغور أو بورغول أو بولغور وفي الفارسية برغول، ويقول المؤرخ الحلبي كامل الغزي في كتابه "نهر الذهب"- الجزء الأول، إن الحلبيين عرفوا البرغل من التتار المنسوبين إلى جنكيزخان، حينما استولوا على حلب، لأن البرغل كان زادهم في أسفارهم.

أطلق الحلبيون على البرغل المطبوخ "مسامير الركب". ويتبنى المؤرخ الأبرز للمدينة خير الدين الأسدي، رواية الغزي، ولا يقدم بديلًا عنها. والبرغل مادة أساسية في الطعام اليومي للأغلبية السكانية، إما بطهوها بالزيت أو السمن مع بعض الإضافات البسيطة من خضار، أو الكبب التي تجاوز عددها الخمسين، انتزعت مع السنوات موقعًا ملازمًا لأسم المدينة "حلب أم المحاشي والكبب" والكبب أنواع منها البسيط الذي يعتمد على البرغل مع التوابل والآخر يحتاج لإضافة اللحوم.

لهذا أنتجت الفئات الفقيرة كبب دون لحوم، الإيج والكبة حيلة والمجدرة، والبرغل بسبانخ والبرغل ببانجان الذي أسماه المسلمون "يهودي مسافر" وأسماه اليهود "مسلم هارب" والبرغل بفول والبرغل ببندورة ووصلت سطوته إلى "دفاتر النسوان" وهو تداولات شفهية لحزمة من المتخيلات والأوهام، "اللي بتساوي كبة نية ثلاثة أيام متتالية، بتطير بركة البرغل".

من تحدثوا عن الطعام لا يأكلون، أو يأكلون ليبقوا على حياتهم، والذين يأكلون الأخضر واليابس يبقون على صمتهم. وكأن بكلام الأولين استعاضة عن الجوع بالكلام عن الطعام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.