}

أدب السجون.. نزهة قسريّة خارج الحياة

ضفة ثالثة ـ خاص 12 سبتمبر 2020
هنا/الآن أدب السجون.. نزهة قسريّة خارج الحياة
لوحة للتشكيلي عمر البدور مهداة للأسرى والمعتقلين بالسجون الصهيونية

كان للكتاب والمثقفين نصيب كبير من قمع الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، حيثُ عانوا من التضييق على الحريات والاعتقال المباشر على مرّ السنوات، وهو ما دفع الكثير من الكتاب الذين خاضوا تلك التجربة المريرة إلى تدوينها في صيغة عمل أدبي، سواء عبر مقالاتهم، أو في كتب يوميّات، أو أعمال روائيّة وقصصيّة، ما مهّد لظاهرة "أدب السجون".
في هذا الملف الخاص نستضيف مجموعة من الكتاب من دول عربيّة، جلّهم ممن خبروا ظروف الاعتقال في الزنازين لسنوات، ونستمع إلى وجهة نظرهم حيال هذه الظاهرة التي باتتْ جليّة وبدأتْ منذ سنوات تأخذ مساحة في عالم الكتابة.
وقد طرحنا عليهم السؤال التالي: كيف تنظر إلى ظاهرة "أدب السجون"، وهل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة الأدبية المرجوة؟
هنا الجزء الثالث والأخير.
                                                                                                                                                               (عماد الدين موسى)

 "غرفة التحقيق"- سليمان منصور 












 

علي المقري (روائي يمني - فرنسا):
أدب شبيه بأقبية السجون

السجن في الأدب العربي له مكانة متميزة وهو يتنوع ما بين اليوميات والمذكرات والروايات والقصص والشعر لكن ما يربط بينهما جميعًا هو الجانب الذي تتناوله هذه النصوص والذي يقتصر على إشكالية السجن كعقاب من قبل السلطات السياسية للمسجون بسب معارضته السياسية أو نقده لنظام الُحكم، وبالتالي تدور الأحداث حول هذه الإشكالية وكيفية تعامل السلطات مع المسجونين منذ مراقبتهم وإصدار القوانين المقيدة لحريتهم إلى القبض عليهم وتعذيبهم في السجون.
ما ألاحظه هنا أن أفق أدب السجون ما زال ضيقًا بل ومعتمًا كأقبية السجون العربية، فهو يعكس هذا الواقع العربي بكل تفاصيله، فيما نجد الكتابات المتعلقة بالسجن قد تحولت كثيرًا في معظم البلدان وصارت تتناول السجن من حيث هو مؤسسة للإصلاح وليس للعقاب، ولهذا نجد المسجونين لديهم إشكاليات أخرى تتعلق بقضايا الجريمة أو الاغتصاب أو الفساد المالي والإداري وأحيانًا الإرهاب، وهم بذلك يعرفون مصائرهم وسنوات حكمهم تبعًا للقوانين، فيما السجين العربي ما زال مصيره عند رب السلطة وهو وحده الذي يستطيع أن يعمل به ما يريد، يميته أو يتركه لحياة شبيهة بالعذاب.

  علي المقري: أفق أدب السجون ما زال ضيقًا 

















سوسن جميل حسن (كاتبة من سورية):
الكتابة عن تجربة النساء

إن كان داعش قد دمّر سجن تدمر، فإن الأدب وثّق حتى رائحة جدرانه المضمخة بدماء الذين مرّوا من هناك، وغادروا إما إلى حتفهم أو إلى حياة أخرى حملت ذاكرة السجن كوشم على أرواحهم. لعلّ أشهرها رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة.
صدرت أعمال روائية كثيرة في الخمسين سنة الأخيرة أو أكثر تحكي عن السجن، إن كان من قلب معاناة عاشها الكاتب خلال اعتقاله، أو بوحي تجربة أو شهادة لغيره، وهناك روايات كان السجن أحد شواغلها لكن كاتبها لم يدخل السجن وإنما رسم سجنًا متخيّلًا. والمنتج الثقافي، والأدبي منه تحديدًا، لا يحتمل السقوف، فالمجال مفتوح أمام تجارب كثيرة ومنوّعة، طالما أن الظروف في منطقتنا العربية ما زالت تتناسخ عن بعضها البعض، وما زالت الأنظمة القمعية أيضًا تتبارى فيما بينها في قمع المنتقدين لسياستها وكم الأفواه، وكل تجربة هي فريدة بالرغم من تشابه الظروف وتوفر الشروط ذاتها، والروايات التي كتبت أو يمكن أن تكتب أمامها مجال مفتوح، فتجربة السجن تحيل إلى السياسة وعلم الاجتماع وعلم التحليل النفسي والطب النفسي والجريمة والاقتصاد والعمران والدين والفلسفة وغيرها الكثير مما توفر له الرواية فسحة من العلوم والفنون، ويمكن اعتبار رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف القائمة على اللا تعيين نموذجًا يمكن إسقاطه على كل البلدان ذات الأنظمة القمعية في منطقتنا.
لكن جلّ ما كتب هو منتج ذكوري، فمساهمات المرأة في هذا المجال ما زالت محدودة، بالرغم من تعرّضها للاعتقال، خاصة بعد ما سمي بالربيع العربي، وما قبله أيضًا. ليس السجن هو الاعتقال في قفص رمزي أو واقعي، والعزلة مع تعذيب السجين بكل الأدوات وابتكارات العنف والوحشية فقط، بل السجن أيضًا هو اعتقال إرادة الإنسان والتهديد الدائم لوجوده، ومن هذا الباب يمكن اعتبار شهرزاد المعتقلة الأشهر، وطريقة مواجهة سجنها وتهديد وجودها الدائم كانت عبارة عن مداورة الواقع ومحاولة الهروب الدائم من قتلها عن طريق القصّ، تسخير مخيّلتها إلى أبعد الحدود كي تأمن شرّ سجّانها صاحب السطوة والقوة. وهي إن كانت تبدأ الرواية بعبارة "يحكى أن" أو "والله أعلم" فإنها أيضًا محاولة ذكية للتملّص من حمولة الحكاية المعرفية والفلسفية والقيمية درءًا لانتقام الملك الشرّير، لذلك كانت تكرّر أيضًا "بلغني" خوفًا من مواجهة موتها في حال لم تعجب الحكاية الملك.
من هذا الباب يطرح سؤال نفسه: ترى هل يمكن للسجينات، خاصة بعدما صارت معروفة لدى الجميع أساليب التعذيب الممارس بحقهن، أن يسردن تجاربهن بشفافية وأمانة، أم أن خروجهن من السجن ودخولهن سجنًا أوسع هو سجن المجتمع والقيم والأعراف ومفهوم الأخلاق وما يلقى على عاتق المرأة من حمولة ويقيدّها ويصادر إرادتها ويحاصرها، سوف يجعل سرد تجاربهن يفتقر إلى العمق والشفافية؟ هل سيبقى الكثير من المسكوت عنه حبيس ذاكرتهن بالرغم من أهميته؟ وهل سيلجم هذا القيد العملية الإبداعية فتخرج نصوص تفتقر إلى القيمة الفنية؟
هناك محاولات عديدة لتدوين تجارب السجن لدى النساء، والمقصود هنا بالطبع الاعتقال السياسي، منها مثلًا كتاب "السجينة" لمليكة أوفقير الذي سردت فيه قصة سجنها وعائلتها في المغرب، لكن اللافت أيضًا أنها تابعت بكتاب آخر هو "الغريبة"، الذي تحكي فيه عن حياتها ما بعد السجن وكم استغرقت من نضال وكافحت حتى استطاعت أن تتصالح مع الحياة، فتجربة السجن لا تنتهي بالخروج منه، بل ربما تبدأ معاناة أكبر بعدها، لأن زمن السجين في معتقله مختلف. تقول حسيبة عبد الرحمن، المعتقلة السورية السابقة، صاحبة رواية "الشرنقة": هناك زمن موضوعي لمن هو خارج السجن، وزمن ذاتي شخصي لمن هو داخل السجن ويمكن إدراك هذا التناقض عند الإفراج عن السجين والخروج من السجن.
الكتابة عن تجربة النساء في السجون ما زالت ناقصة وفيها الكثير من الزوايا التي يجب إضاءتها، فممارسة القمع هنا مضاعف، قمع نظام استبدادي، وقمع سلطة ذكورية، وقمع سلطان اجتماعي وما تلاقيه المعتقلة من رفض المجتمع لها ولتجربتها المريرة، ولقد لاقت رواية "الشرنقة" انتقادات بسبب ما أطلقوا عليه "نشر الغسيل الوسخ"، لكن كاتبتها وصاحبة التجربة قالت: عندما يكتب عن السجن، يكتب عن الجانب المضيء، مع أن ما ليس مضيئًا هو من حقائقنا، وأنها كانت مهتمة بالتفاصيل وأكثر الحالات النفسية سوءًا، وتحرص على الصراحة بأن السجين هو ضد كل شيء، ضد نفسه وضد الآخرين.
يمكن القول بأن أدب السجون سيبقى غير ناضج ما لم ترفده أقلام سجينات بكل جرأة وشفافية، وهذا ركن أساسي من نضالهنّ في سبيل تحطيم الصورة النمطية التي تعتقل المرأة في المجتمع، وتفتيت الثقافة الامتثالية التي تمكّن الجلاّد من التحكم بإرادتها ومصيرها.

 سوسن جميل حسن: نحتاج لأقلام سجينات بكل جرأة وشفافية


















محمد ميلود غرافي (كاتب من المغرب):
الأدب العربي "أدب سجون"

إذا تأملنا الأدب العربي، الروائي منه خاصة، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يمكن أن نعتبره كله أدب سجون بالمعنى الواسع للكلمة. يعود ذلك إلى ارتباط هذا الأدب ارتباطا وثيقا وصلبا بواقع البؤس والعذاب واليأس والحزن والدمار النفسي والجسدي الذي صار ملازما للمجتمعات العربية إلى درجة يبدو معها العالم العربي بكل توسعه الجغرافي سجنا ضيقا. هكذا تبدو موضوعات التهميش وسلطة الرجل على المرأة وتسلط الأنظمة الحاكمة على شعوبها والرغبة في الخلاص والهجرة والمنفى كلها موضوعات أشبه بواقع السجن بمعناه الحقيقي. إن أدب السجون بمعناه الاصطلاحي المتداول في الأدب العربي هو تقريبا صورة مصغرة لهذا السجن الكبير الذي تعيش فيه أغلبية الشعوب العربية تجارب مريرة. وإذا كان هذا الأدب في العالم العربي ما زال يسجل حضوره أكثر من غيره من الآداب العالمية في مطلع القرن الحادي والعشرين، فإنه يدل على أن السجن الكبير ما زال قائما حولنا.
السؤال المطروح: هل استطاع الكاتب العربي أن يقدم هذا العالم المؤلم بالصورة الأدبية المرجوة؟  يضعنا أمام إشكالية الأدب والواقع. يبدو لي أن هذا الأدب لا يخرج عن الخاصية التي تحكم الرواية العربية منذ نشأتها. فالرواية العربية ما تزال مشروطة بتاريخيتها، أي مرتبطة بمعالجة قضايا أساسية ومشتركة في العالم العربي: سياسية واجتماعية خاصة. ولذلك، حين يتعلق الأمر بنصوص تتناول موضوع الاعتقال السياسي والسجون، يكون أفق انتظار المتلقي محكوما بداهةً بقراءة هذه النصوص كسِيَر ذاتية. أعتقد أن مهمة الأديب الناجح هو أن يضمن للنص أدبيته وجماليته عبر تحريره من التقريرية والواقعية الفجة وانتشاله من جنس الشهادة في صيغتها الوصفية وأسلوبها الجاف.
قرأت خلال الحجر الصحي مؤخرا رواية "قالت أمي للسجان" للمبدع المغربي المقيم بفرنسا يوسف الطاهري فشدني إليها خاصة بناؤها الحكائي الذي تحكمه الانشطارية من جهة والوقوف عند مسألة التعذيب الجسدي كبؤرة سردية تتفرع عنها باقي العناصر الحكائية. إن الذين يعرفون الناشط الحقوقي والسياسي المغربي يوسف الطاهري الذي تعرض للاعتقال خلال انتفاضة يناير 1984 سيقول إنها سيرة ذاتية.. والذين لا يعرفونه سيقولون إن كل أحداث الرواية نابعة دون شك من تجربة شخصية مريرة عاشها الكاتب، لأن الوصف الدقيق لفضاء السجن والزنازين والحياة اليومية للمعتقلين تنم عن تجربة عاشها الكاتب.. لكن الكاتب الذي منعه الاعتقال من الالتحاق بالجامعة سيتشبع بقراءة الأدب من داخل السجن وخارجه في ما بعد واستطاع بمهارة أدبية فائقة أن يكتب عن تجربة الاعتقال وهو حريص على تحرير نصه من إكراهات جنس السيرة الذاتية كما تم تقعيده في النقد المعاصر ويجعل منه نصا أدبيا يصير فيه الواقعي خياليا والخيال واقعيا والفرد جماعات. إنه الأدب ـ الشهادة الذي يندد ويدين ويبكي ويضحك ويربط الفضاء الداخلي للسجن بالفضاء الخارجي والحاضر بالماضي (الطفولة، الأمومة، الانخراط في العمل السياسي) وبما سيأتي (المنفى الفرنسي) فجاء النص انشطاريا في بنيته الحكائية وفي مشاعر البطل كأن عنف التجربة ومشاهدها المرعبة لا تسعفها اللغة... أية لغة.

  محمد ميلود غرافي : السجن الكبير ما زال قائما حولنا


















راتب شعبو (كاتب من سورية):
هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الخوف؟

هناك كتاب تناولوا السجن من خارجه، كتبوا عن تجربة لم يخوضوها، كتبوا تجربة غيرهم، وربما أجادوا في كتابتهم، لكن هذا هو ما يمكن أن نسميه أدب "عن السجن"، أما أدب السجون فهو ما كتبه السجناء أنفسهم، هو السير الذاتية لهم، أو تأملات صاحب التجربة بهذا المعبر الرهيب الذي وجد نفسه فيه وعاشه بلحمه ودمه ومشاعره.
يمكن تقسيم "أدب السجون" في سورية إلى نوعين، الأول يغلب عليه الهم السياسي وينشغل في مهمة التحصيل المباشر والانفعالي لأكبر قدر من الإدانة للنظام الذي يرعى جريمة السجون ويغذيها بالمجرمين، والثاني يحكمه أكثر الهم الإنساني وينشغل في رصد المحنة وآثارها على البشر.
لذلك ترى النوع الأول يميل إلى المبالغات والتركيز على ما يحرض القارئ ويستفز تعاطفه، فيما لا يعبأ النوع الثاني سوى بالإجابة على أسئلة أولية مثل، كيف يتأقلم الإنسان مع شروط عزله وتجويعه وإرهابه؟ هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الخوف؟ ما انعكاس هذه الشروط القاسية على تكوينه النفسي والعقلي؟ على تصوراته السياسية ومواقفه؟ هل يمكن أن يضحك السجين؟ ما هو موقفه من العالم الخارجي المتدفق في الخارج غير مكترث بما هم في السجون؟
للنوع الأول جماهيرية تفوق بكثير جماهيرية النوع الثاني، لأنه أسهل وأكثر غرائبية، أو لنقل لأنه مسل، لكنه لا يقدم، في كثير من الجوانب، صورة أمينة، دع عنك الصورة الأدبية.
والحق أن ميل السجين للمبالغة في وصف تعذيبات السجن الغريبة، هو تعبير عن بؤس شديد تعانيه ثقافتنا العامة فيحتاج السجين إلى مثل هذه الروايات لشد انتباه ثقافة عامة اعتادت على السجن وباتت تقبله ولم يعد يبهظها سوى القصص الغريبة فيه، فيضطر السجين إلى الاستنجاد بحوادث "صادمة" أو إلى المبالغة فيها أو حتى إلى ابتكارها كي يثير الاهتمام ويحظى بتعاطف.
السجن موضوع لا يمكن استنفاده بالكتابة، سجون ما قبل الثورة ليست كالسجون بعدها، مهما كتب عن السجن سوف يبقى موضوعًا للكتابة. والكتابة الأدبية الأكثر أهمية وفائدة عن تجربة السجن هي الكتابة الحريصة على الصدق والعميقة في إنسانيتها.

 راتب شعبو: سجون ما قبل الثورة ليست كالسجون بعدها







 

طارق إمام (كاتب من مصر):
الحاجة إلى مناخ حرّ

تحتاج الكتابة عن أدب السجون إلى مناخٍ حر. ربما تبدو العبارة منطوية على تناقض فادح، غير أن هذا هو الواقع كما أراه، فكيف لك أن تدوّن تجربة السجن ثم تنشرها في ظل مناخ قمعي أدخلك السجن أساسًا لأنك تكتب؟ إنك تضطر، في سياقات قمعية تتحكم في الخارطة العربية، أن تكتب نصك في الظلام بدلًا من أن تصرخ به، إما أن توزعه كمنشور سري، أو أن تنشره في مطابع بلدان أخرى، ما يُفقد التجربة الهدف الذي نهضت لأجله، وهو الكشف والفضح والتعرية أمام أبناء السياق نفسه والمعنيين به.
من المدهش أنك لو سألت أي كاتب مصري عن أدب السجون فلن تتجاوز ذاكرته المرحلة الستينية، ليقفز اسم صنع الله إبراهيم بالأساس، ومن بعده أسماء أخرى أشد خفوتًا. هل انتهى أدب السجن مع انقضاء الستينيات والسبعينيات؟ وهنا يطرأ السؤال اللصيق، هل تعيش مصر منذ أربعين عامًا مناخ حرية تعبير لم يعد فيه الكاتب يُسجن أو يُعتقل أو يختفي قسريًا ومن ثم فقد هذا النوع من الأدب مبرر وجوده؟ الإجابة بالطبع هي لا. لكن هناك الرغبة في تجاوز الآباء من ناحية، والقدرات المتزايدة للسلطة على ضم الأدباء لـ"الحظيرة" من ناحية أخرى، فضلًا عن دعاوى التفات الأدب للقضايا الصغيرة والهامشية والتي سادت لفترة ليست بالقليلة وكأن إنسان مصر أصبح إنسان أوروبا الذي سقطت حكاياته الكبرى ولم يعد يتبقى له سوى تفاصيل غرفته. كل هذه العناصر وغيرها تضافرت ليصبح ما نسميه "أدب السجون" ظاهرةً تبخرت أو كادت في الأدب فيما تواصل السجون استقبال أصحاب الكلمة بنفس وتيرتها، إن لم تكن تلك الوتيرة تصاعدت.
الكاتب العربي هو الأجدر بالالتفات لزنزانته، التي تُرجّع دون شك سؤال "الديكتاتور"، حيث لا يعقل أن يكون الديكتاتور هو على وجه التقريب أكثر شخصية تحيا هذه الخارطة، فيما نستعير ديكتاتور أميركا اللاتينية عندما نحب أن نقاربه في الأدب.

 طارق إمام: الكاتب العربي هو الأجدر بالالتفات لزنزانته


















د. دعاء إمبابي (كاتبة من مصر):
قطرات ندى لم يُذبها لهيب العذاب

الكتابة عن تجربة السجن سواء أكانت حقيقية أم متخيلة تبعث في نفس القارئ رهبة وتستدعي عنده شعورا بالخوف والشفقة؛ ولكنها لا تنتهي بالتطهر الأرسطي الذي كانت تحققه الكتابات التراجيدية الكلاسيكية – لأننا في هذه الكتابات نقرأ عن تجربة إنسان عادي يشبهنا ونشبهه ولكن زلته الأساسية أنه خالف السلطة الحاكمة وقوانينها بل ربما لم يتجاوز الأمر تعبيره عن معارضته لها – لذا فهي غالبا تنتهي بتساؤلات وربما بقدر من الغضب ما دام القمع مستمرا. ونحن هنا لسنا بصدد تقييم الجرم من الناحية القانونية، لأننا نتكلم عن مجال الأدب ومدى نجاحه في حمل هذه التجربة الشائكة بين دفتي كتاب. فما المشهد الذي نحن بصدده؟ كتابات إبداعية وسير ذاتية يسطرها في الغالب من يُعرفون باسم ’سجناء الرأي‘، وهم ينتمون إلى جميع الأطياف السياسية يمينا ويسارا ووسطا، وتتباين مستويات نشاطهم في مناهضة السلطة الحاكمة من الانتماء إلى أحزاب معارِضة مرورا بمشاركتهم في مظاهرات واحتجاجات ووصولا إلى استخدام العنف في بعض الأحيان ضد شخصية متجبرة أو ظالمة. وكانت الفئتان الأبرز في هذه التجربة هما فئة الإسلاميين وفئة اليساريين بمختلف أطيافهما الداخلية.
وعلى الرغم من أن كتابات السجون لا تشكل جنسا أدبيا في حد ذاتها، حيث تأتي إما على صورة سير ذاتية أو أعمال إبداعية عن التجربة، وبعض الأعمال الشعرية – على قلتها، فإنها تتميز عن سائر الكتابات داخل الجنس الواحد بالتجربة التي تنقلها والوظيفة التي تؤديها – إن جاز التعبير – بأنها تنقل صوت المقهور، فتتبدل الأدوار ويصبح السجّان موضوع الحكاية، باسم أو بلا اسم، بل وبلا وجه في بعض الأحيان. ويصبح المقهور هو الراوي والقابض على زمام الأحداث وسردها من "منظوره". إنها رواية أخرى تناظر سردية السلطة وخطابها عن ’انحراف‘ أولئك المساجين الذي أودى بمستقبلهم واستحقوا بسببه أن تسومهم السلطة سائر ألوان العذاب.
وعالمنا العربي يزخر بهذه الكتابات التي يمكن تصنيفها من زوايا عدة مثل كون الكتاب هو الكتاب الأول والأخير لمؤلفه؛ أو انتماء الكاتب السياسي (فمن أغزر ما صدر في هذا الموضوع كتابات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات في مصر بيد الكتاب الشيوعيين واليساريين وما صدر من كتابات في المغرب في مطلع القرن الحادي والعشرين عقب انقضاء ثلاثة عقود تعرف باسم "سنوات الرصاص" – على سبيل المثال لا الحصر)؛ أو شكل الكتابة الذي يشمل العمل الإبداعي والسيرة الذاتية وصنفا جديدا من الكتابة وهو الرسائل المبعوثة بخط اليد من السجن وتتسم بشهادة صاحبها على معاناته الشخصية أو حتى تعذيبه هو وزملائه مثل الرسائل التي تتداولها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر (مثل رسائل عمر حاذق من سجن الحضرة في مصر)؛ أو جنس الكاتب: رجل أم امرأة فليس كل من مر بتجربة السجن السياسي رجل، بل من أشهر من كتبن عن تجربة السجن لطيفة الزيات (اليسارية) وزينب الغزالي (الإسلامية)، ونساء عائلة الجنرال أوفقير من المغرب.
ودائما تتناول هذه الكتابات ثنائية العقل والجسد وحرب الإنسان للحفاظ على ما يمكنه منهما وسلامتهما. يخرج السجين وقد ترك المكان آثاره على روحه وجسده بلا شك فتظل الندبات شاهدة مدى الحياة على ما تحمله صاحبها ولكنها أيضا شاهدة على نجاته وتساميه على جلاديه. يسطر السجين تجربته الأليمة ولكنه يرويها ليستدعي قدرته على المقاومة التي لم يكن يتخيل أنه يملكها فتبعث فيه قوة يبثها فيمن يقرأ عمله، فيتبدل الشعور بالخوف الذي يثيره النص المأساوي في نفس القارئ بشعور بالثبات والقوة في وجه البطش والظلم.

 

غسان الجباعي (مخرج مسرحي وكاتب درامي من سورية):
أحرف وإشارات نابعة من قلب القلب

إن أبلغ الأحرف وأصدقها، تلك التي حُفرت على عجل، بمسمار صدئ، فوق جدران الزنازين وأبوابها، أو تلك التي اضطر صاحبها لكتابتها بدمه النازف من جروح حفرتها سياط الجلادين على ظهره وقدميه... اسم وتاريخ.. أمنية أو حكمة أو مقولة مختصرة وحسب.. أحرف وإشارات قليلة نابعة من قلب القلب.. هي ليست أدبًا، لكنها في الجوهر، بذرة الكلام وجذره وأوراقه، إنها مختصرة إلى أبعد حد، صادقة جدًا، وواضحة كالنار في الليل... يفعل المعتقل ذلك، لأنه يجد نفسه في مواجهة الموت أو المجهول.. في مواجهة التهميش والقتل البدني والمعنوي.. فالداخل إلى المعتقلات السورية مفقود، والخارج منها مولود، كما يقول المثل السوري، وهو في الواقع مختطف وليس معتقل، وهذا مصير كل من يعارض النظام أو ينتقده أو يقول له لا..
إنهم يحولونك منذ اللحظة الأولى إلى رقم مجرد، فيصبح اسمك ليس فلان الفلاني، بل الرقم كذا.. وهذا يعني أنك أصبحت في مهب الريح، وتحولت إلى شيء لا قيمة له، فتتولد لديك طاقة جبارة للتحدي، ولإثبات وجودك وهويتك، ما يدفعك للبحث عن أي آلة حادة، وإن لم تجدها حفرت بأظافرك، وإن لم تستطع، غمست إصبعك بدمك وكتبت اسمك وتاريخ وجودك في هذه الزنزانة القذرة.
إنها واحدة من أهم دوافع الكتابة، كما أظن (التحدي، إثبات الذات التعبير عنها).
فيما بعد، يتأصل هذا الدافع ويصبح موازيًا لدافع الأكل والحب والحياة... تصبح الكتابة ممارسةً افتراضية للحرية، لا يمكن العيش بمعزل عنها. لكن كيف تكتب وأنت لا تمتلك أدوات الكتابة؟ أنا واحد من مئات الكتاب الذين اخترعوا أدواتٍ للكتابة داخل معتقل محروم من أبسط الحقوق، بما في ذلك الكتابة والقراءة. مكان مغلق، تمنع فيه الأوراق والأقلام والزيارات.. اخترعنا أقلامًا من عظم وكتبنا بواسطة الضغط على أوراق السجائر (الميغا) وصنعنا أقلامًا من أوراق الميغا الكربونية، وكتبنا ما نشاء على أغلفة السجائر الداخلية...
هل تتميز هذه النصوص التي كتبناها داخل المعتقل عن تلك التي كتبناها خارج المعتقل؟ نعم، بالتأكيد، فأدب السجون يتم إنتاجه في ظروف استثنائية، وفي مكان معزول عن العالم، وهو يتميز أولًا بالإصرار والتحدي الذي قد لا نجده عند الكاتب الحر، ويتميز أيضًا، بالعاطفة الصادقة والشوق والحرمان والتأمل، فيأخذه هذا نحو الرومانسية والحلم (السريالية).. كما يتميز بالخيال الجامح والتجريب المتمرد الرافض للقوالب الجامدة... لكن أكثر ما يميز أدب السجون، هو فضاء الحرية، وقد تستغربون إذا قلت: إن الكاتب المعتقل أكثر حرية من الكاتب الحر، لأنه ليس لديه ما يخسره، ولأن الكتابة تصبح عملية مصيرية بالنسبة له، وشجاعته ليست نابعة من الإصرار والتحدي وإثبات الذات وحسب، بل من الشعور بالغبن والرغبة في الثأر -جماليًا ومعرفيًا- من سجانيه؛ يريد أن يثبت أنه إنسان حقيقي وأنه الأجمل والأرقى، فالسجن كما ينبش أقبح ما في البشر، يحرض - بالمقابل- أجمل ما فيهم، ويحرر طاقاتهم الإبداعية إلى أبعد حد ممكن. لذلك، نجد أن كثيرًا منا اكتشف مواهبه داخل المعتقل، ولولا ذلك ما علم أنه شاعر أو ناقد أو موسيقي أو نحات موهوب.. لكن، هل استطاع الكاتب المعتقل أن يقدم هذا العالم القبيح بالصورة الجمالية المرجوة؟ من السهل أن تقول لا، لكن الجواب المسؤول يحتاج إلى بحث كبير.
يمكنني في هذا المقام التحدث عن نقطة واحدة جوهرية هي، أن أدب السجون -بعامة- رد على الألم بالألم، وعلى البشاعة بفضحها، وعلى الخسة البشرية بوصفها وإظهارها! لم يخرج - إلا نادرًا- عن الانفعال بما حدث، فيصف طرق التعذيب وقساوة الجلاد وضيق المكان وقذارته.. ملامسًا بذلك القشور، مبتعدًا عن الجوهر الداخلي... لم يواجه ضيق المكان برحابة الوجود والتأمل والفلسفة، ولا قسوة السجن بالحنين الإنساني إلى الحرية والعدالة، ولا العالم الداخلي الغني للنفس البشرية.. كما فعل فيدور دوستويفسكي أو شارلز ديكنز أو أبو فراس الحمداني. 

غسان الجباعي: أدب السجون يتم إنتاجه في ظروف استثنائية












 

د. أمينة خليفة هدريز (ناقدة من ليبيا):
أدب السجن في ليبيا عبّر عن ثنائية القمع والحرية

من خلال دراساتي عن أدب السجناء التي تناولت أدب السجناء الليبيين إبان حكم القذافي، تبين أن البيئة المكانية الطاردة (بيئة الحبس) قد تكون فضاء للخلق والإبداع، فكتابة إبداع داخل الزنازين تعد تحديا يقوم به المبدع داخل تلك البيئة، مما يخلق جدلية بين الحبس المرادف للقيد والمنع وبين الإبداع المرادف للحرية والانطلاق، فالإبداع عابر لحدود الزمان والمكان.
السؤال المطروح في هذه المعادلة كيف عبّر السجناء عن أنفسهم داخل الزنازين؟ هل ما كتب داخل الزنازين تحت ظروف سجنية قاهرة يعد إبداعا تتوفر فيه شروط الفنية والجمالية؟ ما تأثير الفضاء المغلق (فضاء الزنزانة) في عملية الإبداع وخلق جمالية النصوص؟
لا يخفى على أحد الظروف القاهرة التي عانى منها السجناء للمحافظة على إنتاجهم الأدبي من الضياع والتلف نتيجة مداهمات الحرس ونوبات التفتيش الفجائية والتنقل بين السجون، حيث تنوعت طريقتهم في مواجهة أشكال العنف والقهر، فصورة الزنازين التي رصدتها كتابات السجناء رصدت حالة البؤس والقهر، وعكست واقع السجناء داخل ذلك الفضاء المغلق، ونقلت صورة براثن التضييق وتقييد الحريات وانعكاسها على حالاتهم النفسية والجسدية، كما عكست تجربتهم الشعرية حالة التمرد على ذلك الفضاء بالانفتاح على وسائل أعانتهم على تحدي الواقع المرير، فقد قابل الأدباء كل الظروف القاهرة من قمع وتعذيب وتجويع بالصبر والصمود وحاولوا اتقاء ضربات القمع والقهر الموجعة بالتحدي والغناء والأناشيد بدل الانكسار والرضوخ، فلا السجان يتوانى عن ممارسة شتى أنواع العنف ولا السجين يرضخ وينكسر أمام العنف والقهر مناضلا من أجل صلابة روحه من التخريب والدمار، فإيمان الأدباء السجناء بعدالة قضيتهم، وإيمانهم بوطنهم وبقيم العدل والحرية جعلتهم يناضلون من أجل أن تبقى أرواحهم صلبة صامدة، حيث خاض الأدباء السجناء من داخل الزنازين نضالا صامتا ومريرا سانده تكاتهم وتماسكهم والتفاف بعضهم حول بعض في مواجهة شراسة سجن وبلادة سجان.
أدب السجناء في ليبيا رصد واقعا سياسيا واجتماعيا وإنسانيا عاشه هؤلاء الأدباء داخل الزنازين، حيث عبّرت تلك النصوص عن لحظتها التاريخية فهي شاهدة على فترة زمنية من تاريخ ليبيا المعاصر، إذ لعبت تلك الأشعار المكتوبة في الزنازين دورا في توثيق الأحداث فكانت سجلا لمعرفة الكثير عن دقائق تلك المرحلة وملابساتها. كشف أدب السجناء عن ظروف صعبة عاشها الأدباء داخل الزنازين أثرت بشكل كبير على تخلق النص الأدبي: شعرا وقصة ومسرحية، ذلك لابتعادهم عن الظروف الطبيعية في عملية الإبداع فقد أظهرت تلك الأشعار انتماءها لفضاء الزنازين من خلال تحميل بعض الشعراء قصائدهم رسائل أيديولوجية وسياسية تبلّغ عن مواقفهم الصامدة المتحدية من جهة وتخبر عن آخر المستجدات هناك بالداخل، لذلك جاءت قصائد كثيرة على شكل رسائل أو برقيات من السجن أو أناشيد وأغان موجهة أو مهداة إلى أشخاص بعينهم. من خلال دراستي لأدب السجناء الليبيين وجدت أن مدونة الحبس الإبداعية لم تقتصر على رصدها لواقع الحبس وتصوير معاناة الشعراء داخله ولم تكن مجرد أداة توثيقية لواقع سياسي أو سجلا تاريخيا لأحداث ووقائع القمع والتعذيب في مرحلة معينة من مراحل تاريخ ليبيا، بل انطوت على أساليب فنية معاصرة كشفت عن تطور القصيدة الشعرية في الأدب الليبي وتجليها عن شعراء الحبس، فقد غلب على المعجم اللغوي لمدونة الحبس محور النضال بدلالاته المتعددة سواء أكانت بالثورة والتحدي أم بمقاومة القمع والحزن أم برؤية المستقبل من منظور الأمل والتفاؤل، وعبرت القصص القصيرة لمدونة الحبس عن تمردها على آليات القمع من خلال فعل المقاومة، ونجد أن الفضاءات في هذه القصص اشتغلت كفضاءات متحركة بين ثنائية الفضاء المفتوح والفضاء المغلق بدلالاتها المتعددة فهو يرمز إلى العزلة والكبت من ناحية  ويعبر عن العجز والفشل والذكريات الأليمة  من ناحية ثانية مشكّلة تيمة القمع والحرية / الانكسار والتحدي.
أدب السجن في ليبيا تنوع الإنتاج فيه بين الشعر والقصص القصيرة والمسرحيات الشعرية والنثرية واختلفت كذلك طريقة هؤلاء الأدباء في مواجهة أشكال العنف والقهر وتنوعت أساليبهم الفنية في كتابتهم فقد جمعتهم تجربة فنية في ظروف متشابهة ولكن كانت لكل أديب خصوصيته الفنية والجمالية.
أدب السجن في ليبيا عبّر عن ثنائية القمع والحرية بدلالات متنوعة وأساليب فنية إبداعية تؤكد على العلاقة الجدلية بين الحبس والإبداع. ما كتب في السجون الليبية يجسد حقيقة أن الإبداع لا يمكن أن يسجن بين الجدران والأقبية، وأكد تحويل الفضاء المغلق إلى فضاء مفتوح عامر بقيم الحرية والمقاومة.

  أمينة خليفة هدريز : مواجهة أشكال العنف والقهر




















عبد الرحمن مطر (كاتب من سورية):
تحالف القلم والورق والحرف أنقذني من محنة السجن

أدب السجون في الغالب ليس متخيلا، كما قد يتصوره البعض، ليس نصًّا إبداعيًا فانتازيًا عابرًا للحظة الحدث والمكان، لكنه أقرب إلى كتابة السيرة. هو في معظمه شهادات عن محنة السجن، يقدمها كتّاب ومثقفون، عن تجارب مريرة مروا بها. وإن كانت تضم ما هو متخيل، فإنها سعي الكاتب نحو اختراق أسوار المعتقل، في واحدة من صور نزوع السجين إلى لحظة الحرية، وتطلعه إليها عبر توليد الحلم، وعبر الكتابة، كمحاولة لحمل الحلم على الانتقال الى حقيقة. وهي محاولة أيضًا لاستدعاء صور من الخيال ومن الذاكرة، لجعل الحكاية التي تُروى أقرب إلى الواقع، ذلك أن ما يحدث خلف الأسوار، تحت الأرض، في الظلمة، والأضواء الشحيحة، وفي الزنازين، ما يفوق التصور، والخيال. إنها الحقائق التي يصعب على الكاتب، أن يرويها، بروح الحدث، وبالشعور الذي يتولد عنها، أو أن يصف الحالة التي يقص.
أيًا تكن مقدرة الكاتب الإبداعية، فإن استعادة الصورة، والتعبير عنها، تبقى عاجزة في الحقيقة عن الإلمام حتى ولو بجزء يسير منها، من لحظة تكونها، ومسارها، وتأثيراتها: التعذيب حتى الموت، كمثال.
في الحركة الثقافية العربية المعاصرة، ثمة أعمال أدبية مهمة وفارقة في أدب السجون، في الرواية والشعر، بصورة أساسية، قدمت للقارئ العربي، صورة أخرى من الحياة المتستر عليها قسرًا، بفعل الخوف والترهيب بملاقاة مصير مماثل. ويُحسب لتلك الأعمال الأدبية أنها أعملت ثقبًا في جدار الخوف والصمت، لم يلبث أن تحول إلى فضاء مفتوح للبوح، توالت فيه الروايات التي تتخذ من السجن موضوعًا رئيسًا لها. لكن ذلك لم يحدث دون ثمن كبير، دفعه كتاب وأدباء ومثقفون، من سنوات عمر مديد في غياهب السجون، على امتداد جغرافية السجون العربية، التي باتت تفوق بسمعتها سجون العالم الرهيبة التي كتب عنها الروس والأوروبيون، وصنعت أفلام سينمائية من وحيها.
في ذاكرتنا اليوم أعمال أدبية، خارجة من أسر المعتقلات والسجون العربية، من العراق، إلى سورية، إلى ليبيا والمغرب. ومنها خرجت تجارب مهمة لكتّاب نجوا من الموت، ليكتبوا روايتهم، وشهادتهم، عما حدث ويحدث في السجون من قهر وظلم وتعذيب وقتل، ووحشية لا حدود لتصورها. لم تكن شهادة عما جرى لهم، ولكنها أيضًا استذكار للضحايا ممن قضى تحت التعذيب، أو ممن لا يحسنون الكتابة أو القول.
صارت الكتابة تعبيرًا عن رفض الواقع الذي تفرضه سلطة الاستبداد، وبهذا المنحى يأخذ أدب السجون صيغة أخرى، بأن يكون وثيقة تدين السجان، وأن يرتقى الكاتب بشهادته إلى نص أدبي، يكون محرضًا على الإنصاف وتحقيق العدالة.
شهدت السنوات العشر الأخيرة تطورا ملحوظًا في أدب السجون، وللسوريين نصيبٌ كبير من الأعمال الروائية والشعرية التي صدرت، وتعنى بتجربة السجن بصورة خاصة، إضافة إلى أعمال أخرى شكّل الاعتقال وثنائية السجان والمعتقل مسارًا مهمًا فيها. في اعتقادي أن ما كُتب حتى اليوم في أدب السجون ليس كافيًا، للإحاطة بعوالم أخرى موازية للحياة الإنسانية. هناك عالم مختلف تمامًا لا إنسانية البتة فيه، عالم من الوحشية التي لا حدود لها، والحرمان، والقهر الذي لا ينضب معينه.
بالنسبة لي استطعت بمخاطرة كبيرة أن أكتب رواية داخل السجن، ونجحت في تهريبها، ثم صدرت بعنوان "سراب بري" عام 2015. أشعر أنني لم أقل شيئا فيها بعد. لدي مخطوط عن المستبد والسجن، لم أستطع إنجازه بصورة نهائية، وأعمل على رواية جديدة عن المعتقل. أشعر أنني مخنوق، وقلق ومتعبٌ جدًا، وأخاف من استدعاء ظلمة السجن الرهيبة، بكل ما فيها.. وأشعر بالعجز عن التعبير أحيانًا. قد لا يمكننا مشاركة الآخرين بالألم الذي عشناه، أو أننا غير قادرين على ذلك حقًا. ما يزال لدي الكثير لأقوله، كل يوم هو حكاية، ولدى كل سجين حكاية، وفي صوت كل مزلاج وصرير باب، وفي كل قيدٍ ألف رواية!
لن أشفى إلا بالكتابة مجددًا وربما مرارًا عن السجن. لقد أنقذني تحالف القلم والورق والحرف من تلك المحنة العصيبة.

عبد الرحمن مطر: ما يزال لديّ الكثير لأقوله

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.