}

"ع الشام ع الشام": مرثية لشعب يُساق إلى الهلاك

عزيز تبسي 29 مارس 2024
استعادات "ع الشام ع الشام": مرثية لشعب يُساق إلى الهلاك
قدم نبيل المالح سردًا سينمائيًا متأنيًا عكس أوجاع الناس
هو آخر أفلام المخرج الراحل نبيل المالح، أنجزه بالتعاون مع المخرجين الشابين الفوز طنجور، وعمرو السواح، حققه في عام 2005، أي قبل ست سنوات من انطلاقة الانتفاضة الشعبية في 18 آذار/ مارس 2011.
انشغل المخرج الراحل بالقضايا الاجتماعية من أول أفلامه "الفهد"، عن رواية الراحل حيدر حيدر، وثالثهما "بقايا صور" عن رواية الراحل حنا مينة، وحولهما إلى شريطين سينمائيين انتزعا مكانًا طليعيًا في تاريخ السينما السورية والعربية، بصياغة بصرية أحيا فيهما سرديات الملاحم الشعبية وكفاح المضطهدين، وتوقهم إلى التحرر والعدالة.
في حين ينتمي فيلم "ع الشام ع الشام" إلى السينما التسجيلية، وقد حوله إلى وثيقة اجتماعية سياسية ترصد أحوال الشعب السوري من أقاصي بلداته ومدنه، وصولًا إلى ضواحي دمشق، حيث الأحياء التي يعيش ويعمل المهاجرون. وحمل اسمه صيغة النداء المستخدم في كراجات تجمع حافلات النقل، أي المكان الانتقالي بين مدينة الولادة والطفولة والفتوة وذكرياتهم، وبين المدينة التي عقدوا آمالهم وأحلامهم عليها. وهو فيلم عن الهجرة الداخلية من الأرياف السورية إلى العاصمة.
لم تشكل الهجرة خيارًا حرًا تفضيليًا بين خيارات متعددة، بل عبرت عن حتمية أوصلهم إليها إنغلاق الخيارات التنموية، التي فرضتها السلطة الحاكمة، عبر سلسلة من الخطط الخمسية (زمن تنفيذ كل خطة خمس سنوات).
بجولة بين المشاركين والمشاركات في إعطاء الشهادات للمخرج ورفيقيه، يمكن التحقق من أعمارهم التي تتراوح بين 20 و35 سنة، أي أن معظمهم من مواليد الفترة الممتدة بين 1970 و2006، عهد ما يعرف في سورية بالحركة التصحيحية، وهم من الثمار الذابلة لهذه التجربة السياسية ـ التنموية.
يحتاج غير السوريين إلى مرشد سوري لتفكيك الدلالات الاجتماعية والتاريخية التي أشار إليها الأهالي التي جالت عليهم الكاميرا، ورصدت تغير أحوالهم، فضلًا عن باقة اللهجات التي تشير إلى هويات جهوية وقومية ودينية متعددة، حيث سعى المخرج لتحميلها رسالته، عن الهموم المشتركة التي تجمع كادحي سورية، والمصائر الواحدة التي تواجههم.
انطلق الفيلم من دمشق، بحركة معاكسة للهجرة المتجهة بأغلبها إلى العاصمة، في رحلة بحث عن إجابة على سؤال لماذا يترك الناس قراهم وبلداتهم، رغم علمهم بالصعاب التي تنتظرهم، بدءًا من السكن، والعمل، وعموم التفاصيل الشاقة للحياة.




توقف في محطته الأولى في مدينة تدمر، المدينة التي كانت يومًا عاصمة لمملكة حملت اسمها ورسخت اسم ملكتها زنوبيا. ترزح تدمر اليوم تحت ضغط الجفاف وتلوث المياه وهجرة الشباب والزيادة السكانية، ومحدودية موارد السياحة، التي شكلت المدينة الأثرية إحدى أهم وجهات المجموعات السياحية، لتساقط مواردها في فنادق ومطاعم محددة لا علاقة لأبناء البلدة بها. يشير أحد أبناء المدينة في عبارات غير مكتملة إلى ارتفاع حالات الوفاة في البلدة بسبب زيادة الإصابات بالسرطان، من دون أن يشير إلى الأسباب، وبغير أن يتدخل المخرجون للاستفسار عنها. إذ كان يلمح الرجل إلى دفن نفايات نووية على مقربة من البلدة، اتُّهم بها أبناء نائب رئيس الجمهورية، وتسببت بتلوث المياه، وارتفاع الإصابات بالسرطان.

بدأت تتمظهر الأزمات بين عامي 2001 و2004 في صدامات بين بدو محافظة السويداء وحضرها، وبين إسماعيليين وعلويين في بلدتي القدموس ومصياف، وبين عرب وأكراد في مدينة القامشلي في مارس/ آذار 2004، حملت بعمومها خلفيات تاريخية واجتماعية، وبسبب مباشر في القامشلي، هو مشاجرة بين جماهير فريقين رياضيين، بعد مباراة كرة قدم.
حفزت بعمومها اللاشعور الجمعي على استعادة صراعات مذهبية وقومية مكبوتة، عززها في الحالة الأخيرة، الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل/ نيسان 2003، وانحياز كل جماعة إلى طرف من طرفي هذا الصراع ورهانها عليه.
يشير سياق الفيلم وشهوده إلى حالة العجز، فالناس متروكون لمصائرهم، وسياسة الدولة في الحقل الاقتصادي تتجه إلى التخفف من الحمولات الاجتماعية، التي رفعتها ببرامجها التنموية وشعاراتها السياسة عن التقدم والاشتراكية وسواها، التي وصلت بمجموعها إلى طريق مغلق ومنحدر في آن، استكمل الإجهاز على ما تبقى منها خطط ليبرالية انتقائية اتجهت نحو الميل الى احتكار الفعاليات الاقتصادية، وإعطاء الأولويات للاستثمارات الخدمية والسياحية، والاعتماد على السلع المستوردة.
رصد الفيلم هذه الحالة بحيادية من يبحث عن الحقيقة أولًا، والمخرج من هذا الانغلاق التنموي والكوارث الاجتماعية المترتبة عليه ثانيًا.
وهذا كله قبل أن يطل ذاك اليوم من أوائل أبريل/ نيسان 2008، حيث سيصدر قرار حكومي برفع سعر المازوت ثلاثة أضعاف دفعة واحدة، من 7 إلى 25 ليرة سورية لليتر الواحد، وهو ما أثر بشكل مباشر على تكاليف عمل مضخات المياه، والآلات الزراعية وشاحنات نقل المحاصيل، وتزامن مع موجة جفاف امتدت لثلاث سنوات، ما تسبّب بأضرار بالغة في الزراعة والثروة الحيوانية، وهجرة عشرات آلاف العائلات العاملة في الزراعة وتربية الماشية من المنطقة الشرقية (دير الزور ـ الحسكة ـ القامشلي) إلى محيط مدينة دمشق، والتوطن في مخيمات بدائية. وكان قد أشار أحد شهود الفيلم إلى قريته التي كانت مكونة من ألف بيت، بينما الذين يعيشون فيها اليوم يشغلون فقط اثني عشر بيتًا.
تمهل الفيلم من محطته الأولى في تدمر مرورًا بدير الزور والقامشلي واللاذقية وصولًا إلى دمشق، أمام ارتفاع معدل الزيادة السكانية، مترافقًا مع انكماش الفعالية الاقتصادية العاجزة عن استيعابها، التي يمكن ترجمتها إلى عرض ديموغرافي كبير، وطلب تشغيل محدود أولى نتائجه ارتفاع معدلات البطالة، وما يلازمها من تهميش اقتصادي واجتماعي.
وفي سعي المهاجرين غير المتعلمين للعمل في العاصمة، لا يجدون أمامهم إلا الأعمال الشاقة والمذلة، من مسح الأحذية في الشوارع، إلى العتالة في الأسواق، وباعة خضار جائلين. ويعودون في آخر اليوم للسكن في خيم وغرف في بيوت جماعية، وسيشير الفيلم إلى أنها مهددة بالهدم لمخالفتها قوانين الملكية العقارية، وقد هُدم بعضها فعلًا.
يصطدم مسعى المهاجر المتعلم، أو الحاصل على شهادة جامعية، أو معهد متوسط، بجدار المحسوبيات والرشاوى. عبرت إحدى الزوجات الشابات عن سعيها وزوجها للحصول على وظيفة حكومية، وهو ما سيرد بصيغ تأكيدية من معظم من مروا على هذا الخيار، أن الوظيفة الحكومية تحتاج إلى رشوة، وأنهما موافقان عليها، وحددتها بـ: 150 ألف ليرة لعمل كل منهما، إلا أن الجهة الحكومية رفضت المبلغ وطلبت زيادته. ويعلم المرتشي أن هذين الزوجين الشابين سيحتاجان للعمل سنة ونصف السنة، وفق الأجور الممنوحة للوظائف الحكومية، لاستعادة قيمة الرشوة.
وفي سؤال بدا أنه أتى من خارج توثيق الهجرة الداخلية وأسبابها، أو كأنه اطمئنان من المخرج ورفيقه على مصائر أعمالهما، يتساءلان عن مصير فيلمهما المرتبط بمصير صالات السينما، لتأتيهما الإجابة: لم يبق أي صالة سينما.
قدم الفيلم سردًا سينمائيًا متأنيًا عكس أوجاع الناس وعجزهم، وانغلاق أفق الحياة الكريمة أمامهم، لدرجة أنهم بوغتوا بالسؤال الذي تكرر عليهم: "بماذا تحلمون؟"، وكأنهم تفطنوا أنهم يعيشون بلا أحلام.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.