}

"سر الزيت": خيال الشعوب المضطهدة في مواجهة كوابيس مضطهديها

عزيز تبسي 19 أبريل 2024
سير "سر الزيت": خيال الشعوب المضطهدة في مواجهة كوابيس مضطهديها
وليد دقة
ما الأسرار التي بقيت في قوانين الطبيعة لتروى؟
بإضفاء معان جديدة على عالم الموجودات، واستنطاق العالم النباتي المرتبط بالأرض والجذور، والعودة إلى تاريخ الشعوب المضطهدة، التي طالما راهن مضطهدوها على إزالتها وتبديد أثرها، وإفناؤه، كتب وليد دقة حكايته "سر الزيت" في سجن الجلبوع الإسرائيلي في صيف 2017، متوجهًا بها للفتيان الفلسطينيين، الذين أعمارهم بعمر جود، بطل الحكاية، كرسالة وعي نقدي وتربوي، ثرية بمضمونها ودلالاتها ورموزها.
تتعقب حكاية "سر الزيت" الفتى جود، ابن المعتقل الفلسطيني كميل أبو حية، الذي أتى إلى الحياة من نطفة والده، التي حررت من السجن، ويرغب برؤية أبيه الذي لم يره من اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وسبعة أيام، أي من يوم ولادته. جود فتى ذكي نبيه حنون، متفوق في دراسته، يعيش مع أمه وعمته في بيتهم في القرية.
تلح عليه حاجة اللقاء بأبيه، التي تحول دون تحقيقها قوانين سلطة سجون الاحتلال، التي منعت زيارات السجناء. يهرع من بيته إلى تلة قريبة ليبكي وحيدًا، يلحظ حركته الأرنب السمور الذي يعيش معهم في حوش البيت، بعدما تسبب بناء الجدار الفاصل بفصله عن أمه سريعة، وأخويه شلهوب وحبوب. وبينما يفكران بجدوى القفز من فوق الجدار العازل، ينضم إليهما الطائر "أبو ريشة"، الذي لم يعق الجدار العازل قدرته على الطيران إلى أي منطقة يريد الوصول إليها في فلسطين. لكن جناحيه عاجزان عن حمل أكثر من جسمه الصغير. ويقترح عليهما استشارة القط "الخنفور"، لكونه الوحيد الذي يتسلل من ثغرات الجدار العازل، ليزور أهله في الطرف الآخر. يمضي هؤلاء إلى شجرة الخرنوب التي يلجأ الى ظلالها القط "الخنفور" للراحة والنوم. ويبلغه أبو ريشة والسمور برغبة جود التسلل من الجدار لزيارة أبيه، الذي لم يره إلا في الصورة. ويبلغهم القط الخنفور أنه يعرف جميع ثغرات الجدار، لكن ضيقها يحول دون مرور جسد مثل جسد جود، فضلًا عن مخاطر أجهزة الإنذار التي تنبه لأي عبور، ودوام مرور دوريات من سيارات الجيش التي تراقب المكان.
اقترح القط الخنفور استشارة الكلب "أبو ناب"، الذي يملك خبرة كبيرة في موضوع الأمن، لعمله في فترة سابقة ضمن مجموعة التنسيق الأمني، وكان قد حطم الأميركان جميع أنيابه وأبقوا في فكه على ناب واحد، بناء على اقتراح من الأمن الإسرائيلي، ليسمحوا له بالانضمام لدورة تأهيل أمني. وبعد أن حدثهم الكلب "أبو ناب" عن حياته الماضية عندما كان كلب صيد عند شيخ عشيرة الجمالين، وعن تعرفه على أبو جود ورفاقه، حيث كان ينقل إليهم بيانات القيادة الموحدة للانتفاضة، وعن هروبه بعدها من خدمة التنسيق الأمني، التي اضطرته إلى الاحتماء بالبراري والجبال البعيدة عن أعين الأمن الإسرائيلي، اقترح عليهم أن الحل الوحيد للعبور الى الطرف الآخر هو بالحفر تحت الجدار.
ذهب الأصدقاء الى الجدار، وحفروا مسربًا، وعبروا منه ركضًا إلى كرم زيتون، واختفوا بين أشجاره قبل وصول دورية الجيش، وسمعوا على حين غرة طلقات من أسلحة الدورية العسكرية، وهرعوا للاختباء داخل كهف، أرشدهم إليه القط "الخنفور". تعرفوا هناك على مجموعة من الهاربين من طلقات نيران الدورية الإسرائيلية، ومن الاعتقال.
الكهف هو مكان آخر للتعرف على حال الشعب الفلسطيني في الشروط التي فرضها الاحتلال. وهو كما تبين بقايا آثار العابرين ملاذ مؤقت للعشرات من العابرين، التقوا فيه بثلاثة عمال شبان خاطروا بعبور الجدار للبحث عن عمل، ورجل أشيب الشعر، وامرأة تجلس منزوية عن الآخرين تعاني في ضيق تنفس، وتتناول الأدوية. وبعد أن يتعارفوا، تبلغ المرأة جود أنه لا يمكنه زيارة أبيه، لأنه لا يملك تصريحًا بالزيارة.




تحدثه عن معاناتها عند زيارة ابنها السجين، التي كثيرًا ما منعت من زيارته، ومن رفض إعطائها تصريحًا بالزيارة، لكنها رغم محبتها لابنها لا تخاطر بزيارته، وإنما تخاطر بالعمل من أجل تعليم ابنتيها في الجامعة... بعد وفاة زوجها بجلطة قلبية، واعتقال ابنها وهدم بيتها. وتنصحه: "روح يا خالتي لأمك، ودير بالك على مدرستك".
أبلغهم الكلب "أبو ناب" أنهم اجتازوا حتى الآن القسم السهل من الطريق، وتبقى أمامهم المهمة الأصعب، وهي اجتياز سور السجن، واقترح عليهم العودة من الثغرة التي حفروها تحت الجدار للبحث عن حلول لعبور سور السجن.
تعاهدوا أن يبقوا أصدقاء حتى يتمكن جود من زيارة والده. وعاد جود إلى بيته ونام من شدة التعب. وفي الصباح، أيقظه الحمار "براط"، الذي علم من الطائر "أبو ريشة" عن رغبة جود بزيارة أبيه السجين، وأنه وجد له حلًا مع شجرة الزيتون "أم رومي".
يذهبان إلى قرية "خلة العجوز" للقاء "أم رومي"، وأم رومي شجرة زيتون عمرها ألف وخمسمئة سنة قررت سلطة الاحتلال الإسرائيلي اقتلاعها وإعادة غرسها في مدخل بلدة العفولة في جزيرة وسط شارع، لتغدو بعد كل هذه السنين من العطاء شجرة زينة، جميع الناس أخذوا منها وأعطوها إلا المستوطنين، فهم لا يريدون ثمارًا وحطبًا، وإنما يريدون اقتلاعها من جذورها.
"سمعت صرختك وأنت تنادي أباك، صرخة مزقت فيّ اللحاء، لا شيء أطهر من صرخة طفل مقهور ينادي أباه، واليوم أمنحك سري لتشفي أهلك والناس من وباء العصر...". وتطلب منه أن يعود في مساء اليوم التالي، ويختبئ في جوفها، قبل ساعات من موعد اقتلاعها.
يعود جود إلى بيته، ويتناول عشاءه، ويفكر بالسر الخفي الكامن في حبيبات الزيتون، مسترجعًا عبارة أم رومي الموجزة: "ظاهر السر إخفاء وباطنه إظهار"، وظل يفكر بما قالته أم رومي، وأهمية إقناعها باصطحاب أصدقائه الذين شاركوه مخاطرته، حتى غط في النوم.
في صباح اليوم التالي، سار الأصدقاء جميعًا إلى قرية "خلة العجوز"، ووصلوها قبل مغيب الشمس، ورأوا الجرافات الصفراء ساكنة، بعدما انتهت من أعمالها في اقتلاع الأشجار، وجرّفت تربتها. قبلت من دون عناء أم رومي مرافقة أصدقائه باستثناء الحمار "براط"، الذي اعتذر لأن عنده مهمات الحراثة، ونقل الماء. اختبأ الجميع داخل جوف جذع "أم رومي"، وعاد "براط" إلى القرية. في حوار ليلي بين أم رومي وجود، أبلغته في نهايته أن وباء العصر هو فقدان الحرية... وأن السجن والجدار العازل والحواجز هي ظاهر الوباء، وأن باطن الوباء هو فقدان العقل والجهل وفقدان الأخلاق، وأن سر الزيت هو الإخفاء الذي يعالج ظاهر وباء العصر، وعليك أن "تبحث عن الزيت في عقلك وعلمك، حتى تكتشف باطن السر، كي تعالج باطن الوباء".
تمكن جود وأصدقاؤه من الوصول إلى قلب السجن، واستدلوا على مكان وجود والده، وتمكنوا من لقائه من شباك خلفي.
شرح لوالده المتشكك بين سماع صوت ابنه وغياب صورته، عن الشروط الخاصة بالزيارة، وسر الزيت الذي منحتهم إياه شجرة الزيتون "أم رومي" الذي يبقيهم لا مرئيين.
وتعهد جود لأبيه باستخدام الزيت للإظهار لتحرير أقدم سجين، وهو المستقبل، لأن المستقبل هو أحق سجين بالتحرير.
اعتمد الكاتب على المغامرة، وما يلازمها من تشويق، واجتياز العقبات المتكررة، ووظفها للحديث عن المعاناة اليومية للشعب الفلسطيني، الذي توزعت حيوات أبنائه، بين توسع بناء المستوطنات فوق أراضيه المصادرة، والشوارع الالتفافية، والجدار العازل، والمعتقلين والعاطلين عن العمل، والمهاجرين، والمرضى، ومنع الزيارات عن أهالي السجناء، وتمديد عقوبات السجن....
الكاتب من مواليد عام 1961، في قرية باقة الغربية، انضم في بداية ثمانينيات القرن العشرين الماضي إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واعتقل عام 1986 مع مجموعة من رفاقه، وحكم عليه بالسجن المؤبد. استشهد في 7 نيسان/ أبريل 2024، بعد إصابته بسلسلة متعاقبة من الأمراض أولها إصابة رئوية انتهت باستئصال رئته اليمنى، وأزمة قلبية، وآخرها سرطان النخاع الشوكي، ورفض سلطة الاحتلال الصهيوني تطبيبه، وإطلاق سراحه.
وليد دقة حي بيننا في كتاباته البحثية والأدبية، وفي ابنته ميلاد، وفي الكفاح التحرري الذي يستلهم سيرته الفكرية والنضالية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.