}

الهجرة في الرواية اللبنانية... لماذا وإلى أين؟

أحمد محسن 18 سبتمبر 2020
تحدث الهجرة على مراحل، وتحدث دفعة واحدة. في السوسيولوجيا، ثمة ظروف. في السياسة، الأشياء دائمًا أكثر تعقيدًا. كذلك في الفلسفة، وفي ميادين العلوم الأخرى. لكن الهجرة في الأدب تبدو أكثر تسامحًا، وتفترض أخذًا وردًا. وفي الحالة اللبنانية، مثل الهجرة تمامًا، حدثت الرواية على مراحل، وحدثت دفعة واحدة أحيانًا، فتدفقت فيها سيرة الحرب الأهلية، من دون أن تدرس تبعات هذه الحرب كحالة منفصلة عن الحرب، أو الحروب اللبنانية عمومًا. وفي وقتٍ يكثر الحديث عن الهجرة، كأحد منتجات الحرب، يمكن القول إن الهجرة اللبنانية لطالما حدثت في الرواية، بصورة موازية لحدوثها خارجها أيضًا.


"أيام باريس": أبطال وهويات
في "أيام باريس"، لرينيه حايك (المركز الثقافي العربي/2004)، يتحرك العالم بسرعة بين مكانين، لكن كل شيء يدور حول باريس، وليس حول لبنان، عن الهجرة بوصفها نظامًا كاملًا لا يستطيع الحنين تعطيله. الهجرة التقليدية، التي نسمع عنها، ونتحدث عنها، تحدث في رواية حايك، أحيانًا من دون نقصان، وأحيانًا مع إفراط في إضافة مركبات سوسيولوجية إلى السرد. بشكل عام، الحياة تحدث هناك فقط، في عاصمة الأنوار، حتى وإن دارت أحداث بينها في

لبنان، إلا أن مركزية باريس تهيمن على جوهر الرواية التي تقوم على رصد تحولات "ما بعد الهجرة". في أحيان كثيرة، يفترض السرد ذلك الميثاق الذي يقترحه أومبرتو إيكو بين القارئ والنص: الخيال، أو إلغاء ذلك الشعور بالحيرة. لا يعني ذلك أن المروية تأتي فقط من الخيال، بل يعني ذلك التصديق بأن مساحة الخيال المشتركة مع الحقيقة في السرد أكبر من أي مساحة أخرى: تخيّلُ الهجرة ليس مثل الهجرة، لكنه ينتمي إليها حتى يصير جزءًا منها. لا نعرف "حسين"، أو "مهدي"، في رواية رينيه حايك، لكننا سنعرف الهجرة، ويمكننا فقط أن نستنتج أن التسمية بمثابة محاولة مواجهة مع التنميط المرافق للهوية، أمام الهجرة اللبنانية إلى فرنسا تحديدًا. عن قرب، تبدو "أيام باريس" نزهة في غابة من غابات السرد: "حسين" خرج من مجتمعه اللبناني، لكن ميرا عانت كثيرًا. أما "مهدي"، فحمل معه غربته إلى بيروت. الذكريات ثقيلة، لكن ثيمة الأحداث الأساسية ليست الزمن، بل المكان تحديدًا، بوصفه محددًا زمنيًا. الرواية ليست قصة تدور حول أشخاص محددين، بل هي عن الهجرة كوزر من أوزار العلاقة المعقدة بين الأبطال والهويات.


 

"موانئ الشرق": عصيان لا يكتمل
هذه العلاقة تحضر في كثير من الروايات اللبنانية، وليس ذلك غريبًا بالنظر إلى الأسئلة اللبنانية الدائمة عن الهوية. بمعزل عن تبني التصور الملتبس بالاستعمار لرواية الاستيطان الصهيوني في فلسطين، فإن الكاتب اللبناني ـ الفرنسي أمين معلوف، مثلًا، يقدّم تصورًا لبنانيًا من موقعه ككاتب فرنكفوني، لهجرة غير اللبنانيين، انطلاقًا من الهوية كمرجعية أساسية. في "موانئ الشرق" (ترجمة نهلة بيضون، دار الفارابي/ 1998)، يبدأ معلوف قصته بسرد ممتع، واصفًا فيه شخصية تكاد تكون أسطورية: "عصيان". بطل الرواية ليس لبنانيًا، لكن بالنظر إلى أعمال معلوف الأخرى، يبدو العصيان سمة لبنانية، كما تقترح أعماله، ولا سيما في

"صخرة طانيوس". هناك هجرة "معكوسة" في "موانئ الشرق"، كما يدلّ اسم الرواية، وكما يتبين في أحداثها لاحقًا. فكل شيء حدث خارج الشرق، وكان العبور بموانئه عبورًا يتسم دائمًا بالحزن والقلق. الفكرة الأخيرة تسهّل أيضًا إلصاق تهمة الاستشراق، لأن التنوير حتى لحظات متأخرة من النص يبقى "شعلة الغرب"، في مواجهة "أحزان الشرق". لكن بطل الرواية، الذي شارك في المقاومة ضدّ الاحتلال النازي، يمكن أن يكون دليلًا إلى وحشية العقلانية أيضًا، وإلى وحشية تصوراتها عن الآخرين. من دون أن يعلن ذلك، يقترح معلوف باسم بطله العثماني، وحبيبته اليهودية التي استوطنت في فلسطين، هجرة طوعية، لا تقوم على ظروف تاريخية. هجرة نوستالجية غير موجودة في الواقع. فالفتور الذي حلّ بعلاقة "عصيان" مع حبيبته ليس مثل فتور حل بعلاقة والده التركي بأمه الأرمينية. وافتراض وجود أسباب موضوعية للهجرة، في وضع العالم الحالي، تبقى ترفًا مضاعفًا بأشواط، يتجاوز "فلسفة الهجرة"، كشرط من شروط الكوزموبوليتانية، ضمن التصور الكانطي للنظريات وممارساتها.



"مستر نون": تفكيك المكان
إذا كان معلوف حاول الإجابة على سؤال "لماذا" نهاجر، ففي البحث عن الهجرة في الرواية، أو في هجرة الرواية نفسها، يبدو أن السؤال الرئيسي يستدعي إجابة جديدة على سؤال "إلى أين"، من خارج الإجابات التقليدية. استنفذت الأجوبة على السؤال الأول في الروايات السابقة، إلى درجة متشابهة في اتصالها بالواقع. عمومًا، أسباب الهجرة في الرواية غالبًا تكون مثل أسبابها في الواقع، أو ما نعرفه عن الواقع: الأسباب الاقتصادية، فِتنة عالم الشمال، الأوهام عن الغرب، وأشياء من هذا النوع. لكن الحدث في رواية "المستر نون" لنجوى بركات (دار الآداب/ 2019) هو محاولة جديدة للإجابة على سؤال "إلى أين". "مستر نون" يحمل ما يحمله المهاجرون من أفكار ومشاهدات، لكنه عائد في الرواية من القبر، وتحديدًا من اللاوجود. هذه العودة تتيح للقارئ أن يسأل أسئلة أكثر تفكيكًا، عن تعلم العيش، وحدود تعلم العيش، بالطريقة نفسها التي رسا عليها دريدا في أيامه الأخيرة. بتأنٍ شديد تصح نظرية دريدا عن

النجاة على "المستر نون"، بما أننا جميعًا "ناجون مؤقتون"، من الموت. ما تفعله بركات هو تطوير عملية النجاة، أو بالدقة تطوير فهم عملية النجاة بين أكثر من حيز. بما أن تعلم الحياة يعني تعلم الموت، ضمن المعنى الذي خلص إليه جاك دريدا، فإن الهجرة من عالم قبل الحرب إلى عالم ما بعد الحرب، يعني فناء التصور عن الوطن، من ضمن مجموعة "فناءات" أخرى، كالحياة بعد الموت" آو الفداء" أو الخلاص بآخرين. صحيح أن رواية بركات ليست عن "الهجرة"، كما نتخيّلها عندما نتحدث عنها، أي من بلد إلى آخر، لكنها عن الهجرة كجوهر، وما يدور حولها من متحولات: العودة، الحنين، الندم، والأهم من ذلك كله، معنى "العبور"، من دون إخضاع العنوان إلى سلسلة معاني مسبقة. وقد يكون العبور بين مكانين متسق تمامًا مع العبور بين زمنين، وهذا بالضبط ما ينسحب على الحالة اللبنانية، حيث تجتهد سفينة الهوية في الرسو على مكان وسطي بين الشرق والغرب، إلا أن العامل الحاسم يبقى سرعة رياح الزمن وقوتها.



"حي الأميركان": إعادة إنتاج الفضاء الزمني
تحدث الهجرة في الزمان وفي المكان، على الأقل في الأدب، الذي يمتلك قدرة البقاء على تعلم الحياة، وتعلم الموت. لكنها تحدث أيضًا بين الجوهرين العظيمين في النص الواحد. يمكن الحدث عن نوع ثالث من الهجرة في الرواية اللبنانية. في رواية "حي الأميركان"، لجبور الدويهي (دار الساقي/2014)، يهاجر "عبد الكريم" إلى باريس في المرة الأولى، ثم لا يتوقف عن الهجرة إليها بعد عودته في خيالاته. تدور القصة كلها تقريبًا في الحيّ الذي تحمل

الرواية اسمه، ويقع في طرابلس شمال لبنان، ونكتشف العلاقة مع العراق وباريس في لحظات زمنية "محددة" بدقة، ما يعيد إنتاج الهجرة كحالة من حالات الزمن، أكثر من كونها انتقالًا جغرافيًا. بعد تفجير تمثال جده، هاجر بطل الرواية إلى باريس، لكن تمثال جده هاجر معه أيضًا. السرد المحترف للدويهي يشعر القارئ بأنه في الشوارع الباريسية نفسها مع بطل الرواية، على نحو يمكنه من التعرف إلى راقصة الباليه الصربية التي ارتبطت الهجرة بها، كمهاجرة هي الأخرى، من زمن مواز للزمن اللبناني الذي ينسج الكاتب قصته بتأنٍ شديد. وإذا كانت نهاية الهجرة في "حي الأميركان" سببها الأساسي الرغبة في إعادة بطل القصة إلى وراثة الحياة السياسية، فإن ذلك يجعل الرواية نفسها متوائمة مع وظيفة الأدب التاريخية، كفرع من فروع التاريخ، في تقصي خطوات الماضي، كما يقول الناقد الأدبي الفرنسي، دانييل مادولينا. وربما يكون الصراع ثنائية الهجرة ـ العودة، ضدّ خيار الهجرة إلى الأبد الأحادي حاضرة تمامًا في السياق اللبناني لرواية الدويهي، الذي يحدد نقاط لا مرئية للهجرة ضمن مسافات يختارها بنفسه، من المنزل البورجوازي لبطل الرواية إلى الحيّ المعدم، أو من عاصمة الشمال اللبنانية إلى باريس، أو من الحي اللبناني المعدم نفسه إلى ما يحدث في بغداد. لكن ثمة مفاعيل دائمًا: أشجار الليمون بوصفها ذاكرة فرنسية في لبنان، وعيد الاستقلال الوطني اللبناني عن فرنسا، بوصفه ذاكرة لبنانية في سياق فرنسي. من بين عدة صراعات يمكن تحديدها في رواية الدويهي الثرية بالأفكار، يمكن التركيز على الهجرة، كمحدد تاريخي للماضي وآثاره، على نحو يمكن النص من إعادة إنتاج الفضاء الزمني، من دون أن يمس ذلك في بنية المشهد الرئيسية. ربما في هذا السياق، أكثر من أي سياق آخر، يمكن أن نضع هجرة اللبنانيين في الرواية اليوم، بالمقارنة مع وضعها في الحاضر: ماضٍ لا يمضي، محاولة تلو الأخرى لإقامة علاقة عادلة بين الذاكرة والهوية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.