}

مُسافرو الألفية الثالثة

محمود الريماوي محمود الريماوي 31 أغسطس 2024
اجتماع مُسافرو الألفية الثالثة
(Getty)
خلافًا لأحوالِ عقودٍ سابقةٍ، فقد باتَ السفرُ نشاطًا عامًّا وشعبيًّا يندفعُ إليه ملايينُ البشرِ من سائرِ الجنسياتِ والأجيالِ. لم يعدِ الترحالُ نخبويًّا تطغى على مشهديَّتِه صورةُ الميسورينَ و"المحظوظينَ"، بل إنَّ هؤلاءِ يبدونَ قليلي العددِ معزولينَ ومتباعدينَ بملابسَ مهندمةٍ وحقائبَ ثمينةٍ، واعتدادٍ مفرطٍ، وبملامحَ صنميةٍ يغلبُ عليها الوجومُ أو بابتساماتٍ حذِرةٍ مقتضبةٍ، بينَ جمهرةٍ غفيرةٍ من مسافرينَ نشطينَ، مسافري الألفيةِ الثالثةِ ممَّن لهم مذهبُهم الخاصُّ في السفرِ وقد اجترحوه لأنفسِهم، إذ يرتدونَ ما يعِنُّ لهم من ملابسَ عاديةٍ ذاتِ ألوانٍ عشوائيةٍ، وأحذيةٍ رياضيةٍ حديثةٍ أو قديمةٍ... نظيفةٍ أو نصفِ نظيفةٍ لا فرقَ.
وفي حالاتٍ متطرفةٍ ينتعلونَ تلك المستخدمةَ في البيتِ، وبشعورٍ شبهِ مسرَّحةٍ ويتبادلونَ بأريحيةٍ الحديثَ والقفشاتِ الضاحكةَ مع رفاقِ الرحلةِ ومع أفرادِ العائلةِ المسافرةِ، ويبدِّدونَ وقتَ الانتظارِ في تناولِ ساندويتشٍ ينتزعونَه من حقيبةٍ مدرسيةٍ لأحدِ أطفالِهم ويشاطرونَهم إيَّاه، ويبدونَ لا كمسافرينَ بل كمن يذهبُ إلى مكانِ العملِ في مدينتِه بنشاطٍ يخالطُه ضجرُ الاعتيادِ، ويلعبُ فضولُ السفرِ هنا دورًا في إطفاءِ هذا الضجرِ، على أنَّهم لا يُظهرونَ التهيُّبَ الذي يميِّزُ من ينتقلونَ من بلدِهم إلى بلدٍ ثانٍ (ترانزيت) ثم إلى بلدِ الوجهةِ المقصودةِ، فهم يمحضونَ ملاحي الطائرةِ ثقتَهم الكاملةَ، علاوةً على إيمانِهم الراسخِ بالقدرِ.
لقد اكتسبوا خلالَ وقتٍ قياسيٍّ وببضعِ رحلاتٍ خبرةً طيبةً في السفرِ تستندُ إلى إلمامِهم باللغةِ الإنكليزيةِ، خبراتِهم التقنيةِ في التعاملِ مع الموبايلِ، وقلَّما يلتمسونَ عونًا من أحدٍ بل يبادرونَ من تلقائِهم لمساعدةِ من يبدو عليه الضياعُ، وهم إلى ذلك يحترمونَ القواعدَ ويتقيَّدونَ بها، ولا يُقلقونَ راحةَ غيرِهم أبدًا إلا عَرَضًا ولهُنيهاتٍ في حالةِ خروجِ بكاءِ طفلٍ عن السيطرةِ، ويحرصونَ على أن يحملوا أقصى ما يسعُهم حملُه إلى داخلِ الطائرةِ، وينجحونَ بغيرِ مساعدةٍ من أحدٍ في حشرِ حاجياتِهم على أقربِ رفٍّ، ويأتونَ على وجبةِ الطعامِ كاملةً حتى لو بدا مذاقُها غريبًا بعضَ الشيءِ، فقد دفعوا ثمنَها مسبقًا، ثم ينجحونَ في الإغفاءِ بعمقٍ على مقاعدِهم ساعةَ يشاؤونَ، ولا توقظُهم المطبَّاتُ الهوائيةُ في حالِ المرورِ بها، فللمرءِ أن يتوقَّعَ كلَّ شيءٍ وأن يوطِّنَ نفسَه على استقبالِ مفاجآتِ عبورِ المسالكِ الغامضةِ فوقَ الغيومِ، ومن حقِّهم نيلُ قسطٍ كافٍ من الراحةِ، بعد التمتُّعِ بما يتيسَّرُ سماعُه من أغانٍ ومتابعةِ أفلامٍ على الشاشةِ الصغيرةِ أمامَ المقعدِ. لا يدعونَ خدمةً متاحةً إلا ويمتِّعونَ النفسَ بها... وقد لاحظتُ بعضَهم يخرجونَ ذاتَ رحلةٍ من بابِ الطائرةِ، وهم يلتحفونَ ببطانياتٍ خفيفةٍ استخدموها في أثناءِ نومِ الرحلةِ، بعد أن أذِنَ لهم المضيفونَ بالاحتفاظِ بها لأنفسِهم.




ورغمَ أنَّ أسعارَ تذاكرِ الطيرانِ لم يطرأْ عليها انخفاضٌ بعد التعافي من جائحةِ كورونا بل إنَّ أثمانَها ارتفعتْ، ورغمَ أنَّ الحصولَ على تأشيراتِ السفرِ ليس هيِّنًا، إلا أنَّ الإقبالَ على السفرِ من عامةِ الناسِ يتزايدُ ويتضاعفُ، وساعدَ على ذلك سهولةُ الحجزِ أون لاين... لقد انتزعوا بالجهدِ والخبرةِ والتعلُّمِ حقَّهم في التنقُّلِ واستخدامِ أفخمِ الطائراتِ وأسرعِها، ومن يعبرُ مطاراتِ إسطنبولَ ودبي والدوحةِ، فإنَّه سرعانَ ما يصادفُ "شعوبًا" مسافرةً تمتلئُ بهم الصالاتُ الرحبةُ ويغلبُ على سحناتِهم اللونُ الداكنُ و"الأصفرُ"، ويقفونَ بغيرِ تبرُّمٍ وبصبرٍ استراتيجيٍّ في طوابيرَ ممتدةٍ، أو يخفُّونَ مسرعينَ صوبَ بوابةِ السفرِ، أو يعرجونَ إلى السوقِ الحرةِ أو الحمَّاماتِ وإلى صالةِ التدخينِ، وكمن يتحرَّكُ بألفةٍ وراحةٍ داخلَ البيتِ الشاسعِ لقريبِه الثريِّ.
وإذا ما بدا هبوطُ الطائرةِ على المدرجِ ثقيلًا وعلى شيءٍ من الاضطرابِ، فسوف يحتفظونَ بهدوئِهم وثباتِهم ولن تكدِّرَهم رجَّةُ الهبوطِ كحالِ مسافرينَ مُرهفينَ آخرينَ، سوف يلتمسونَ العذرَ للملاحينَ وقد يصفِّقونَ تحيةً للكابتنِ، فقيادةُ الطائرةِ عمليةٌ شاقَّةٌ ينوءُ بها الأبطالُ وليست بمثلِ قيادةِ دراجةٍ ناريةٍ، ولا يلبثونَ أن يسارعوا للوقوفِ وانتزاعِ حاجياتِهم عن الأرففِ استعدادًا للخروجِ، ثم للوصولِ بحزمٍ قبلَ سواهم إلى نقطةِ الجوازاتِ، ثم للتزوُّدِ بشريحةِ هاتفٍ، ولا يبحثونَ في وجوهِ المستقبلينَ وعيونِ هؤلاءِ عن أحدٍ يعرفُهم ويعرفونَه، فهم في غنًى عن هذه البروتوكولاتِ الرسميةِ والطقوسِ العاطفيةِ، إذ يتنقَّلونَ لأسبابٍ عمليةٍ "مقدَّسةٍ" لا محلَّ فيها للبهرجةِ والمجاملاتِ، وسرعانَ ما ينبثُّونَ في المدينةِ بسلاسةٍ من دونِ أن تعيقَهم أمتعتُهم الثقيلةُ، وقد تخيَّروا وسيلةَ المواصلاتِ الأقلَّ كلفةً، وإذا ما تبقَّى وقتٌ من نهارِهم فإنَّهم يلتحقونَ بحميَّةٍ وطيبِ خاطرٍ بأماكنِ عملِهم في اليومِ نفسِه يومِ الوصولِ، معتذرينَ للمديرينَ عن أيِّ تأخُّرٍ من طرفِهم. 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.