}

في عصر الإذلال

عزيز تبسي 19 مارس 2024

 

كما تستدعي الأشياء أندادها، يستدعي الإذلال نقيضه، فتتعالى أصوات المبادرات التي تستنهض الكرامة الإنسانية من غفوتها وسكونها.

في ذاك اليوم من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2010، قام بائع الخضار ذو الستة والعشرين عامًا محمد البوعزيزي بسكب البنزين على جسده وإشعال النار بالشيء الوحيد الذي امتلكه من هذا العالم. لم يعد يحتمل مصادرة شرطة البلدية لأكثر من مرة لعربته والخضروات التي تحملها، كما لم تقبل كرامته الصفعة التي تلقاها من الشرطية التي صادف أنها نفذت العقوبة الأخيرة.

حفرت الثقافة السلطوية أخاديدها في أعماق وعي المقهورين، عبر تراكمية وخبرات زمان استبدادي لا يرحل إلا بتسليم سوطه وعصاه إلى سلطة استبدادية أشد، لم تعد تدفع الناس كما كان يفعل أجدادهم بالترحم على النباش الأول، بل للعن النباشين معًا... أحرق الكثيرون أجسادهم بعد محمد البوعزيزي... متابعين اللهيب الأول التي آذن بانطلاقة الانتفاضات الشعبية العربية عابرة مهدها التونسي إلى أرض مصر، حيث لما تزل ذكرى الإعتداء الوحشي على الشاب خالد سعيد حية، عجزت عن محوها جحافل كراكوزات الإعلام ومهرجوه، وترشق نارها أرض ليبيا وسورية واليمن...

ولنذكّر، علّ الذكرى تنفع المؤمنين بالشعوب وإراداتها كما بتعثراتها وإخفاقاتها وانحرافاتها عن أهدافها، أن الاحتجاج على الإذلال ومحاولة استرداد الكرامة الإنسانية المهدورة، في الفعل البطولي لمحمد البوعزيزي لتحرير اللحظة التاريخية من فعلها الفردي، أتى في سياق تراكمي لمئات الإضرابات العمالية في تونس ومصر ولعشرات الخطوات الاحتجاجية في سورية واليمن. التحرر من اللعنة التي وسمت تاريخ الشعوب المقهورة، التي رسخها في الوعي الجمعي المهان الذي عاش دهورًا على صيغة "أكل قتل وعد خراج".

حازت الكرامة الإنسانية منذ القرن الثامن عشر على مكانة سياسية، بانتقاد دعاتها للعقوبات غير الضرورية والمطالبة بإلغائها من النظام القانوني، من خلال المواجهات مع مؤسسات السلطة.

لكنها لا تلبث أن تتحول إلى موضوع للسخرية والنقد في القرن العشرين من الفيلسوف والمؤرخ ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، حين وصفها بـ"خطاب موجه للقلوب"، حيث وقعت عموم الكتابات عن الإنسانية والعقوبات، تحت تأثير صيغ أيديولوجية غايتها شرعنة وتجميل الأجهزة القمعية وإخفاء رقابتها المحكمة والمتزايدة والشاملة على المجتمع.

وأدارت ظهرها لفعل الإذلال الممنهج، الذي حاز على مكانة الفعل الطقسي.

تحوّل الإذلال إلى منهج عمل. ولا يعرف للإذلال تاريخ سوى ذاك الذي يربطه بتاريخ التمايزات بين الناس، وتحويلها إلى امتيازات اجتماعية، السادة والعبيد الأقنان ومالكو الأراضي... الريف والمدينة، والتمايزات الجنسية بين الذكور والإناث... ويعبر أهل الامتيازات عن حقوقهم بصيغ قانونية وأنماط عقابية وطقوس إخضاع، يلازمها الإخضاع الرمزي عبر إشارات دالة، كانحناءة الجسد أمام الشخصيات الأعلى مرتبة، أو الركوع والسجود وتقبيل الأيدي.

لازمتها العقوبات على المخالفين بالتجريس، وضع المخالف على حمار بالمقلوب وتسييره في الشوارع والساحات العامة، أو تعليق ورقة على صدره كتبت عليها مخالفته، أو ربطه إلى عمود في ساحة عامة، ودفع الناس على رجمه أو البصاق عليه أو رميه بالخضار الفاسدة... وصولًا إلى العقوبات التي لا عقوبات بعدها، كقطع الرأس أو الشنق أو الخوزقة.... كأنماط عقابية تتوخى الردع بتوجهها للأحياء، وتنبيههم إلى المآلات التي تنتظرهم حين مخالفتهم القوانين.

استدعى الإذلال العلني لقرون عديدة المشاركة الشعبية، كتعبير عن وحدة النظرة الأخلاقية التي تجمع السلطة القضائية وعموم السكان، في مسار سيؤدي إلى إبعاد السكان أو الشعب عن المشاركة في تنفيذ العقوبة، بتأكيد على حصرية تنفيذ العقوبات بالسلطة، وأجهزة دولتها الشرطة والحرس والجلادون... والإيعاز لجهازها الأيديولوجي بالتوعد بحزمة من العقوبات المؤجلة، التي تأخذ صيغ التوّعد، لما بعد الموت، التي تبدأ بعذابات القبر وتنتهي بعقوبات ما بعد القبر التي تنتظر الميت في جهنم. وانتقل في العقود الأخيرة إلى أبعاد العقوبات عن عيون الناس ومشاركتهم، وحجبها خلف أسوار السجون والمعتقلات، وحصر تنفيذها في أجهزة الدولة القمعية، وبهذا تتوفر الشروط المناسبة للإنكار، وتجاوز القوانين التي تحمي الناس من الاعتقال التعسفي واستخدام القوة والعنف في انتزاع الاعترافات، وتؤول في النهاية إلى إنكار وقوع الضحايا، من الذين واللاتي يفقدون حياتهم تحت التعذيب، والشروط الأخرى للاعتقال.

يتكرس في زمننا عالمان يتزايد التمايز بين أولويات اهتماماتهما بين التوبيخ العلني وامتداداته إلى وسائل التواصل العمومي أو العقوبات المالية، التي تشكل بعمومها شكلًا من رفاهية النقد، الذي ينوس بين العبارات المثقلة بحذاقة اللغة الحقوقية المتينة والتوثيق التاريخي بتعقب الوقائع الدالة على الموضوع والإحاطة التفاعلية معه من الصحافة والإعلام والجمهور والسلطة، كما يبرز ذلك في كتاب "سياسة الإذلال- مجالات القوة والعجز" للباحثة الألمانية أوتا فريفرت. وبين عالم آخر يعيش أبناؤه تحت الإذلال اليومي، الذي ينتزع منهم أساسيات الحياة. كأنما تتزايد الهوة بين العالمين. عالم الأسئلة البطرانة الآتية من الأبحاث الجامعية والدوائر الأيديولوجية، المهمومة برصد الفروقات الدقيقة بين الإهانة والخزي والإذلال والاحتقار، ومعالجة الأطر التي تفرض تحطيم الإحساس بالذات، والميل المركزي لتقييد الأسئلة بالإطار الثقافي، بتغييب الشرط التاريخي الذي نشأت فيه، والإخفاقات التطبيقية التي هوت فيها المفاهيم الفلسفية إلى درك التستر وإيجاد تبريرات للممارسات القمعية للسلطة.

فمن الضرورة ربط المطالبة بحماية الكرامة الإنسانية، بالبورجوازية الصاعدة بقوة ثورية أو إصلاحية، وأيديولوجيتها الليبرالية، كما أهمية ربطها بالصراعات الداخلية في كل بلد، الذي أفضى في العديد من التجارب إلى حروب أهلية، انهارت فيها الإنسانية إلى الحضيض، فضلًا عن حروب البر الأوروبي، التي افتتحتها الحروب النابوليونية ولم يختمها الإجتياج النازي... غير حروب التوسع الإمبريالي خارج البر الأوروبي... هذه بعمومها حقول اختبارية، لمكانة الكرامة الإنسانية في سردية الليبرالية، يوم أبيدت شعوب أمريكا وكندا وأستراليا... إلخ.

تعلمت الشعوب الأوروبية قيمة الكرامة والحرية الشخصية، وتمكنت من فرضها ومقاومة المعترضين عليها، وتجاوزت النتائج الكارثية لحربين عالميتين شملتا القارة برمتها وانتقلتا إلى القارتين الأفريقية والآسيوية.

وتبقى أسئلة شعوب الضفة الأخرى من العالم، عن أثر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والصهيوني في فلسطين. الاستعمار عند الشعوب المضطهدة، هو أوضح اختبار لمكانة الكرامة الإنسانية في أيديولوجيا الإمبريالية، أي في شيخوخة الأيديولوجيا الليبرالية.

متحرجون وهم يعاينون منزلة الكرامة الإنسانية في أنظمة ما بعد الاستعمار. كأنما يبحثون عن بدل ضائع، فلا يجدون من الكرامة سوء أسماء شوارع ومدارس وأندية رياضية، وقد تحول إذلالهم إلى فعل يومي، لا ينهيه إلا الموت أو الهجرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.