}

إشبيلية تبكي المستعرب فالنسيا.. باحث العروبة الإسبانية

ميسون شقير 18 يونيو 2020
هنا/الآن إشبيلية تبكي المستعرب فالنسيا.. باحث العروبة الإسبانية
المستعرب رافاييل إنريكي فالنسيا (1952ـ2020)

"إشبيلية وتاريخها في حالة حداد عميقة على رحيل مؤرخها ومستعربها وعاشقها المستعرب رافاييل إنريكي فالنسيا"- هذا ما عنونته صحيفة "الدياريو" الإسبانية وصحيفة "الموندو" أيضا قبل أيام.
هو حداد عميق على رحيل من حاول إعطاء المدينة وتاريخها ضوءا جديدا، ولونا من الأزرق الذي يعني وصول هذه المدينة بتاريخها، وخصوصيتها، وفلاسفتها، إلى السماء، وإلى البحر.
إنه المستعرب والفيلسوف رافاييل إنريكي فالنسيا، الذي شغل منصب رئيس أكاديمية إشبيلية للآداب لمدة ثماني سنوات، كان فيها يحمل حقيبته على ظهره كطالب بسيط، دون أن يصيبه أي غرور بسبب منصبه الهام هذا، ودون أن ينفد منه الشغف بالبحث، وبالتعليم، وبالتنقل بين ما كان يسميها "المدن الأوروبية الأكثر عروبة"، في إشارة إلى إشبيلية وغرناطة، والمدن العربية الأكثر أوروبية في أشارة منه إلى طنجة والرباط وسوسة.
وهو أيضا المستعرب، والمترجم، الذي كان أستاذا محاضرا في جامعة مدينة إشبيلية، ورئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية فيها، والذي كان أيضا أستاذا محاضرا في جامعة الرباط، وجامعة بغداد، وجامعة داكار، والذي أنشأ في هذه الجامعات ماجيسترات حول تاريخ الحضارة الأندلسية، وحول تميز هذه الحضارة التي كانت بالنسبة له "الأم الحقيقية لكل حضارة العالم الحديث".
وهو صغير جدًا، في سن 27، أصبح المستعرب فالنسيا عام 1979 مديرا للمعهد العربي الإسباني للثقافة في بغداد سابقا، والذي عاد وحمل اسم "معهد سرفانتس"، خلفا لمعلمه الأول، المستعرب إميليو غارثيا غوميث، المولود في غرناطة من جيل 27، والذي كان جعل القرن الحادي عشر يعود ويظهر للمرة الأولى في تاريخ إسبانيا الحديث، ولكن بطريقة مختلفة كليا عن الشكل الذي كان يقدم فيه مسبقا.
عاش فالنسيا بداية الحرب العراقية الإيرانية لأنه كان حينها محاضرا في جامعة بغداد ورئيسا لمعهد سرفانتس فيها، وقد وقف ضد هذه الحرب، مثلما وقف لاحقا ضد حصار بغداد، وضد الحرب الأميركية عليها.
جعلته الحرب الإيرانية العراقية يترك بغداد التي عشقها مثلما عشقته، والتي تسكن اللوحة المعلقة في مكتبه في الجامعة، وعاد إلى إسبانيا ليعمل أستاذا في جامعة إشبيلية منذ عام 1985، وذلك كي يكون وفيا لمعلميه الرائعين، المستعرب غارثيا غوميث، والمستعرب الحي بيدرو مارتينيث مونتابيث، اللذين ناضلا من أجل استعادة الحقيقة التاريخية للحضارة العربية في إسبانيا، ومن أجل تقديم صورة مغايرة عن الصورة السوداء التي تريد الاستعماريات العالمية، والإمبريالية الجديدة، تقديمها عن الحضارة العربية بشكل عام، مثلما ناضل هؤلاء المستعربون الثلاثة من أجل عدالة القضية الفلسطينية، وضد عنصرية المشروع الصهيوني.
حين حصل فالنسيا على شهادة البكالوريا أراد أولا دراسة الهندسة المعمارية، وقد درسها فعلا لمدة ثلاث سنوات، لكنه أثناء ذلك بدأ ينبهر بالآداب العربية التي راح يقرأها من خلال أصدقاء له في الجامعة، فترك الهندسة المعمارية، واتجه لدراسة الأدب العربي في جامعة برشلونة التي حصل منها على شهادة جامعية في الأدب العربي، وبتقدير ممتاز.

 رافاييل إنريكي فالنسيا 


















عشق فالنسيا للآداب العربية جعله يقرر التعمق في الأدب العربي، ويحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة والأدب من جامعة "كومبلوتنسي" العريقة في مدريد، عن أطروحة قدمها حول فلسفة الأندلسي ابن رشد وتأثيرها على شكل التفكير في العالم بعدها، كما جعله يحصل على دكتوراه ثانية من جامعة إشبيلية، وقد كانت أطروحته الثانية عن البيئة المادية والبشرية لإشبيلية العربية.
ولأجل هذا الشغف، أمضى فالنسيا حياته القصيرة في محور ضوء الأندلس، ومحور ظل إبن رشد على العالم، لذا فقد شارك هذا المؤرخ، المعتَرف به كثيرا في مدينة إشبيلية، بسبب غوصه في كل حجر فيها، في عام 2018، في دورة المؤتمرات التي أقيمت حول معبد قرطبة، وكان "ابن رشد كمثال" هو محور الحديث الذي قدمه في جامعة إشبيلية للدراسات العربية والإسلامية، في المدينة التي عاش أغلب حياته فيها، ومات فيها، على الرغم من أنه من مواليد إقليم إكستريمادورا البعيد جدا عنها.
وفي إحدى الصحف الأسبانية التي تناولت رحيل فالنسيا، أشارت غلوريا لورا، أستاذة تاريخ العصور الوسطى ومنسقة دورة معبد قرطبة، إلى أنه كان "واحدا من الأشخاص القلائل الذين عرفوا ابن رشد بشكل حقيقي"، وليس ذلك فحسب: "فلقد كان مميزا جدا في طريقته للنظر إلى الوجود، وفي طريقة تفكيره وحياته، بعد أن قرأ إبن رشد كثيرا، وفهمه كثيرا"، وبعد أن كان الأمين العام لمعرض إبن رشد الذي كان قد أقيم في كل من قرطبة، وإشبيلية، والرباط، وباريس، والذي أظهر أهمية التراث الثقافي والفلسفي لهذا المؤلف الذي غير وجه الفلسفة في العالم.
وبالحديث عن مسقط رأسه، وهو والد لابن وحيد، وجد لحفيد وحيد، فقد ولد رافاييل إنريكي فالنسيا في "بيرلانغا"، منطقة في (باداخوث) في أقليم اكستريمادورا، عام 1952، وكان يعشق إسم بيرلانغا، لأنه نفس اسم المفكر الذي كان معجبًا به كثيرًا، لأنه كان يعشق "تلك العروبة التي أخرجها الكاثوليك عنوة من المغاربة والمسيحيين"، والذي كان مدافعا عن الظلم الذي تعرض له المورسكيون، وعن حجم الخسارة التي خسرتها إسبانيا حين أنهت الملكة إلزابيث والملك فرناندو أجمل مرحلة فنية وفكرية تمر بها.

 "ناضل هؤلاء المستعربون الثلاثة: غارثيا غوميث، بيدرو مارتينيث مونتابيث، ورافاييل إنريكي فالنسيا من أجل عدالة القضية الفلسطينية، وضد عنصرية المشروع الصهيوني"

ومن جهة مغايرة، فقد فرض الوسط الأكاديمي على فالنسيا، وجود مانويل غونزاليث خيمينيث، الكاتب الذي كتب سيرة الملكين الإسبانيين اللذين كانا قد روجا للانتقال من العربية إلى المسيحية في إشبيلية، لذا فقد رد فالنسيا بحدة على خطاب خيمينيث، معتبرا أن حي "باسكوال دي غايانغوث" الذي عاشا فيه معا هو والد ما أسماه فالنسيا بـ"العروبة الإسبانية".
الآن خلَفت الأميركية إنريكيتا فيلا صديقها فالنسيا في رئاسة الأكاديمية، وهي التي كانت تشاركه فكرة أنه من إشبيلية الأميركية إلى إشبيلية العربية ملفان شخصيان بدونهما لا يمكن فهم تاريخ هذه المدينة، ولا اكتشاف الشرف الذي تحمله  إشبيلية، المدينة التي من خلالها، ومن خلالها فقط، عبرت قارتان إلى بعضهما البعض، حيث شكلت المدينة بينهما حلقة سحرته، وذلك عندما اجتمعت الملكة الكاثوليكية إيزابيل في عام 1492 في غرناطة، التابعة لإشبيلية، مع كريستوفر كولومبوس، الذي حمل معه حضارة الأندلس ومعارفها إلى العالم الجديد، أميركا، مدعيا أنها معارف إسبانيا، ومتجاهلا عروبة هذه الحضارة، ومستعمرا لسكان القارة الأصليين.
وذكرت فيلا أن فالنسيا جعل، طيلة فترة ترأسه لأكاديمية إشبيلية للآداب، هذه الأكاديمية التي عمرها ثلاثة مئة عام الأكاديمية الجيدة العريقة، وجعل أبوابها مفتوحة دائمًا لاهتمامات المدينة، وأنه في العام الماضي، كان قد ترأس الفعاليات التي نظمتها هذه المؤسسة في الذكرى المئوية الخامسة لبدء الجولة الأولى من رحلة كولومبوس، الرحلة العالمية التي نقلت إشبيليا إلى أميركا، والفعاليات التي نظمتها الأكاديمية أيضاً في الذكرى الخمسين لوفاة خواكين روميرو موروبي، أمين الكازار، أو القصر العربي، أي قصر ابن عباد في إشبيلية.
في يوم الجمعة 12 حزيران/يونيو 2020، رحل المستعرب رافاييل أنريكي فالنسيا عن عمر يناهز 68 عاما، حيث أكدت مصادر من مؤسسة إشبيلية أنه كان يعمل يوم الجمعة في الأكاديمية، في حي كالي آبادث في إشبيلية، مع السكرتير الأول أنطونيو كولانتيس دي تيران سانشيث، وأن كليهما تداولا بفكرة الذهاب لتناول مشروب معًا، وهناك شعر فالنسيا بالدوار، ثم نقل إلى المستشفى، حيث توفي بعد بضع دقائق، نتيجة نوبة قلبية صاعقة.
هكذا سقط ظله عن قامته، سقط الذي "عمل كثيرا لأجل الآخرين" كما عنونت مقالها جريدة "الموندو"، تاركا عددا كبيرا من الأصدقاء والزملاء مفجوعين برحيله، وتاركا مجموعة كبيرة من تلامذته المتأثرين جدا بطريقة تفكيره، والذين لا شك أنهم سيكملون ظله على هذه الأرض.


* رابط المقال بالإسبانية:

https://www.eldiario.es/andalucia/Fallece-Valencia-Academia-Sevillana-US_0_1037646447.html

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.