يكتب: "وحين نقرؤه في زمانه هو لا في زماننا نحن، سنعلم مقدار "تخيل" كثير من أتباعه له، فضلًا عن خصومه، وكيف يختزلونه حين ينزعون فتاواه وتصريحاته من سياقاتها التاريخية، ويريدون إنزالها كما هي في سياقاتنا نحن، فكأنهم يأخذون القول مبتورًا، مشوهًا، غير ناضج ولا مكتمل، لأن السياق التاريخي أشبه بالشرح للمتن التاريخي، فلا يمكن تفسير النص تفسيرًا كاملًا صحيحًا إلا بفهم زمانه وتاريخه. فما معنى أن تؤخذ فتوى ابن تيمية في النصيرية اليوم، وتسقط على الواقع اليوم من دون أيما نظر إلى السياق؟ فهل نصيرية اليوم هي نصيرية الأمس؟ وهل سياق اليوم هو سياق الأمس؟.." (ص11).
ويؤكد السمهوري أن استعادة ابن تيمية اليوم تختزل تراث الرجل في مسألة العنف والتكفير، فهناك من يعود إليه ليوظفه في صراعات الحاضر وتكفير الخصوم، ومنهم من يقرأه باعتباره النص المؤسس والملهم للحركات الإسلامية المتطرفة، ولدى الطرفين، نقف على قراءة اختزالية لتراث الرجل، تحرمنا من قراءة تراثه قراءة موضوعية، فلا يمكننا امتلاك ذلك التراث إلا من خلال "التاريخ"، وليس من خلال "الأيديولوجيا"، ومن وراء هذه القراءة الموضوعية التي يقدمها السمهوري يمكننا أن نفهم أكثر أزمات الحاضر، فلا نسقط في الثقافوية، وحتى نقرأ أمراض الفكر باعتبارها امتدادًا لأمراض المجتمع الحديث، والتي يقف خلفها بالخصوص فشل مشروع التحديث وتحول دول الاستقلال إلى دول للاستعمار الداخلي.
لا ريب في أن الوعي التاريخي بالتراث لن يبحث عند ابن تيمية عن فلسفة لتدبير الاختلاف داخل المجتمعات المعاصرة، بل ولا يجب أن نبحث في تراثنا إلا عما يؤكد أولوية "التقسيم الاجتماعي" على منطق "الواحد"، إذا أردنا استعمال لغة كلود لوفور، أو يتوجب علينا أن نقرأ ذلك التراث قراءة ديمقراطية، أو قراءة منحازة للديمقراطية، كما يدعو إلى ذلك جاك دريدا في خطابه المتضامن مع المسلمين بعيد عمليات الحادي عشر من سبتمبر. إن من يختزل التراث في هوية يغفل أن الأمر يتعلق بتراثات مختلفة ومتعددة، ومن يبحث عن الهوية في التراث لا يدرك تاريخية الهوية، وانفتاحها على المستقبل قدر انفتاحها على الماضي. غير أن البحث عن ابن تيمية التاريخي، كما يفعل رائد السمهوري، من شأنه أن يساهم في بناء معرفة أكثر علمية بالتراث، ومن خلال ذلك، يقدم لنا السلاح المعرفي لمواجهة الشطط الأيديولوجي للإسلامويين والحداثويين معًا، وأعني تلك التوظيفات المغرضة التي يتعرض لها تراث ابن تيمية اليوم، والتي، كما أوضح الباحث، تظل توظيفات انتقائية، تغفل المتن المركب للرجل، والذي لا يمكن الإحاطة به من خارج السياق التاريخي الذي ولد فيه. يكتب السمهوري: "ربما نكون في حاجة إلى بحث يحرر ابن تيمية من عصرنا، او ربما يحرر عصرنا منه، ويضعه في عصره وسياقه، من أجل مقاربة أدق لفهمه، ثم تجاوز ما ينبغي تجاوزه مما لا يصلح في زماننا من آرائه، فلكل زمان مشكلاته الخاصة به" (ص 17)، ولا ريب في أن السمهوري نجح إلى حد كبير في تحقيق ذلك، وعلى الأقل في ما يتعلق بتحريره من عصرنا، أما تحرير عصرنا منه، فذلك يتطلب مشروعًا حضاريًا متكاملًا، وإليه تنتمي لا ريب القراءة التاريخية ــ النقدية للتراث.
أوضح الباحث في آخر الكتاب أن "ابن تيمية أشد تعقيدًا، أو كما يقال اليوم: أكثر تركيبًا، من التبسيط الذي تقدمه الكثرة الكاثرة من الدراسات الشرعية والاعتقادية، ولا سيما السلفية. ذاك أن تلك الدراسات في الغالب إنما تهتم بالنصوص وفهمها، طاوية الكشح، ومغمضة العينين، عن السياق الاجتماعي والسياسي، بل حتى النفسي لتقي الدين بن تيمية" (ص451). ويقف الباحث على أشكال استعادة ابن تيمية اليوم، ويرى أن منها من يستعمله كتبرير لإقامة جماعة مقاتلة، أو تكفير الآخر المختلف دينيًا أو مذهبيًا، وفي هذا السياق يعرج السمهوري على الصراع بين التتار والمماليك، ليوضح بأن الأمر يتعلق بصراع سياسي، وليس دينيًا، وأن ما كتبه ابن تيمية بشأن هذا الصراع مرتبط بسياقه التاريخي، ولا يمكن إطلاقه ليشمل كل السياقات، أو استعماله لتكفير أو تبرير قتال المذاهب الأخرى.
ويذكر الباحث في السياق نفسه تلك القراءة التي تستحضر ابن تيمية لتحريم الديمقراطية والنظام الحزبي، وكل أشكال المعارضة، حتى السلمية منها، وإلى هذه القراءات تنضاف قراءة ثالثة، هي ما يمكن أن نطلق عليه القراءة الثقافوية، والتي أنتجها الاستشراق الغربي ومؤسساته، ما ظهر منها وما بطن، وهي تلك القراءة التي تسكت عن عنف الحداثة الغربية ورأسماليتها الاحتكارية تجاه دول الأطراف، وتحمل التراث الإسلامي، وعلى رأسه ابن تيمية، كل الأزمات والصراعات التي تضرب المجتمعات العربية اليوم.
إن القراءة التي يقدمها رائد السمهوري لتراث شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية تسحب البساط من تحت أقدام التراثويين، الذين يقرأون التراث بأعين محضة، أو من خارج سياقه التاريخي، ولكنها تساعدنا في تفكيك الخطاب الثقافوي الغربي وامتداداته العربية، والذي يؤبد الجهل بالحاضر والماضي، ويقدم تحليلًا سحريًا ومغرضًا لأزمات مجتمعاتنا المعاصرة.