قصةُ الكَمين المَكين
بعد مرور عام على العدوان الصهيوني الذي استهدف قطاع غزّة في عام 2014، نشرت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، صورًا لـ"سحق" دبابة ميركافا لجيش الاحتلال الإسرائيلي، موضحةً أن هذا تم بِكمين لقوّة شرق منطقة جحر الديك، جنوب شرقي مدينة غزة.
وحسب وكالة "وطن" للأنباء يأتي نشر الصور مع الذكرى الأولى للعدوان الإسرائيلي الذي استمر 51 يومًا في تموز/ يوليو وآب/ أغسطس 2014. وعن كمين جُحر الديك، قالت الكتائب: "نظرًا لطبيعة المنطقة المنعزلة والقريبة من العدو اعتمدت وحدة النخبة في جحر الديك على استخدام أسلوب الكمائن، وبعد دراسة المنطقة ومسرح العمليات اتُّخذ القرار بعملِ كمين (مثلث مغلق)، مكوّن من ثلاث نقاط تتمتع كل نقطة بوجود عتاد متنوّع (دروع/أفراد)".
وأوضحت الكتائب أن الهدف من الكمين تدمير الآليات والأفراد في حالة الدخول من أي اتجاه، مضيفة أنه "بعد وضع الخطة أُعطيت الأوامر ببَدْء عمل "وصلات صغيرة" تكون حصنًا للمقاومين خلال المعركة، من القصف المدفعي والرؤية الليلية والحرارية من طائرات العدو".
وتابعت: "بدأت الحرب على قطاع غزة، وصدرت الأوامر من القيادة العسكرية، بشحن الكمائن واستنْفار المجاهدين، وأعْطى القائد الميداني (أبو محمد) التوجيهات والتّعليمات المهمة لهم، ورغم القصف والتّحليق المكثّف لِطائرات العدو استطاع المجاهدون الوصول إلى الكمائن بطرقٍ آمِنة".
وقالت الكتائب: "مع شدة القصف من مدفعية وَطائرات العدو، تعرّض الكمين للقصف، فيما لم يصب كمين النقطة الشمالية، التي تبعد مئات الأمتار قبالة الخط الزائل، فاستطاع مجاهدان من وحدة النخبة، التنقّل بين الوصلة المُعَدَّة مسبقًا والدُّشمة التي أُنشِئت خلال المعركة للمساعدة في المُناورة، والتحصُّن فيها فترة القصف الجوي، إلى أن قرّر العدو الغوص في وحل غزة". إعلام القسّام كشف أن المقاوميْن "أبو أنس" و"أبو حمزة" من وحدة النخبة مَكثا 13 يومًا في نقطة الكمين، منتظريْن وقوع العدو في المقتلة المعدة مسبقًا، وطيلة فترة القصف الجوي، تنقّلا في النقطة بين "الوصلة والدشمة"، التي أعدت لكمائن الآليات والأفراد.
ولفتت النظر إلى أنهما تمكّنا من عمل "الدشمة" الجديدة مع دخول الحرب الأيام الأولى، وتحصينها بشكل جيد من قذائف المدفعية لقربها بشكل كبير من العدو، فهي لا تبعد سوى 800 متر من السياج الأمني شرق منطقة جحر الديك. وبينت أن التواصل المباشر استمر مع الشهيد القائد معاذ أبو زايد (الذي استشهد خلال الحرب) والقائد الميداني (أبو محمد) باستخدام وسائل اتصال خاصة، في إعطاء الأوامر ومتابعة الخطط، وقضى المقاومان 13 يومًا من رمضان في الدعاء والاستغفار وختْمات القرآن، واقْتصر سحورُهما وإفطارُهما على شربةٍ من ماء.
من كرامات الله عز وجل، بحسب البيان، مكوث المجاهدين في نقطة الكمين بأمان رغم استخدام العدو سياسة الأرض المحروقة، التي طاولت الأراضي الزراعية، ودمّرت جميع المنازل المحيطة بِالكمين، كما استطاع المجاهدان استخدام طرقٍ في الإخفاء، لتمويه رصد العدوّ دون كشفِهم.
في اليوم الـ20 من الحرب، وعند الساعة 11 ليلًا، بدأ العدو بالتقدم نحو منطقة جحر الديك، ورصد المقاومان تقدم قوة عسكرية مكوّنة من جرافتيْن وعدد من دبابات "الميركافا"، بعد ورود معلومات إليهم بوجودِ حشود عسكرية على بوابة النسر تستعد للتقدم.
ومع مواصلة العدوّ سياسة الأرض المحروقة، (تدمير كل شيء أمامه)، في محاولة لتأمين تقدمه نحو المنطقة، وصلت الآليات إلى مسافة قريبة جدًا من نقطة الكمين لا تتجاوز خمسة أمتار.
وعند الساعة 6:30 صباحًا من يوم 21 تموز/ يوليو 2014،، استقرّت دبابة "الميركافا" فوق عبوة برميلية تزن 60 كغم، برغم تخطّيها للعبوة ثم عودتها إلى الوراء مرة أخرى، ومن تقديرات المجاهدين أن "الميركافا" تعود لقيادةِ عمليات العدو، وكان أحد الضباط قد اعتلى ظهر الدبابة ووقع نظره على المجاهدين بشكلٍ مباشر إلا أنه لم يرهم!
اتخذ المجاهدان قرارًا ميدانيًا بتفعيل العبوّة المخصصة للآليات، وتحييدِ عبوّات الأفراد نظرًا لِوجود الجنود داخل الآليات، وخوفهم من النزول إلى أرض المعركة.
تمكّن المجاهدان من تفجير العبوة البرميلية أسفل الدبابة، فَوقع انفجارٌ ضخم، وتطايرَ حطام الدبابة في كل مكان، ومن هول المنظر وقوة الانفجار، توقفت الآليات عن الحركة وخَفَتَ إطلاق النار، بينما تعالت أصوات صراخ الجنود ونداءاتُ الاسْتغاثة في المكان، ووقف العدو عاجزًا لأكثر من نصف ساعة عن إسعاف قتلاه وجرحاه.
"بعد وقوع العدو في المقتلة وتدمير الميركافا"، قرر المجاهدان الانسحاب من المكان برغم محاصرة العدو لهم من ثلاث جهات، واستطاعا الوصول إلى مكان آمنٍ رَغم كثافة النيران، وتعرّضهم للقصف من طائرات الـ"أف.16" بأربعةِ صواريخ إلا أن "عناية الله تدخلت في حفظهم حتى عادا بسلام، بكامل عتادهما العسكري".
بعد اندحار العدوان، عاد المقاومون إلى مكان التفجير، ليشاهدوا بقايا أشلاء الميركافا محترقة ومُتناثرة في المكان، واستدلّوا على أن سبب ذلك هو وقوع انفجار وحريق ضخم في الآلية المُستهدفة.
ولليوم هناك من يعيد الكلام من دون تمحيص عن خاصرة رخوة وَما خاصرة رخوة، فأي رَخاوة هذه التي تجعل جُحر الديك يسطّر كل هذه البطولات. وحتى يومنا هذا، وبعد أزيد من 311 يومًا على العدوان ودخولنا الشهر الحادي عشر منه، لم يسيطر العدو الصهيوني على جُحر الديك الذي لا تزيد مساحته على ستة كيلومترات مربعة، فَعن أي خاصرة رخوة تتحدثون؟ الرَّخاوة من عدمِها في مؤسِّسات الوعي، لا هي في الطبيعة الجغرافية لأرضِ معركة، ولا في عديدِ القوّات وعتادِها.
سلّة غزّة
الزيتون والكلَمَنْتينا وغيرهما من الحمضيات، وأشجارٌ مثمرةٌ أُخرى، والمَحاصيل الحقْلية من خضروات وحُبوب، والدّواجن والمَاشية وحتّى الأبْقار، هي جغرافيا الحيّ الزراعية بفرعيْها النباتيّ والحيوانيّ. في كل مرّة يُسيّج أهل الحيّ المنطقةَ الفاصلةَ بينهم وبين فلسطين المحتلة (المسروقة من العدو الصهيوني) بالزّيتون، وفي كل مرّة يجرفها العدوّ الغاشم، يعيد المزارعون الصامدون العنيدون رَشْمَ الحدود المُلتهبة بالزيتون وغيره من الأشجار عالية الإِباء، لا يكلّون، يواجهون صِعابًا جِسامًا لا شكّ بذلك، هذا ما يبوح به معظمهم، ولكنهم مع ذلك لا يقبلون أن تكون هذه الصعوبات والاسْتهدافات سببًا لأنْ يستسلموا، أو لأن يغادروا.
يروي المزارع محمد الصفدي رحلة العذاب التي يعيشها في أرضه الزراعية بمنطقة جحر الديك عند الذهاب للعناية بشجر الزيتون الممتد على طول الحدود... "الحياة أصبحت لا تُطاق"، يقول الصفدي، فبعد تعب وعناء في جلب وزراعة الأشجار بأرضهِ لِينتظر موسم جنْي المحصول الذي يكون حصاد العام، وإذا بِالجرّافات معزّزة بالدّبابات، تقوم بتجريفِ كلّ ما زرعه، يسرد بِألم، وتقضي على تعبهِ وشقائهِ طُوال العام.
ورغم ذلك يهتف الصفدي بنبرة تحدٍ لا لُبس فيها: "سنبقى صامدين على أرضنا مهما كان الثمن لأن العدوّ يبقى عدوًا والحياة تسير بنا وما قدّر لنا لا يأخذه غيرنا"؛ ويستدرك بالقول: "حتى ونحن جالسين بين الأشجار وإذا بالقنّاص من فوق برج المراقبة يطلق النار علينا كلما عنّ له ذلك، رغم أنه يعلم أننا نقوم بزراعة الأشجار فقط، هو يسعى إلى زرعِ الرعب، ونحن سنُواصل زرعَ الخصب وإنْبات أرضِ أجدادِنا".
صغيرة هي قرية جحر الديك كما لو أنّ لها من اسمها نصيب... تربتُها طينيةٌ... أو كِرْكاريةٌ... أو مختلطةٌ... سهلةٌ منبسطةٌ مثلَ نفوس فلّاحيها... قليلة تلالُها: الغَلاييني وجُحر الديك، ولكنّها تلالٌ عنيدةٌ منيعةٌ صامدة... قليلٌ عديدُ سكّانها... قد لا يزيدون على خمسِة آلاف نسمة... قليلةُ الحظ هي عند الحديث عن مشاريع التنمية وتطلّعات التطوير... بمدرسةٍ واحدةٍ ومركز صحيٍّ واحد... لا تكترث القرية، ولا أهلُها، بالمظاهرِ الفَانية... ولا بديكِ تاجرٍ ثريٍّ ضاع (إنْ صحّت الحكايةُ) في أحدِ جحورِها... أهلُها عجولُها... ولا يحرث الأرضَ إلا فُحولُها... ولا ينيرُ الدروبَ إلى قناديلُها...