}

موزاييك لوْحةِ الخلود: "هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها"

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 مايو 2024
إناسة موزاييك لوْحةِ الخلود: "هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها"
لوحة "غيرنيكا" للإسباني بابلو بيكاسو
في كتابه "نظامان من المجانين/ Deux régimes de fous"، يربط الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 ــ 1995)، بشكلٍ أساسيٍّ تأسيسيّ، بين العمل الفنيّ وفعْلِ المقاومة. ثم ما تلبث صفحات الكتاب أن تجيبنا عن سؤال مفترض حول نوع المقاومة التي يقصدها صاحب كتاب "الرأسمالية والانفصام" بأجزائه؛ إنها مقاومة الموت. ولكن كيف؟
الإبحار في كيفية مقاومة الفن للموت يكاد يكون مستحيلًا إن لم نلتقط كلمة السر الكفيلة بِأنْ تجعل هذا الإبحار ممكنًا. أما كلمة السر التي يمكنها حتى أن تتجاوز بيتَ شِعرٍ جداريٍّ يجاور الخلود: "هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها"، فهي: توسيع أفق الفن، وصولًا إلى التعامل مع الفِداء بوصفه فنًّا، وكذا كلّ متعلّقاته؛ من ابتكار تجليّات تَجَدُّد، وفنون قتال، وشجاعة مواجهةٍ مع الموت الذي يترّبص بالفداء والفدائيّ عند كلِّ زاوية وجادّةٍ وحارةٍ وشارع. نعم، المقاومة فنٌّ تمامًا، كما أن الفن مقاومة، أي بمعنى أننا إنْ قبلنا بإيضاح مقولة الفن هو مقاومة الموت التي أرادنا دولوز أن نتفهمها ونبحر في واحد من كتبه عبرها، فإن المقاومة هي أيضًا مقاومةٌ للموت على اعتبار أن المقاوم لم ينهض للقيام بفعل المقاومة إلا لأن موتًا كثيرًا أحاطه من كل حدب وصوب؛ موت الفرح، موت الأمن والأمان، موت الحق والحقيقة، موت كل صور الذاكرة والذكريات التي حاول ذووه رسمها له عن وطنٍ كان وداليةِ الظلال وعتباتِ البيوت. ولأن المقاومة باتت خياره، وقد أرادها طريقَه لموتٍ يُفضي إلى خلود، بغض النظر عن فحوى الخلود الذي يفكّر به المقاوم ويدرّب وجدانه عليه؛ أهو خلود في الحياة الدنيا، أم الحياة الآخِرة، فإن النتيجة واحدة، وهي أن المقاومة أصبحت صورة أيامه، ورشاد دروبه، فما الضير إذًا لو حلّ هذا التجدد اليوميّ القدريّ محل فنٍّ لا يشبه الفنون التي تعارف عليها الناس؛ فن يشد انتباه المتلقي لابتكارات يسعى الفدائيّ/ المقاوم أن لا يعتريها الملل، ولا يشوبها التكرار، ولا يوغل في مجسّاتها الجمود. فمرّة تتجلى ابتكارات فنون مقاومته على شكل لوحة يكون هو نفسه مادتها، كأن يطلع علينا مقاوم بمعطف طويل يتهادى به فوق أرض أجداده بسطوعٍ ودهشةٍ أجمل ألف مرّة من "صاحب الظل الطويل" الذي وصل إلينا عبر أدب مترجم وصفحات فقدت صلاحية تأثيرها وأثرها عندما اكتشفنا أن الغرب يكذب في كل شيء قاله لنا، وحاول دحْشه في حلوقنا، أو أن يحوّل مقاومٌ آخر لحظة مقاومته إلى دراما تحبس الأنفاس وهو يتقدّم حافيَ القدمين نحو دبّابة مهولة البشاعة والتحصّن والحديد، إلى أن يصلها ويلتحم مع لحظته وهدفه زارعًا عبوّة "العمل الفدائي" فوق جسد الدبّابة المستكينة للفعليْن: فعل البطولة المنسوجة من لحظات هذا المشهد الدراميّ، وفعل الفن الطالع من دقّات قلب المشهد والناظرين إليه. مقاوم ثالث تأخذنا لحظته المقاوِمة إلى عالم الموسيقى، فإذا بترصّده، ودوزان شهيقه وزفيره، ولجّة الأصوات حوله، بما في ذلك صوت الزنّانة التي لا تفارق سماء أرضه 24 ساعة في الـ 24 ساعة، يتناغمون كأنهم جميعهم مقطوعةٌ هادرةُ الإيقاع روحانيةُ النَّغم.




الفن الذي يقترحه المقاوم يكره الطبيعة الصامتة. فن عميقُ الدّلالة كونيّ الوجهات، إيمانيّ التجليّات. إنه التعبير الأسمى عن أنّات أطفال ديرته، وآلام جيرانه، ودموع معمورتهِ بعد أن حوّلها العدوّ الغاشم إلى خرائبَ أين منها سورياليّة الفنون الكابوسيّة وجهابِذة النّزعة التشاؤميّة.
أليست رقصةً طالعةً من الموت ضد الموت تلك التي رقصها مقاوم بعد أن أجهز على الدبّابة صارخًا "ولّعت"؟ فإن لم تكن تلك الرقصة الصادحة الحقيقية المصهورة تمامًا مع الفن الواقعيِّ والغرائبيّ والتجريديّ والرومانسيّ وما بعد الحداثويّ وأنواع الفنون جميعها، إنْ لم تكن فنًّا فما هو الفن؟ وما هي تقاطعاته مع المقاوَمة التي يهْجس بها دولوز؟



تناسُل...

يذهب بعض علماء الإناسة إلى فكرة مفادها أن الحياة تتناسل من الموت، وأن لحظة الموت تستدعي من فورِها تعلّقًا نهائيًا بالحياة، مستشهدين على فرضياتهم تلك بأن من يموتون فجأة بحوادث وما إلى ذلك، تُفرز أعضاؤهم التناسلية مقدمات ماء الحياة. على كل حال، وحتى لو انتابنا شكٌّ حول دقّة هذا الكلام، فإننا متفقون جميعنا، يُفترض، أن فكرة الشهادة، وأدبيات الشهيد ترتبط بشكلٍ، أو بآخر، بفكرة الخلود. فإما أن يكون الخلود المتعلّق بالحياة الأُخرى، في حالة الشهداء الذين اختاروا درب الشهادة عن عقيدة دينية إيمانية، أو خلود القيمة والمعنى عندما نتحدّث عن شهداء فدوا غيرَهم وأوطانَهم وقضاياهم الكبرى (الشهداء الفيتناميون على سبيل المثال). فحتى لو كانوا غير مرتبطين بواحدة من الديانات السماوية، فإن فعلهم الفدائيّ وبسالتهم المقاوِمة تحمل في طياتِها ارتقاءً ساميًا فوق المفاهيم العقيمةِ للفَناء المجّانيّ الخالي من الفن، والمعنى، وأبهى قيم الجمال، وأنقى منظومات الأخلاق.




وفق هذه الرؤية الفنيّة الخلّاقة للفعل المقاوِم، الطالعة من جدليّات الموت والحياة، الإقْبال والإدْبار، الشكّ واليَقين، الإِباء والخُنوع، الإقْدام والإحْجام. الرؤية المنصهرةُ كليًّا بالفعلِ على الأرض، وتطابقِ القول مع العمل، يصبح من السهل على مجسّات التلقي تمييز الغثّ من السمين، وتبيُّنِ مَن ترتقي مقاومته بوصفها معانقةً شاهقةً للموت الذي يريد أن يمهّد لمن يليه سُبُلَ الحياة، ومَن ينحدر عدوانه إلى أوْضعِ أشكال كراهية الحياة؛ تلك الكراهية العمياء التي تقود المُبتلى بها نحو جرائم الإبادة الجماعية وباقي القائمة جميعها حول جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم التطهير العِرقيّ وهلمّ جرًّا.
التناسُل المؤمّل جراء تبنّي المقاومون فعل الفداء الذي قد يفضي إلى موت، لا يشبه قول المتنبّي: "كأنك بالفقرِ تبغي الغِنى... وبالموتِ في الحرب تبغي الخلودا"، على الأقل لا يشبهه إلى أن نلتقط المعنى المستور في بطنِ أبي الطيّب، وبما أننا في مشغلةٍ عن مدائح شاعر سيف الدولة، فسوف نشحذ تركيزنا نحو فكرة أن الفداء لا يفضي إلى موت، بل الموت الذي يرافق الفداء يفضي إلى حياة. أمّا حول سؤال عن أي حياة يبحث الفدائيّ؟ فالأمر سيّان؛ سواء كان يبحث عن الحياة الآخرة/ حياة ما بعد الموت، أو كان يبحث عن حياة أكثر وجاهة وكرامة لِمن بعده بعد تضحياته الجِسام، لأن هذه الوجهة، أيضًا، تحمل، بدورها، عنوان: حياة ما بعد الموت.
وفي اللحظة التي يرتقي فيها الفدائيّ المقاوم شهيدًا، تتدّفق، من فورها، داخل خلايا وجوده الأثيرية، وداخل وجدانيّات معناه في وعي الناس والضّرورة، سوائل الحياة التي تحجّرت في مقالِعها حوله في السهل والتل والوديان ومجاري المياه. تحجّرت وجفّت ينابيعها بفعل الاحتلال والخنق، وصارت إلى الموت أقرب، ولا بد، بالتالي، من موتٍ لمنع الموت، على منوال نفي النّفي وسلبِ السّالب لانتزاعِ الموجِب.

مخيال...

وفق ما تقدّم، تصبح فنون المقاومة جزءًا لا يتجزّأ من المخيال الشعبي لأي شعبٍ، أو أمّة، أو قوم. ويصير الشهيد حيًّا دائمًا. وتُؤَنسَن الغيبيّات بقوّة الإيمان الذي يزرعه المقاوم وتسْقيه حاضنته الشعبية. وفي المخيال يغيب التصريح لِصالح التلميح، وتسود لغة سريّة يتداوَلها الناس من دون أن يسألوا من أين وإلى أين ومَن. وفيه تنبت الترويدة كي تصل الرسائل للمجاهدين (كما حدث إبّان الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في عام 1936 بعد استشهاد القسام في عام 1935) بعيدًا عن معارف المحتل المعتدي، وعن مفاهيمه الماديّة غير القادرة على فهم سر الفداء وماهيّة الفدائيّ (الفداوي بلغة الناس). وحين تغنّي الصبايا "يا طالعين عالجبل"، أو "شمالي"، بلغة الترويدة المشبّعة بحروف مخيالهنّ، المتقاطعة مع بطولات رجالهِن، فإذا بالمقاومة تصير فنًّا، وإذا بالفن يصير مخيالًا شعبيًّا متوارثًا مثل إبريق الزيت الرابض في قاع البيت، مثل حكايات جبينة، والشاطر حسن، ونُص نصيص، وكان يا ما كان، و"زينة الدار ست الكل"، ومئات الحكايا، ترويها الجدات للأحفاد تحت الزيتونة، أو الليمونة، أو أمام بحر فلسطين.

فنون المقاومة...

أعياد الناس الواقعين تحت الاحتلال مقاومة... زيارة أضرحة أوليائهم وأنبيائهم مقاومة... صدمة القفلة عندما يجري تناقل خبر عبْر الفضائيات ومواقع التواصل عن قائد لواء رفح، على سبيل المثال، الذي انتدب ابنه ولا أحد غيره ليدخل بيتًا احتمى فيه 30 جنديًا ويفجّر نفسه فيه، ألا يجري هذا الخبر مجرى قفلة الصدمة في أفلام بعينها؟ أليس هذا هو الفن الحيّ من دم ولحمٍ وفِداء ومعجزاتٍ استثنائية؟ أليست البطولة أن تزحف الطبيبة تحت وابل الرصاص لتنقذ مصابًا؟ أليس المشهد كلّه على امتداد قطاع كامل مجبولًا بفنٍّ حارقٍ ساطعٍ بألوانِ واقعٍ لاهبٍ عاصفٍ لن تبلغ "غيرنيكا" بيكاسو مهما بلغت بعض تجلياته؟ ألم يبدأ الناس بإضافة (غراد) لاسم جباليا ليصبح اسمها (جبالياغراد)؟
هذا كلّه وآلاف قصص الناس في زمن المقاومة، شكّل موزاييكًا أخاذًا ينسج لوحة خلود من قماشة لم يعتدها الناس... وفي كل مرّة يطلّ المقاوم من قلب القصة متقمّصًا نوعًا من أنواع الفنون التي تهزم كل موت... وتحتال على الخراب والأكوام والآلام حولها بمسرّات الفردوس المنتظر... فردوس العالم الآخر، حيث لا ظلم ولا قتل ولا احتلال ولا اختلال... راقصًا رقصة أصحاب الدار وأهل العريس والعروس... ومرورًا بأنواع الفنون جميعها، يؤسْطر الفدائيّ المقاوم كل تفصيلة من تفاصيل صموده المستحيل... وفي الفنون التي يقترحها البطل الذاهب إلى خيار المقاومة، لا يعود الموت هو ذلك القلق الذي لا مفر مِنه، المُتمركز في جوانب حياتنا كلها، بل على عكس ذلك تمامًا، يواجهُ الفدائيُّ الموتَ من دون أن ينظر إلى ساعته، فالوقت ملكه، وقراره كذلك، وتراويد جدّاته النائمات في الحكايا... وعزيمة الصبر الذي تختصر كل زمنه إلى ساعة غير بيولوجية... يتقن الفدائيّ الأدوار جميعها فمخرجه هو وجدانه، وسلاحه الشخصيّ هو إكسسواره الوحيد، وأزياؤه مما تجود به أنفاق وصولهِ إلى الضّوء، ومواقع تصويره فوق أرضه وتحتها، وموسيقى العرض المتواصل هي أزيز رشاشهِ وصولةُ مدفعِه... ولا عزاء لمن فاتته تذكرة العبور إلى الأبد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.