}

التربية الكوسموبوليتية عند كانط: الأسس والراهنية

رشيد بوطيب رشيد بوطيب 1 سبتمبر 2024
استعادات التربية الكوسموبوليتية عند كانط: الأسس والراهنية
كانط (Getty)
ما الذي يدفع اليوم المشتغل بالفلسفة والعلوم الإنسانية في العالم العربي إلى الاهتمام بفيلسوف ألماني من القرن الثامن عشر؟ ما الذي يدعونا إلى قراءة الأسئلة المُلحّة لمجتمعاتنا العربية انطلاقا ومن خلال الفلسفة العملية الكانطية؟ أو باختصار: ما الذي يجعل كانط راهنيًا اليوم، وذلك ليس فقط في سياق أوروبي تنتشر فيه الشعبوية والعنصرية ويتهدد مصيره اليمين المتطرف، ولكن أيضا بالنسبة لسياق عربي حكمته وتحكمه أيديولوجيات معادية للحداثة والكوسموبوليتية وقيم التنوير؟  
تؤكد العلوم الاجتماعية العربية، بمختلف مناهجها وتخصصاتها، أن المجتمعات العربية المعاصرة تعاني من أزمة تربوية كبرى، تجد تعبيرات مختلفة عنها، وفي كل المجالات، ويعبر عنها المؤرخ والمفكر عبد الله العروي بمفهوم التأخر الثقافي. وهو، كما يكتب، تأخّرٌ، عن الالتحاق "بالعصر الليبرالي كما تطوّر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وازدهر في القرن التاسع عشر"، مُعتبرًا أن الثقافة العربية تتعارض نقطة بنقطة تقريبًا مع الثقافة الليبرالية. يلخّص العروي المشكلة العربية في ما يسميه "الازدواجية" التي تمثل في رأيه "واقعًا" و"سياسة". حتى أنه يتحدث عن "سياسة تربوية" تتمثل في "تعميق الازدواجية" باستمرار لأهداف سياسية. إنها تهدف إلى الحفاظ على النظام السياسي ونخبته في مكانه.
توضح الأنثروبولوجيا السياسية لعبد الله حمودي، كيف أن خطاطة الشيخ والمريد، كشكل صوفي للتربية والتلقين، ستمتد إلى ما وراء البنى الصوفية، وتظل أسلوب عمل علاقات السلطة والمؤسسات السياسية في السياق العربي، كما في المغرب أو مصر. السؤال الرئيسي في عمله الأنثروبولوجي هو التالي: "كيف يمكننا تفسير انتشار النظم السياسية الاستبدادية في مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج؟".  لقد فشلت الأعمال المختلفة لعلماء السياسة الذين حاولوا تفسير استمرار الاستبداد في العالم العربي من ناحية سياسية محضة. فالتطورات التي أعقبت ما سمي بالربيع العربي دليل صارخ على أن اختزال الاستبداد في بعده السياسي يفسر أعراضه وليس أسبابه، وهي أسباب ذات طبيعة دينية – ثقافية أيضًا، كما أشار حمودي قبل عقود. ولهذا السبب، فإن نقد السياسة السائدة يجب أن يكون نقدًا للثقافة السائدة أو النموذج الثقافي السائد ومنظومة القيم التي تشكل هذه السياسة وتخدمها وتشرعنها وتعيد إنتاجها. يتعلق الأمر في لغة حمودي "بنوع من القواعد التي تحكم التفاعل اليومي وتضمن إعادة إنتاج السلطة القائمة وعلاقات القوة".
في هذا النظام المغلق، لا تكون المشاركة السياسية ممكنة إلا في إطار الطاعة. ويقدّم هشام شرابي تفسيرًا مقنعًا لواقع المجتمعات العربية المعاصرة وبنياتها والعلاقات التي تسودها من خلال مفهومه بشأن الأبوية المستحدثة. ويتحدث هذا المفهوم عن نظام اجتماعي يزاوج بين الحداثة والأبوية، مما يؤدي إلى مجتمع تسيطر عليه جماعات مثل الجماعات الطائفية أو القبلية أو العرقية أو الحركات الدينية. وفي هذا النظام الاجتماعي يتم استغلال الحداثة ومنجزاتها التقنية من أجل إعادة انتاج البنيات والتراتبيات السائدة.

قبر كانط في مدينة كالينينغراد في روسيا (Getty)

من كل هذه التحليلات السابقة يتبين لنا أن أزمة المجتمعات العربية اليوم هي أزمة تربوية، وأن هذه الأزمة تعبر عن نفسها بالأساس، إذا أردنا التعبير عنها بلغة كانط، في التربية التي يقدمها "الآباء" والتي يقدمها "الأمراء"، وهي تربية بالنسبة للسياق العربي، قد لا تتحقق حتى كترويض، بالمفهوم الكانطي للترويض والذي يرى ضرورة أن لا يتم كسر ارادة الطفل في هذه المرحلة الأولية من التربية، إذ كما يكتب في "البيداغوجيا" على الطفل "أن يشعر دومًا بحريته".
يقدم التصور الكانطي عن تربية كوسموبوليتية مدخلًا أساسيًا لقراءة أزمة المجتمعات العربية المعاصرة ونظمها التربوية وليس التربوية فقط. فالتربية الكوسموبوليتية كما يفهمها كانط تتناقض في أدقّ تفاصيلها مع التربية السلطوية التي تنتج وتعيد إنتاج البنى والعلاقات الاجتماعية والسياسية السائدة، وهي تتناقض معها أولًا لأنها تتحدث عن مواطن عالمي أو عن انتماء إلى العالم يتجاوز الانتماءات القومية والدينية والطائفية الضيقة والتي تقوم على الهيمنة وتقف حجر عثرة أمام الحرية الفردية، وهو انتماء يتحقق كتربية على الإنسانية، وليس مثل تلك التربية الأداتية التي تسود الأسرة والمجتمع في نظام الأبوية المستحدثة. إن اتهام مثل هذه التربية الكوسموبوليتية بأنها من طبيعة مجردة أو أنها تغفل الخصوصيات الثقافية للأفراد هو الاتهام نفسه الذي سيرفع في وجه حقوق الإنسان الكونية من أجل الدفاع عن السياسات السلطوية، ومثل هذا التفكير الأيديولوجي يحرم الثقافات المحلية من حقها في التطور ويربطها بنموذج نهائي ومغلق.




إن الانتماء إلى قيم كوسموبوليتية من شأنه أن يخدم المجتمعات المحلية ويشجعها ليس فقط على اللحاق بالقانون الكوسموبوليتي الدولي ولكن على دمقرطة مؤسساتها بشكل يتوافق مع ذلك القانون. إن تربية الفرد على الكوسموبوليتية يشجعه على اجتراح علاقات جديدة بثقافته ومجتمعه، لا تقوم على الامثتال والخضوع أو على الفخار القومي الضيق أو حتى العنصرية تجاه الثقافات الأخرى.

الأسس الفلسفية للتربية الكوسموبوليتية

العقل، التنوير أو الأوتونوميا والأخلاق، تلك هي الأسس التي تقوم عليها التربية الكوسموبوليتية عند كانط. أولا تصوره عن العقل باعتباره صانعا للسلام. ثانيا: تصوره الأخلاقي الديمقراطي عن التنوير، وثالثا، تصوره عن التربية الأخلاقية باعتبارها أعلى مرحلة من مراحل التربية. 1. العقل صانعًا للسلام: يؤرخ عادة للتفكير في المواطنة العالمية، الضيافة الكونية، الكوسموبوليتية، بكانط وفكرته عن السلام الأبدي. ولكن ما يتوجب الانتباه إليه بدءا في هذا السياق هو المهمة التي يربط بها كانط العقل، والتي تتمثل برأيه في تحقيق السلام. يفهم كانط العقل، الذي يحدده النقد والنقد الذاتي، بالمعنى الميتافيزيقي والسياسي، "كسلطة وضامن للسلام"، وما يميز سياسة العقل هذه عند كانط أنها تشمل إرادة الجميع وتمهد الطريق للسلام من خلال تجربة النزاع.
يلخص كانط مسار فلسفة العقل في التاريخ في ثلاثة مصطلحات مركزية: الدوغمائية، والشك، وأخيرا النقد أو النقدانية. يُقصد بالدوغمائية الثقة المفرطة للعقل في نفسه، وتعني الاعتقاد بأن العقل الفلسفي، كما هي الحال في الرياضيات، قادر على التعرف على الأشياء بشكل قبلي. بالنسبة لكانط، يمتد خط الدوغمائيين من أفلاطون وأرسطو إلى لايبنتز وكريستيان فولف. والجانب الثاني هو جانب الشك، الذي يقوم، حسب كانط، على فكرة "الفشل الكامل لجميع المحاولات في الميتافيزيقا". أما اللحظة الثالثة، وهي اللحظة الكانطية، فهي لحظة نقد العقل الخالص، أو لحظة النقد الذاتي للعقل، والتي ستضع حدًا للنزاع الدائم في الميتافيزيقا، وتمهد الطريق للسلام داخلها. ولهذا السبب أيضًا تشكل اللحظة الثالثة نوعًا من المحكمة في لغة كانط. وكما يصفه في نقد العقل الخالص: "يمكن للمرء أن ينظر إلى نقد العقل الخالص باعتباره المحكمة الحقيقية لجميع النزاعات حوله. (...) بدونها، يكون العقل، كما كان، في حالة الطبيعة ولا يمكنه تأكيد أو تأمين مطالبه بأي طريقة أخرى غير الحرب. ومن ناحية أخرى، يوفر لنا النقد (...) السلام في وضع قانوني لا يمكننا فيه إدارة نزاعاتنا إلا من خلال التقاضي"، وهي محكمة أو محاكمة يجب أن تضمن في نهاية المطاف السلام الأبدي. إن حل الخلاف هذا، الذي يشترط النقد والنقد الذاتي، هو سمة مركزية للفلسفة الكانطية بأكملها، وليس فقط ميتافيزيقاه، كما يؤكد هانز سانر في كتابه الكلاسيكي: "الفلسفة تبدأ في النزاع. لكنها تريد السلام (...). تقترب منه في طريق لا نهاية له.. كانط هو فيلسوف هذا الطريق (...) فيلسوف السلام. إن فلسفته بأكملها تعتبر نفسها رحلة نحو سلام العقل".
بمعنى آخر، إلى سلام يقوم على مبدأ العقل النقدي وعلى المستويين النظري والعملي. يكتب هانز سانر: "يرفض كانط كل أنواع السلام التي لا يرجع أصلها إلى العقل نفسه، والتي لا يمكن أن يكون هدفها نشر العقل في جميع أنحاء العالم". ولهذا السبب أيضًا يدافع كانط عن حكم القانون داخل الدولة الواحدة وخارجها، بين الدول المختلفة. إن السلام هو الخير الأسمى. وإن العقل النقدي هو وحده القادر على تحقيق السلام نظريًا وعمليًا. يكتب هانز ميشائيل بومغارتن: "إن فلسفة كانط ككل هي محاولة للتوسط وتحقيق السلام انطلاقًا من تجربة الصراع، ومعركة الفلسفات وكذلك الأفراد والدول". اذ فقط مع كانط، كما لاحظ المتخصص المعروف أوتفريد هوفه، أصبح السلام مفهومًا أساسيًا في الفلسفة. يمثل أوغسطين استثناءً في فلسفة ما قبل الحداثة، لكن سلامه يظل محفوظًا للمابعد. عند كانط: "في هذا العالم يتوجب أن يتحقق السلام، في توافق مع فكرة الحق ومفهومها الأخلاقي".

               عبد الله العروي 

2التصور الأخلاقي ـ الديمقراطي عن التنوير: يؤكد أوتفريد هوفه أن التنوير عند كانط يمتلك بُعدًا أخلاقيًا، وهو ما يعني أن التنوير لديه لا يرتبط بمراكمة المعارف، ولكنه يتعلق بواجب أخلاقي، هو ليس أقلّ من ثورة داخلية في الموقف من الحياة والعالم. إن وضع اللارشد الذي يتحدث عنه كانط في مقالته حول التنوير وفي كتابه "الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية" هو لارشد أخلاقي، ولكنه يمتلك أيضًا بُعدًا سياسيًا. ومن جهة أخرى، ففي تأكيد كانط على أن التنوير لا يختزل في مراكمة المعارف، هو يرفض التصور الأرستقراطي عن التنوير كما تطور مع الموسوعيين الفرنسيين دالامبير وديدرو. إن الأمر يتعلق لدى كانط، كما يوضح هوفه، برفض لكل أرستقراطية عقلية لصالح ديمقراطية تشمل الأمور العقلية أيضًا، وبلغة أخرى، إن كل انسان قادر ومؤهل للتنوير أو للخروج من الوصاية، بغض النظر عن ثقافته ودينه وطبقته الاجتماعية إلخ... وهنا نقف على البعد الكوسموبوليتي للتنوير والذي يصطدم مع كثير من الكتابات الفلسفية الغربية والتي ما زالت إلى يومنا هذا تحتكر لنفسها الحق في الحرية أو الثورة أو المعنى.
3. التربية والأخلاق: لا يبالغ أوتفريد هوفه وهو يكتب بأن كانط "الفيلسوف الوحيد في الحداثة الذي يفكر كليًا بشكل كوسموبوليتي". يؤكد هوفه بأن كانط كان "غريبًا على الغطرسة الأوروـ مركزية"، وحين يتحدث عن أوروبا هو لا يتحدث عن مشتركات ولكن عن غنى التنوع  وعوضًا عن "الغطرسة الأورومركزية سيتميز تفكير كانط بكوسموبوليته الكونية" وعلاوة على الكوسموبوليتية الإبستمية والتي يعبر عنها في "نقد العقل المحض" من خلال أسسه القبلية ـ التوليفية المفارقة للثقافة والتاريخ، وعلى كوسموبوليتيته الأخلاقية والتي يعبر عنها الأمر الأخلاقي الذي يسري على كل البشر.




نقف على تربيته الكوسموبوليتية والتي تطلب تحقيق فكرة الإنسانية في الإنسان، أو كما يكتب كانط: "يتوجب على الخطة التربوية أن تكون كوسموبوليتية"، وهو ما لن يعثر عليه كانط في التربية التي يقدمها الآباء أو الحكام، وهو يرى هدف التربية الكوسموبوليتية في سعيها إلى تحقيق "الأفضل في العالم والكمال". لقد رأى كانط في عصره بأن التربية تتحقق كترويض وتثقيف وتحضير وبلغة أخرى أنها تقوم على تربية الأطفال بشكل يسمح لهم بالاندماج بعصرهم ومجتمعهم، ولكن التربية الأخلاقية هي وحدها الكفيلة بربطهم بالمستقبل والإنسانية. إنّ الأمر لا يتعلق لدى كانط بتربية قوميّة، كما سيطورها فيشته في "الخطاب إلى الأمة الألمانية"، هذا الكتاب الذي سيكون له كبير الأثر على الفكر الأيديولوجي العربي، منذ ساطع الحصري والذي يمكن تتبع تأثيره حتى حسن حنفي وتصوره عن الاستغراب أو طه عبد الرحمن في دفاعه عما يسميه بترجمة تأصيلية، بل إنها تربية، كما سيكتب هوفه في كتابه الصادر مؤخّرًا: "المواطن العالمي من كونيغسبيرغ" Der Weltbuerger aus Koenigsberg : "لا تتوجه إلى ثقافة أو حقبة معينة ولكن إلى الإنسانية". إنها تربية تريد الأفضل في العالم حتى لو كان ذلك على حساب الوطن الأم، كما سيكتب كانط. ولهذا السبب أيضًا يرى ماركوس فيلاشيك في كتابه "كانط: ثورة الفكر" Kant: Die Revolution des Denkens أن "مفهوم كانط للمواطنة العالمية يتجاوز الكوسموبوليتية القانونية (القانون المدني العالمي) والكوسموبوليتية السياسية (نظام السلام العالمي)". سيطور كانط  فكرة الكوسموبوليتية الأخلاقية، والتي بموجبها ينبغي للمرء أن يرى نفسه جزءًا من مجتمع عالمي يشمل جميع الناس. إن مثل هذا "الموقف الكوسموبوليتاني" هو تصحيح ضروري للنزعة الإنسانية نحو الأنانية الأخلاقية والتعصب الديني. إنها تنظر إلى جميع الناس كأعضاء متساوين في المجتمع العالمي.

بين الاسلام ودين العقل
إن الإنسان لدى كانط لا يصبح إنسانًا إلا من خلال التربية ودور التربية أن تعوض نقص الطبيعة، لكن في الوضع العربي المعاصر، عليها أن تعوض نقصًا مزدوجًا، ما اعتبره كانط نقصًا طبيعيًا، ولكن أيضًا ما يمكن اعتباره نقصا حضاريًا، والذي هو استمرار لصراع خاسر بين الثقافة والحضارة في السياق العربي. وهنا تطرح المسألة الدينية نفسها بشكل كبير، وهي المسألة التي ستشغل كانط وعصره أيضًا، وسيقدم كانط تأملات بشأنها في أكثر من كتاب وبحث، كما في "الدين في حدود مجرد العقل" أو في كتابه "صراع الكليات"، تستحق أن نتوقّف أمامها ونتعلم منها، وخصوصًا انطلاقًا من تصوره عن العقل باعتباره صانعًا للسلام. لا بد من التأكيد أولًا أن كانط في دفاعه عما يسميه دين العقل يدافع عن دين، مبدأه، كما يكتب هانز سانر، ليس هو الطاعات ولكن التحسين الداخلي للإنسان. ولهذا سيعيش دين العقل صراعًا مستمرًا مع الاعتقاد الكنسي، هذا الاعتقاد الذي في تغييبه للعقل يرغم دين العقل على الدخول في الصراع، ولهذا يرى كانط بأن تاريخ الإيمان هو ليس أكثر من قصة الصراع المستمر بين دين الطاعات والدين الأخلاقي. ويرى سانر في قراءته للعقل بأن دين الطاعات يحارب في دين العقل، العقل نفسه، فدين الطاعات يطلب تدمير الاعتقاد الحر ودين العقل يطلب تحرير الإيمان من سلطة الإكراه والإقصاء. ولكن، كما يوضح سانر، لا يجب أن نعتقد بأن كانط يرفض الدين الذي يقوم على الوحي، بل قد يراه ضروريًا كلما استجاب لمتطلبات التطور وكلما اقترب من العقل.
ويؤكد سانر بأن هذا التناقض يقوم بين شكلين للدين، دين الطاعات، ولنسمه دين السلطة، من جهة ودين العقل أو الحرية من جهة ثانية، هو تعبير عن نوعين من الصراع، صراع تعدمه الشرعية، لأنه لا يقوم على العقل ولا ينشد العقل، ولأنه صراع يطلب تدمير الخصم، الوحي الآخر أو الدين الآخر مثل الحروب الدينية التي عرفتها أوروبا أو الحروب المذهبية في سياقنا، والتي لا يتحقق فيها السلام إلا على جثت الآخرين، ولكن هناك شكل آخر للصراع هو ما يسميه بالشرعي، وهو الصراع الذي يطلب تحقيق السلام ولكن في ظلّ الحرية. كلا الصراعين يطلب الوحدة أو يطلب السلام، ولكن هناك سلام يمثل نصرًا للعقل وآخر يمثّل نصرًا للعنف. ولهذا يرفض كانط وحدة لا تقوم على الحرية وينشد وحدة تشترط العقل والحرية.
اليوم، نفضل الحديث عن التدين وليس عن الدين. واليوم نعي أكثر بأن الاصلاح الديني لا يتوجب أن يمر فقط مما يسميه نيتشه بالحمام الكانطي البارد، أو من نقد غير مشروط، ولكنه إصلاح يرتبط بشروط اجتماعية وسياسية ولا يتحقق إلا إذا تزامن مع نهضة علمية واقتصادية ودمقرطة للمؤسسات السياسية وغيرها... إلخ.. ولكن نقد كانط لدين عصره يقدم لنا نموذجًا للنقد الديني، والذي لا يطلب على طريقة التنوير الفرنسي إخراج الدين وبشكل متطرف من الحياة الإنسانية أو من الفضاء العام، أي تحقيق السلام من خلال الإكراه والعنف، وهو ما يمثل نوعًا من العلمنة للعنف الديني نفسه، ولكن تحويله من الداخل كما طلب تحقيق ذلك التنوير الألماني والأنجلوساكسوني وكما أوضح ذلك أحد كبار الكانطيين في القرن العشرين أرنست كاسيرر في "فلسفة التنوير". إن الطريق إلى الأخلاق والى الدين الأخلاقي يتحقق في ظل العقل والحرية، وكل حرب على العقل من طرف الدين، كما يوضح كانط، هي حرب خاسرة.

(*) هذا المقال عبارة عن نصّ محاضرة ألقيت في "الديوان سنتر" ـ برلين، بمناسبة الاحتفاء بمرور ثلاثمائة عام على ميلاد الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.