}

تدبير الأزمة بين الثقافة السياسية المركزية والديمقراطية

حسن السوسي 24 أبريل 2020
هنا/الآن تدبير الأزمة بين الثقافة السياسية المركزية والديمقراطية
(Getty)

يجد العالم بأسره نفسه اليوم في أزمة غير مسبوقة، من حيث خطورتها، واتساع دائرة انتشارها، محورها فيروس كورونا المستجد، أو كوفيد 19، الذي تحول إلى جائحة معولمة ضمن زمن متسارع الوتائر. والعالم أجمع يسعى إلى التغلب على الأزمة، وتقليص سلبياتها، من حيث الضحايا البشرية، والخسائر الاقتصادية والاجتماعية، قدر الإمكان، بحسب قدرات ومنهجية كل بلد على حدة. وقد تم الزج في سبيل ذلك بمختلف إمكانيات الدول في ميادين المواجهة المختلفة للوباء مادياً ومعنوياً.
ليست الغاية هنا القيام بأي مقارنة بين أنواع التجنيد، وأحجامه، بالنسبة لإمكانيات الدول وقدراتها العلمية والاقتصادية، لأن الغاية لم تكن في الأصل إصدار حكم قيمة ما، في هذا المجال، وإنما الغاية هي التفكير في أنماط الاستجابة لتحدي الأزمة الاستثنائية، والخلفية الفكرية والثقافية التي تحكمت فيها، وجعلتها تختلف من دولة، أو من مجموعة دول، إلى أخرى.

صنفان من المجتمعات
ينبغي في البداية التمييز بين صنفين من المجتمعات السائدة في العالم اليوم، بغض النظر عن التمايزات الممكنة بين الوصف والموصوف من هذه الدول، على اعتبار أن العبرة بالتجريد الجامع لمقاييس مشتركة بين هذين الصنفين من المجتمعات، وليس بالتفاصيل التي قد تميز بعضها عن بعضها الآخر، من دون المساس بجوهر ما يوحد بينها من مقاييس وعوامل

مشتركة.
الصنف الأول هو ما يمكن اعتباره المجتمع المفتوح، الذي يعلي من شأن الفرد وحرياته الأساسية، حيث تحولت مع النظام الليبرالي إلى وحدة القياس والإطار المرجعي في تصنيف المجتمعات الحديثة. وهو وصف يطلق عادة على الدول الديمقراطية الحديثة والمتقدمة بمختلف تلاوينها، الرئاسية والبرلمانية الجمهورية والملكية المركزية، والفدرالية في الغرب، على وجه الخصوص.
أما الصنف الثاني، والأقل انفتاحاً، إن لم يكن مغلقاً بطريقة شبه كاملة، مثل ما هو عليه وضع كوريا الشمالية، فهو يعلي من شأن الجماعة دون غيرها، بل ينطلق من أن أهمية الفرد لا تكون إلا من خلال انتمائه إلى الجماعة، وعليه بالتالي الخضوع لإرادتها، والاستعداد للتضحية بكل شيء من أجلها في مختلف المناسبات التي تراها الجماعة، ومن يمثلها على رأس السلطة حاسمة في تحديد مسار تطورها، وخاصة في مراحل الحروب والأزمات الخطيرة.
ويبدو أن هذا التصنيف العام يتخذ منحى حاداً في التمايز بين مكوناته خلال الأزمات والمنعطفات الكبرى التي تطرح على الطاولة مستقبل المجتمع، وكيفية التعاطي مع تحدياتها الاستثنائية التي تجعل مصير الأفراد والجماعات على المحك.
وإذا كان لنا أن نميز بين طبيعة أسلوب تعاطي نظام المجتمع المفتوح، وبين تعاطي المجتمع المغلق، أو شبه المغلق، فبالإمكان وضع الإصبع على خلاف جوهري يدخل الأول ضمن بيداغوجية خاصة تكون لها الأولوية في مختلف مراحل الأزمة، بينما يزج بالثاني ضمن خانة من يعطي الأولوية للزجر والضبط.
كيف ذلك؟
لا بد من معاينة واقع أن قرار مواجهة الجائحة الحالية مشترك بين جميع دول العالم من جهة، وأن المداخل لتحقيق هذه الغاية متعددة.
فقد فرضت الجائحة المعولمة ما هو مشترك، بينما نجد أن التعدد وليد ثقافات سياسية متباينة، هي بنت تراكمات سنين من التطور غير المتكافئ بين الدول والمجتمعات في مختلف المجالات.
وإذا كان من السهل اليوم اتهام الغرب بالفشل في مواجهة الجائحة، بل واتهام بعض دوله بالقصور عن أداء الواجب عليها حيال هذه الأوضاع الاستثنائية، فإنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، فهم طبيعة استجابة تلك الدول للأزمة من دون الانطلاق من ما يميز الثقافة السياسية التي تصدر منها، وتميزها عن ثقافة سياسية أخرى تماماً.

مقاربات متباينة لحالة الاستثناء
يتميز الفكر الديمقراطي السائد في الغرب عموماً عن المنهجيات التي تسم الأنظمة الشرقية عموماً، حيث يعيش الفكر الديمقراطي نوعاً واضحاً من الهشاشة، بكونه يتفادى من حيث المبدأ، وضمن آليات اشتغاله، ما يمكن أن يجعله متماهياً مع أي شكل من أشكال التسلط والديكتاتورية،

بما في ذلك كل أنواع الديكتاتوريات الفرعية. ذلك أن الدولة الديمقراطية الحقة، من منظور الفكر الديمقراطي السائد في الفضاء السياسي الغربي، تعادي من حيث المبدأ الديكتاتورية، بما في ذلك ديكتاتوريتها الخاصة. وفي هذا السياق، فإن بعضاً منها قد ذهبت إلى أبعد الحدود باسم التحرر في رفع يدها بشكل كبير عن مؤسساتها الفرعية، بما يمكنها من أداء واجبها تجاه الفرد والجماعة ضمن تصور عام للفصل الراديكالي بين السلط يستهدف ضمان استقلاليتها باعتبارها شرط فعاليتها.
غير أن هذه الاستقلالية ليست تعني الدفع بها إلى الإخلال بتوازنات مؤسسات الدولة، بما هي التعبير عن الإرادة العامة، فتراها تسن تشريعات، وتضع قوانين تمنع حدوث انزلاقات لا تحمد عقباها. ولعل أهم انزلاق هو السقوط في ديكتاتوريات فرعية فئوية، أو مؤسساتية. لذلك كثيراً ما تسمع الأصوات مدوية في وجه ديكتاتورية القضاة، رغم أن الجميع يعتقدون بسمو مكانة القضاء، وضرورة الحفاظ عليها، ليسهر على تعميم قيم الإنصاف والعدل على المجتمع بأسره باعتباره أس الحكم الحقيقي.
وهذا ما يفسر انطلاق أصوات في الفضاء الديمقراطي الليبرالي الغربي تدعو إلى الحد من غلواء القضاة الذين يتصرفون كما لو أنهم مصدر السيادة، حتى في الوقت الذي لم يخضعوا فيه لأي نظام انتخابي يخولهم صفة التمثيلية.
ويبدو أن بؤرة الصراع قد عرفت انزياحاً ملموساً مع أزمة فيروس كورونا المستجد، ليصبح الصراع بين الدولة ومؤسستها الصحية، والجسم الذي يسندها، من علماء وصيادلة وباحثين في مجالات الصحة والأوبئة والأمصال واللقاحات المضادة لها.
هكذا نرى أن هذه الفئة التي تتصدر المشهد الميداني في محاربة الوباء تتصرف بذهنية من يعتقد أن هذه هي الفرصة السانحة للعمل على فرض أولوياتها على الدولة، وفي مقدمتها أن لا

صوت يعلو فوق صوتها، وبالتالي فإن دور الدولة ينحصر في تكييف كل واجباتها وصلاحياتها التشريعية والمادية مع متطلبات ما تضعه على طاولتها هذه الفئة من مطالب وخطط في مواجهة الأزمة.
غير أن الدولة التي تعتبر نفسها مؤتمنة على ضمان صحة مواطنيها، ولا تقبل أي مزايدة عليها في هذا المجال، لها في غالب الأحيان نظرتها للأولويات تختلف عن نظرة الهيئات الفئوية المنظمة لها. وذلك في نقطة أساسية هي أن هذه الأخيرة تحصرها في كل ما يحقق تطلعاتها في الاعتبار والمصلحة والإنصات، بينما أولويات الدولة تتجاوز الأفق الفئوي المؤسساتي، لتشمل أفق المجتمع والكيان السياسي برمته، بل وقد لا تحده حدود الدولة الواحدة، وإنما قد يتسع إلى مجال أوسع أقله المجال الحيوي للدولة، ضمن فضاء يضيق، أو يتسع، وفق وزنها ونفوذها.
وبطبيعة الحال، فإن تعقيدات التفكير ضمن هذا الأفق الواسع والمتعدد والمركب، بالضرورة، تفوق بكثير ما يواجه كل تفكير فئوي ضيق من تعقيدات وتحديات. وهذا ما يفسر، في آن واحد، نزوع الفئوي إلى التبسيط والإطلاقية في إصدار الأحكام، والدفع في اتجاه اتخاذ القرارات الراديكالية والمتطرفة، بينما تنزع الدولة الديمقراطية إلى أخذ عوامل التعدد والتنوع التي تدخل في نطاق حركتها العامة بعين الاعتبار، فتميل إلى اتخاذ الإجراءات والقرارات التي قد لا تبدو مقروءة بشكل واضح لمن لا يستحضر أفق تفكيرها.
إن المسألة، إذاً، في عمقها الفكري والثقافي، مسألة أنماط ذهنية متباينة في مقاربة الأزمة.
لذلك فإن تياراً منهما يرى أن الأزمة جاءت لتؤكد مصداقية نهجه الفكري والسياسي في تدبير الشأن العام، وبالتالي فهي تحكم، وتعيد تجديد إعادة حكمها، بفشل النهج الفكري والسياسي المقابل، محاولاً بذلك تكريس نهجه نموذجاً للإنسانية جمعاء، بينما يدفع التيار الآخر بعدم مصداقية أطروحة ومزاعم غريمه حول نفسه وحول نموذجه، لانعدام شفافيته، واحتلال الضبط والقمع موقع الصدارة في مواجهة الأزمة، ضداً على حريات الأفراد والجماعات التي ينبغي أن تكون أول ما ينبغي أخذه في الاعتبار، عند سن القوانين واتخاذ القرارات والدخول في المعارك.


حدود النهج
من هنا، فإن الحديث عن حدود النهج الديمقراطي الغربي في مقاربة وتدبير أزمة كورونا حديث موضوعي علمي يستقرئ تجارب الواقع الملموس، بكل تعقيداته وإكراهاته، وفي مقدمتها محاولة التوفيق بين قدر كاف من المركزية في اتخاذ القرار السياسي الاستعجالي، وبين القدر

الضروري من حماية الحريات الفردية، وعدم إهمال رأي الهيئات والمؤسسات ذات الصلة ببعد من أبعاد الأزمة. وهو ما تمت ترجمته بنوع من التردد في اتخاذ القرارات واعتماد المنهج التدريجي في فرضها على المجتمع. هذا بينما الحديث عن "الفشل الديمقراطي" حديث أيديولوجي، لا يختلف في أي شيء عن أحاديث النهايات التي برزت في تاريخنا الحديث مثل "نهاية الأيديولوجيا"، و"نهاية السياسة"، أو "نهاية التاريخ"، في الأمس القريب.
ومما لا شك فيه أن حديث الحدود يؤسس للإبداع في مجال التعديل والإصلاح، لضمان مواكبة تطورات المجتمع، وإشباع حاجاته في مختلف المجالات، بما في ذلك تملكه لمصيره الاقتصادي والسياسي، أما حديث الفشل والنهايات فيؤسس لانقلابات جذرية، في الظاهر، بينما يكرس تصورات مسبقة يحاول تقديمها على أنها البديل الوحيد الممكن لما هو سائد وفاشل.
إن هذا المنطق في موضوعنا يعني بالملموس أن البديل عن الأسلوب التحرري الديمقراطي المنفتح، في معالجة الأزمة، هو اعتماد الأسلوب المركزي التحكمي في مختلف تفاصيله.
ومتى كانت الديكتاتورية بديلاً سوياً وطبيعياً للديمقراطية، التي تعي حدودها، وتعمل على تغذية نفسها بالمراجعات المستمرة؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.