}

الأزمات بين تمتين البناء الوطني وتدمير المناعة السياسية

حسن السوسي 26 مايو 2020
آراء الأزمات بين تمتين البناء الوطني وتدمير المناعة السياسية
لا يوجد كوكب B احتجاجاً على السياسات البيئية (Getty)
ليست كل أزمة نقمة مطلقة، في حد ذاتها، رغم ما يترافق معها من صدمة فور حدوثها. بل منها ما هو عامل إيجابي بالقوة يمكن تحويله إلى عامل إيجابي بالفعل، في تمتين البناء الوطني ولحم الروابط بين مكوناته، بعد أن اعتورها الوهن والضعف، وتسللت إليها عوامل التفكك من أكثر من شقوق وتصدعات، غالبًا ما تتولى الأزمة كشفها لكل المعنيين بتطور المجتمع وتقدمه. وهو ما ليس ممكنًا من دون توفر شروط أساسية قادرة على إحداث هذه النقلة النوعية في حياة المجتمع برمته، من خلال مواجهة الأزمة ككيان واحد وصفوف متراصة.

غير أن هذه الإمكانية قد تنعدم، جزئيًا أو كليًا، ضمن شروط وظروف محددة، فتصبح الأزمة نقمة، ما بعدها نقمة. إذ تتحول إلى عامل تدمير للمناعة الوطنية يصبح بعدها بناء السنين الطويلة وتضحيات المجتمع عبر التاريخ أثرًا بعد عين كما يقال.
إن المعضلة لا تكمن، بهذا المعنى، وبشكل مطلق، في معرفة الأزمة طريقها إلى المجتمع، لأن هذا من طبيعة الأشياء، وإنما تكمن في طبيعة تعاطي المجتمع معها التي ترتبط بمدى استعداده لمواجهتها، ومدى امتلاكه، أو قدرته، على إبداع الأساليب الناجعة في ذلك، ضمن الزمن الضروري، وبالإرادة الكافية للانتصار عليها.
وبما أن المجتمع ليس كيانًا هلاميًا، بل هو مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية، فإن دور القيادة في تشخيص طبيعة الأزمة حيوي. وغالبًا ما تتوقف نتائج المقاربة المعتمدة على هذا الدور بالذات.
وبطبيعة الحال، فإن هذا ليس وليد فراغ، وإنما يعتمد على طبيعة المسح في مجال الدراسات المختلفة للواقع الذي تتولاه مراكز البحث ذات الاختصاص، إذ هي التي تمكن صانع القرار

السياسي من المعلومات الضرورية والفرضيات الممكنة للمسارات التي تتخذها الأمور، بحيث يتمكن صانع القرار السياسي الاستراتيجي من الحصول على عدد من المعطيات الموضوعية، ويقف على المؤشرات المساعدة على رفع مستوى قدرة التوقع والاستشراف لديه، وبالتالي، تمكينه من التعرف على أهم العوامل التي كانت وراء صنع هذا الواقع الموسوم بالأزمة. ذلك أن التشخيص الدقيق لطبيعة الأزمة هو المدخل الضروري إلى معالجتها بشكل يتناسب مع تلك الطبيعة، سواء كانت الغاية من ذلك محاصرتها والحد من مضاعفاتها السلبية، أو كانت العمل على القضاء عليها، متى كان ذلك متاحًا، من حيث الإمكانيات المرصودة لها، أو من حيث قدرة المجتمع على التصدي لها.
يمكن القول، إذًا، بوجود أكثر من مستوى بخصوص الأزمات التي تعترض مسار الدول والمجتمعات: أولًا، مستوى الأزمة في حد ذاتها، ثانيًا، مستوى طرق وأساليب الاستجابة لها. فقد تكون مفردات ومعطيات الأزمة واحدة، في بعض الأحيان، غير أن طرق التعامل معها قد تكون متعددة. وهذا التعدد هو الذي يصنع، في الواقع، الفرق بين مجتمع وآخر، كما يحدد ما هو جوهري من نتائج الأزمة في نهاية المطاف.
غير أن الأمر ليس مجرد عملية تقنية، كما توحي بذلك كلمتا الأسلوب والمعالجة، بل يدخل ضمن إطار مرجعي ورؤية فكرية وسياسية تستلهم تاريخ المجتمع وتستأنس بخلاصات وتجارب الشعوب الأخرى في مواجهتها لأزماتها.
إن هذا البعد الفكري والذهني والثقافي هو الذي يضفي على الأساليب نجاعتها متى تم توظيفها بشكل سليم في مختلف مراحل التعاطي مع الأزمة. وهو ذاته ما يمنع من الاستفادة منها، ويجرد الأساليب العملية من كل نجاعة مفترضة، في الأصل، في مواجهة الأزمة قبل مضاعفاتها.
ولعل الجهد الأكبر في هذه العملية المركبة ينبغي أن ينصب على تشخيص الأزمة التشخيص الدقيق، إذ تتوقف عليه كل الخطوات اللاحقة.
ولعل أول سؤال يطرحه صانع القرار على نفسه يكون مستنبطًا من الأزمة إياها، وهو: كيف يمكن تصنيفها هل هي أزمة نمو وتطور؟ وتشكل بالتالي، منعطفًا أو ممرًا إجباريًا لتطور المجتمع من وضع إلى آخر؟ هل الأزمة جزئية، فرعية وقطاعية؟ أم إنها أزمة هيكلية شاملة؟
وبطبيعة الحال، فإن مقتضيات التعاطي مع الأزمة مرتبطة بطبيعة التشخيص الذي يقوم به

المجتمع المعني. وكل خطأ في هذا التشخيص يؤدي بالضرورة إلى الارتباك، بل وإلى تناسل الأخطاء في المعالجة.
ولأن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، وغيرها، من صميم التاريخ الوقائعي للأمم والشعوب، فإن مقارباتها، هي كذلك، تعد رصيدًا هامًا في هذا المجال. وللتجربة الملموسة في معالجة الأزمات دورها الحيوي في بلورة آليات معالجتها والتغلب عليها.
إلا أن الحديث عن التجربة، هنا، مأخوذ بمعناه العام، بحيث يشمل التجربة المباشرة، وغير المباشرة، في الواقع الراهن، كما في التاريخ القريب والبعيد. إذ يستحيل النمو والتقدم في مختلف مجالات الحياة البشرية دون الأخذ بهذا المعنى الشامل للتجربة. فهو يسمح باختصار الطريق في تصور الحلول الممكنة للأزمات التي تشترك في عدد هام من التجليات، لأنها تخرجنا من دائرة التجريبية العمياء إلى بؤرة أنوار تجارب الأمم والشعوب التي يتم الاسترشاد بها من دون أن يحمل ذلك أي نوع من الدونية، أو الانسلاخ عن الذات التي صقلتها التجارب الخاصة للمجتمع المعني، على مر العصور، وشكلت ما يميزه، أو ما يمكن اعتباره روحه الخاصة.
وبما أن الأزمة حالة استثناء، في مسار المجتمعات والدول، فإن هذا يقتضي التعامل معها وفق أسلوب لا يمكن أن يكون إلا استثنائيًا.
وبشكل عام، فإن الأزمة قد تدفع إلى توليد موجة من التضامن بين مكونات المجتمع يمكن أن ترقى إلى مستوى الإجماع الوطني في عملية مواجهتها، لكنها قد تتحول إلى نقطة الانشقاق الذي لا رجعة عنه، من حيث تكريسها لعمق الانشطار بين مكونات المجتمع، وعامل دفع نحو حسمه لفائدة هذا الاتجاه أو ذاك. وفي هذه الحالة، فإن الأمر لن يعدو إحدى الحالتين: أن تكون الغلبة لاتجاه بعينه، فيخرج منتصرًا على خصمه، ويتفرغ لصنع سرديات ما بعد الأزمة، من وجهة نظره الخاصة بالذات، حيث يقدم نفسه باعتباره المنقذ الذي دونه كانت الكارثة المحققة.
أو أن يكون هنالك توازن عام، سمته الأساسية ضعف كل الفاعلين، وعدم قدرتهم على حسم النزاعات المتولدة عن الأزمة، فيغرق المجتمع في فوضى صراع الجميع ضد الجميع، بمختلف تجلياته الأهلية والسياسية والطائفية أو العرقية. وهي الحالة التي ترصد عادة كلما كان جهاز

الدولة أضعف عن لعب الدور الحاسم بجانب ضعف القوى المضادة، هي كذلك، وعجزها عن تحقيق هذا الهدف.
فلماذا هذا التباين في مقاربة الأزمة، ولماذا هذه النتائج المتقابلة إلى حد التناقض؟
ذلك أن التوجه إلى الأزمة قصد معالجتها، يترتب عليه، ويستدعي تضافر جهود مكونات المجتمع على اعتبار أن هذا التوجه يعكس تصور الانتماء المشترك إلى القارب إياه الذي يتعرض للهزات ومخاطر الغرق جراء الأزمة التي تعصف به على هذا المستوى أو ذاك.
وهنا لا يمكن للمقاربة إلا أن تكون عامل توحيد، لأنها تعيد كل الخلافات بين مكونات المجتمع إلى الخلف ولا تعيرها أي اهتمام، على الأقل، في مرحلة المواجهة المفتوحة مع الأزمة.
غير أن المجتمع الذي يعيش مرحلة من مراحل تنازع الشرعية بين قوى سائدة، من جهة، وقوى تتطلع إلى السيادة، من جهة أخرى، قد تعتبر الأزمة فرصتها السانحة للدفع بالتناقضات بينهما إلى مرحلة القطع. وهذا يبدأ من النظر إلى الأزمة، بحيث لا يتم التركيز عليها في حد ذاتها، والعمل على مواجهتها، ككيان وطني واحد، بل يتم النظر إليها بذهنية تقوم على التوجه مباشرة إلى من يعتبره هذا الطرف أو ذاك مسؤولًا عنها، وبالتالي عليه، من وجهة نظره، دفع ثمنها. فالقوى السائدة في المجتمع هي المسؤولة بالنسبة للفئة التي تتطلع إلى السيادة، وبالتالي فإنها تضع في صدر قائمة أولوياتها السياسية والاستراتيجية الإطاحة بالقوى السائدة، ولو كان ذلك على طريق العمل على تعفين الأزمة وتعقيدها، بما يجعل من باب المستحيل على تلك القوى معالجتها. وبذلك تقدم نفسها باعتبارها البديل الممكن، أو الضروري، للتغلب على الأزمة.
وفي المقابل، فإن القوى السائدة تختار المنحى المعاكس تمامًا، فتحاول حرف الأنظار عن الأزمة للتركيز على مسؤولية القوى المنافسة، أو التي تعمل على الإطاحة بها باعتبارها قوى مارقة، فتسلط عليها الترسانة القانونية القمعية الجاهزة لمثل هذه الأوضاع، أو تعمل على سن قوانين وتشريعات أخرى على المقاس، بدعوى الوضعية الاستثنائية التي يعيشها المجتمع.
ولا يخفى أن هذا يضعف من قدرات القوى السائدة على مجابهة الأزمة، كما يضعف من قدرات القوى المتطلعة إلى تبوؤ موقع السيادة في حسم الصراع لصالحها.
ما لم تتدخل قوى ثالثة لحسم الموقف، بهذا الاتجاه، أو ذاك، وقد يكون هذا الطرف قوى منظمة تابعة للدولة، كالجيش الذي قد يظل على وفائه للقوى السائدة، فيتحرك لقمع كل توجه يريد تغيير الواقع، كما قد يقرر الانحياز للقوى المناهضة لشرعية النظام القائم، فيتخلى عن دوره التقليدي في المحافظة على الوضع دعمًا للقوى الجديدة، في بعض الحالات، أو استيلاءً على السلطة في حالات أخرى، كما دلت على ذلك تجارب مصر والسودان.
وقد يكون الطرف الثالث قوى دولية تعمل على ترجيح كفة هذا الاتجاه، أو ذاك، عبر التدخل العسكري المباشر، كما هي الحال في تجربة ليبيا وسورية، الأولى، لإسقاط النظام القائم، والثانية لمنع إسقاطه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.