}

في رحيل ريمون بطرس.. حَجّار السينما السورية

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 4 مارس 2020
هنا/الآن في رحيل ريمون بطرس.. حَجّار السينما السورية
ريمون بطرس (16 شباط 1950- 2 آذار 2020)
في التسعينيات، انتعشت في سورية السينما الناقدة التي تناولت قضايا الفساد، والتضييق على الحريات، وغياب العدالة الاجتماعية. لكن أمام مقص الرقيب لجأ صناع هذه السينما إلى الرمز، والتجريدين الزماني والمكاني، أو إلى التاريخ الذي لا يخلو من اسقاطات على الحاضر، وكانت البداية من فيلم الطحالب (1991)، للمخرج ريمون بطرس، الذي غيّبه الموت في دمشق في 2 مارس/آذار الجاري بعد صراع مع المرض.

كان "الطحالب" ثاني أفلام بطرس الروائية، أظهر فيه مدى ارتباطه بجذوره وتأثره بمدينته حماة ونواعيرها. وحاول فيه أن يعكس صراعات الحياة على ضفتي العاصي، ضمن العائلات والقبائل الواحدة في مدينة حماه السورية، وعلى هامشها معاناة الأفراد في حياتهم المعنوية والمادية في خضم تفكك أُسَرِي، يدفع بأشقاء وشقيقات لأن يتقاتلوا حول قطعة أرض موروثة، ويُقتَل أحدهم ثأراً داخل أسوار المحكمة، وآخر يرتكب جريمة "شرف". يرصد الفيلم من خلال هذه العائلة الحياة الاجتماعية السورية المنهكة بشرورها تحت ضغط الصراع على المصالح وخواتيمها المفجعة، في ظل اقتصاد طفيلي، وطحالب تريد أن توقف تدفق مياه النهر، مستشرفا المنزلقات الخطرة التي باتت تعصف ببلده. لعب أدوار البطولة في الفيلم كل من منى واصف، أيمن زيدان، كارمن لبس، أمانة والي، ووفيق الزعيم، وحاز على الجائزة الفضية في مهرجان دمشق السينمائي السابع (1991)، وعلى شهادة تقدير من مهرجان بيونغ يانغ (1999)، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الفيلم العربي في باريس (1992).


رحلة إلى الحلم
على ضفاف العاصي ولد ريمون بطرس عام 1950، أدهشته السينما، واستهوته طفلا أفلام المغامرات الغربية، ثم أعمال فريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ، ونادية لطفي. أما علاقة العشق التي نشأت بينه وبين السينما فتسببت بها رائعة فرانكو زافاريلي "روميو وجولييت"، ولشدة إعجابه بالفيلم كتب عنه مقالا نشرته له إحدى الصحف السورية، ولم يكن في حينه قد تجاوز السادسة عشرة من عمره.

في أيلول/سبتمبر 1970 ركب بطرس الباخرة من ميناء اللاذقية باتجاه الاتحاد السوفييتي، كانت رحلته تلك، كما وصفها في إحدى المقابلات معه، بمثابة إبحار "نحو الحلم... كل ساعة في كل يوم من هذه الرحلة الجميلة الرائعة والطويلة باتجاه المستقبل كانت تضج بالأحلام".
في كييف بأوكرانيا أنهى دراسته للإخراج السينمائي 1976، وأنجز أثناء إقامته في الاتحاد السوفييتي فيلمه التسجيلي "صهيونية عادية" الذي حاز جائزة في مهرجان مولديست عام 1974.
بعد عودته إلى سورية تعثرت طموحاته السينمائية لبعض الوقت، فاضطر إلى العمل حجارا لمدة ثلاث سنوات، لكن حلم الوقوف خلف الكاميرا لم يفارقه، وظل مصمما على إنجاز الأفلام إلى أن تحققت رغبته، فأنجز للمؤسسة العامة للسينما فيلما تسجيليا بعنوان "الشاهد" (1986)، ونال عليه جائزة سيف دمشق الفضي في مهرجان دمشق السينمائي الخامس، كما أنجز فيلما روائيا من انتاج مشترك؛ سوري- سوفييتي، بعنوان "المؤامرة مستمرة" (1986). مع ذلك كان بطرس من جيل السينمائيين الثاني في سورية، الذين استطاعوا الاستقلال عن تأثيرات السينما الروسية، فاختاروا لهم نهجا مستقلا.


الترحال
استقبل أهالي حماة اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 بكل ترحاب، ونصبوا لهم عند قلعة حماة عددا كبيرا من الخيام، وفي فبراير/شباط 1949 هبت عاصفة شديدة اقتلعت تلك الخيام وعصفت بأوتادها. من تلك الواقعة، التي حفظتها ذاكرة بطرس عن روايات أهالي حماة، ينسج فيلمه الروائي الثاني "الترحال" (1997) الذي تدور أحداثه ما بين أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت فيها سورية عواصف سياسية عاتية، فتتزامن أحداث الفيلم مع الانقلاب العسكري الذي قام به حسني الزعيم، ليعكس صورة دقيقة للعلاقات الاجتماعية التي سادت في تلك الفترة، مصورا اللجوء الفلسطيني إلى حماة، وتضامن أهالي المدينة مع مأساتهم، وأحوال المخيم الفلسطيني الذي أقيم على عجل قبل أن تقتلعه الرياح والأمطار الغزيرة.
في الفيلم ينتظر طفل صغير من عائلة مسيحية أباه الذي يتكرر غيابه عن المنزل، والذي يعمل في الأصل حجارا ينحت الأحجار الخاصة ببناء المنازل، وقد شارك الرجل المجاهدين في فلسطين حين اندلعت الحرب حيث تواجد هناك بحثا عن عمل. انخراطه في النشاط السياسي يعرضه للاعتقال والملاحقة من قبل السلطات الانقلابية، مما يدفعه إلى الهروب واللجوء إلى لبنان. قام بأدوار البطولة في الفيلم كل من جمال سليمان، سمر سامي، سلوم حداد، ونورا رحال، وغيرهم.

نقلة سينمائية
يتجه بطرس في فيلمه "حسيبة" (2008) إلى مناخات جديدة من التعاطي والأسلوبية في العمل، فيعتمد لأول مرة على نص أدبي لم يكتبه، بل استوحاه من رواية لخيري الذهبي تحمل الاسم نفسه، ويترك في فيلمه هذا، وعلى غير عادته، الأطر الزمانية والمكانية الحموية، لتقتحم الكاميرا هذه المرة البيئة الدمشقية الشامية، مستخدما كسابقة في السينما السورية كاميرا الفيديو الرقمية للتصوير والتي تتيح إمكانية نقل المادة الفيلمية إلى سينما (30 × 20) يمكن عرضها في صالة سينمائية.
تناول بطرس في الفيلم تحولات عدد من النساء الدمشقيات خلال الفترة الواقعة ما بين 1927 و1950، حيث شهدت المنطقة تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية كبيرة، ويلقي الضوء على دور مجموعة من النساء الدمشقيات اللاتي رغبن في تغيير بعض المفاهيم والتقاليد الاجتماعية، عبر اقتحامهن لمواقع عمل مهمة مثل التجارة، فكسرن بذلك "التابو" الذكوري المحتكر لسوق العمل. ورغم فشلهن في النهاية في مواجهة المجتمع فإن الفيلم يركز على إرادتهن الصلبة في التغير.
قدم الفيلم وجهين مختلفين للمرأة، الأول يتمثل في «خالدية» الثائرة عاطفياً بعد أن عاشت تحت وطأة العادات والتقاليد؛ بدءاً من اختيار الزوج إلى مضمون الحياة الزوجية، فتزوجت مرتين مبكرا زواجاً تقليديا من خلال عائلتها، ولم تعرف معنى الحب يوماً. وأخيرا، ترفض الخضوع لديكتاتورية الرجل، فتترك زوجها وتقع في حب فنان تشكيلي، وهو شاب أصغر منها، مما يعرضها لفضيحة اجتماعية كبرى، وبعد أن ترتبط به لا تسير حياتها كما أحبت، لكنها تتعلم منه رسم (الصبيان) في مطرزاتها القماشية وهذا بحد ذاته تحد كبير، فكانت أول امرأة ترسم الصبيان في مطرزاتها. الانكسارات والخيبات تدفعها إلى العزلة في عالم صوفي تصنعه بنفسها مع مطرزاتها ونباتاتها في حديقة منزلها الدمشقي.

 يتجه بطرس في فيلمه "حسيبة"  إلى مناخات جديدة من التعاطي والأسلوبية في العمل


















أما الوجه الثاني، فيتمثل في «حسيبة» المتمردة التي خرجت إلى الثورة في الجبال وانهزمت معها، لتعود إلى دمشق. في هذا الوقت تكون حسيبة قد تزوجت وأنجبت ابنتها زينب، وبدأت تعمل على استعادة أمجاد عائلة الجوخدار ذات الإرث الراسخ في التجارة، لكنه إرث يتراجع ليصبح مجرد ''دكان'' صغير، تحاول حسيبة أن تتمسك به وتعمل على تنميته، ضمن ظروف وتحولات تهز الحارة بما تمثله من قيم وتقاليد، فتنجح حينا، ولكنها تتعرض للهزائم على غير صعيد.

تقع حسيبة في غرام فياض الشيرازي وهو صحافي ملتزم خرج من حماة- من شيزر- وتنقل بين بيروت وفرنسا ليستقر فيه المقام في دمشق، يعمل في الصحافة ويصطدم كثيراً مع القوات والجيش الفرنسي ورجالهم، ويتهم باغتيال الشيشكلي فيضطر الوطنيون لتخبئته عند «حسيبة»، لتبدأ عندها الأحداث الأساسية للفيلم، حيث يجد نفسه في هذا البيت بين أربع نساء يقعن جميعهن تحت سحره وخاصة «حسيبة» التي تقع في غرامه منذ اللحظة الأولى، أما هو فتتجه مشاعره نحو «زينب» ابنتها التي يتزوجها، وعندها تنقلب عليه «حسيبة» التي تحاول تحطيمه. يهرب فياض إلى فلسطين بحثاً عن نفسه التي ضيعها في تلك المعمعة. أما حسيبة فتموت بعد تلك الهزيمة على نافورة البحرة في باحة البيت، وينتهي المطاف بزينب مخبولة على نول النسيج بعد فقدان زوجها فياض وابنها هشام.
في حديثه عن الفيلم ذهب بطرس إلى أنه رسالة حب الى نساء دمشق والشام عموماً والى أهلها وحجارتها وعمارتها وتاريخها، كما امتدح رواية خيري الذهبي بوصفها إضافة جديدة في مسيرة الرواية العربية المعاصرة، لكن في الوقت نفسه لا يَعُدّ الفيلم ترجمة تفصيلية للرواية أو تسجيلاً لها، إنما هو مستوحى من الرواية، ويجسد رؤيته كمخرج للرواية، فالرواية برأيه كانت عملا ضخما وفيها الكثير من الخطوط الكبيرة التي لا يمكن لأي عمل سينمائي أن يحتويها.
في ظل مقصّات الرقابة، وهيمنة القطاع العام على السينما السورية، أمسك بطرس إزميله ومطرقته لينحت أفلامه، كان مبدعا ضمن تلك الإمكانيات المتواضعة التي توافرت له حتى ترجّل عن عمر ناهز 70 عاما، تاركا وراءه، كما ونوعا (أربعة أفلام روائية وثمانية عشر فيلما بين تسجيلي وروائي قصير) ما لم ينجزه أي سينمائي سوري آخر.
عمل الراحل أيضا في الترجمة عن الروسية، وكتابة المسلسلات التلفزيونية والبرامج الإذاعية، وكان رئيس تحرير صحيفة "النور" التي يصدرها الحزب الشيوعي السوري الموحد منذ عام 2001.


#فيلم حسيبة عن رواية خيري الذهبي، إخراج:ريمون بطرس.#



 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.