}

مهرجان "مشكال" يعالج أسى بيروت بالمسرح

"مشكال" أحد الأنهر التي تغذّي قلب بيروت، من وسط شارع الحمرا، ومن إرادتها القوية وفورانها الدائم من أجل مدينة ضوئية، أسّست سيدة المسرح اللبناني "مسرح المدينة"، خارجة من حرب أهلية أوقفت مشروعها الذهبي الأول مع روجيه عساف عام 1968-"محترف بيروت للمسرح". ولا تهدأ منذ ذلك الوقت من مشروع ثقافي لآخر ومن همّ ثقافي لآخر، تتنقّل الممثلة والمخرجة المسرحية نضال الأشقر، إلى عام 2012 حين قرّرت أن تؤسّس ملتقى للشباب المسرحي، هو أحد رهاناتها على المواهب الشابة، وهو أيضًا أحد رهاناتها لعلاج بيروت من أساها ومن خفوت وهجها الثقافي. "مشكال" هو "ملتقى الشباب في مسرح المدينة" السنوي منذ ذلك العام، وهو منصة ومساحة للتلاقي بين الشباب المسرحي الطموح من داخل الجامعات وخارجها والذين لا يجدون فرصًا لعرض أعمالهم، من أجل التجريب ومشاركة مواهبهم وتطوير خبراتهم، ويهدف "مشكال" منذ تأسيسه إلى بعث الروح في الساحة الثقافية وإلى دعم العمل الفني الجماعي.

يحمل "مشكال" كل سنة عنوانًا له، سبق أن حمل عنوان "بيروت ست الدنيا" و"من طلاب لبنان إلى طلاب غزة" و"سنة الأمل" وغيرها من العناوين التي تغلق الباب على الشقاء واليأس، واليوم تضع "زنوبيا" إصبعها على وجع أبناء بيروت وتعنون دورتها الحالية التاسعة "العلاج بالمسرح"، كما أطلقت عليها اسم الكاتب والمخرج المسرحي الراحل "أسامة العارف".

انطلقت فعاليات الدورة الحالية في الأول من الشهر الحالي وتنتهي اليوم، في الخامس منه؛ خمسة أيام من العروض الفنية المسرحية والموسيقية والراقصة وورش العمل المرتبطة بالعلاج بالمسرح مع نضال الأشقر، زينة دكاش، منى كنيعو، خالد العبداللـه، آرثر ليسترانج، وأليكساندر بوليكيفيتش.


"مسرح المدينة"



العلاج بالمسرح

لماذا اختيار كلمة "مشكال" اسمًا لهذا المهرجان، ولماذا أطلقت نضال الأشقر اسم الراحل أسامة العارف على دورة هذا العام. تجيبنا صاحبة "طقوس الإشارات والتحوّلات": "مشكال تعني Kaleidoscope ، هذا الذي نضع عيوننا عليه ونديره فتظهر ألوان مختلفة، وهو يشبه ما يقدّمه الفنانون في هذا المهرجان. وقد أطلقنا على هذه الدورة اسم "أسامة العارف"، فهو الرجل المسرحي المحامي والصديق، وهو أيضًا من أعضاء مجلس الأمناء (المركز الوطني لحقوق الإنسان)؛ لماذا اختياره، لأن أسامة العارف لجأ إلى المسرح وإلى كتابة المسرح هروبًا من الناس ومن المحاماة ومن مشكلات العالم، كان المسرح أول علاج له، ولذلك اخترت أن يكون العلاج بواسطة المسرح".

نسألها، هل هي الحاجة الجماعية لهذا النوع من العلاج في ظل الظروف القاسية التي يعيشها المجتمع اللبناني؟ تجيبنا: "فعلًا، لأن هناك حاجة جماعية لهذا النوع من العلاج، الشعب اللبناني كله يعاني، وقد أخبرتني زينة دكاش وهي خبيرة بالعلاج بالدراما أنه قد حضر خلال اليومين التي قدّمت فيهما عروضها الكثير من الناس الذين لهم علاقة بالفن والذين ليس لهم علاقة، وكل شخص موجوع أراد أن يحكي، فعلًا أنا أسمّيهم "أجمل ناس"، بمجرّد أن الناس تبدأ بالكلام تشعر أنها أصبحت أفضل، هذا الحكي هو علاج بحدّ ذاته".

من ضمن العروض التي قدّمها مهرجان "مشكال" هذا العام كان عرض "تنفيسة" للمخرج المسرحي الفلسطيني عوض عوض في اليوم الأول والثاني، وهو كما يشير عنوان العرض تفريغ غضب وسخط وتعبير عن الوجع الذي يعيشه المجتمع في لبنان، وهو من كتابة دينا سليم، ماهر عيتاني، محمد زين الدين وأمجد مراد، وشارك فيه تمثيلًا وغناءً وعزفًا أكثر من عشرين فنانًا، لكن دورية من جهاز الرقابة في الأمن العام اللبناني قدِمت إلى مسرح المدينة مساء السبت خلال تقديم المسرحية، للتحقيق مع عوض، بحجة عدم أخذ رخصة من جهاز الرقابة قبل العرض، وأنه يتضمّن إساءات للسلطة الحاكمة في لبنان ولرئيس الجمهورية، كما تناقلت مواقع التواصل الإجتماعي. كانت نضال الأشقر حاضرة، فعملت على التفاوض معهم لعدم توقيف عوض. وطلبت من الفنانين المشاركين التوقف عن العرض إلى أن يتم الحصول على الإذن ليصير إلى عرضه من جديد. أوقف الفنانون المشاركون عرض العمل على خشبة المسرح، ونزلوا إلى شارع الحمرا وأكملوه هناك هاتفين "ثورة جوع، كذب، إدمان، دمار، سلاح، هجرة، ثورة ع رووس الكل، ثورة ع الحرامي، ثورة ع الإيام المرّة، ثورة لترجع الأيام الحرّة، أنا مش حرامي أنا مظلوم، لو كنتو محلي ما كنتو تحملتو الهموم.."، في مشهدية تعيدنا إلى عام 1969 خلال عرض مسرحية "مجدلون" لنضال الأشقر وروجيه عساف حيث أتت الفرقة 16 من الجيش اللبناني وأخرجت الممثلين من على خشبة "مسرح عين المريسة" وهم يغنون "ما همّ أن تموت في صرخة الحرب/ ما همّ ما همّ/ إذا وجدت بعدها من يحمل السلاح/ يواصل الكفاح/ ويحمل الثورة للنصر"،  فتوجهوا إلى "مقهى الهورس شو" وسط شارع الحمرا وأكملوا تقديم المسرحية على الطاولات بين أنسي الحاج وأدونيس وأمين الباشا ورفيق شرف وآخرين، فجاء الضابط مرة أخرى ومنعهم من العرض، فنزلوا إلى الشارع وأطلقوا هتافات ضد رئيس الجمهورية شارل الحلو في ذلك الوقت (أنظر حوارنا مع نضال الأشقر، 27/3/2021).


(عرض "تنفيسة" ينتقل إلى شارع الحمرا)


وخلال حديثنا مع نضال الأشقر، نسألها عمّا حصل خلال عرض "تنفيسة" السبت الفائت، ترد: "مسرحية تنفيسة هي نتيجة محترفات على مدى أربعة أسابيع، وقد كتب عوض على ملصق العمل "تقريبًا مسرحية"، لم نأخذ إذنًا من جهاز الرقابة في الأمن العام لأننا اعتبرناها في البداية محترفات والدخول مجاني خلال يوميّ العرض، لكن الرقابة اعتبرت أنه يجب أن نأخذ رخصة. نعم، هي مسرحية متكاملة لمدة 70 دقيقة، وأنا طلبت إيقاف العرض حتى نحصل على الرخصة لعرضه. وأعتقد أن أحدًا ما حضر "تنفيسة" وأخبر الأمن العام أنها تتضمن انتقادات قوية. الانتقادات التي تتضمنها المسرحية مثل كل الانتقادات التي يردّدها الناس في الشارع، ينتقدون الدولة، والحكومة، والماء والكهرباء والدواء والبنزين والمازوت والبطالة، هذه صرخة شعبية، إذا كانت خارج المسرح أو داخله. ما هو المسرح إذا لم يكن نقدًا وانتقادًا للأماكن المظلمة في المجتمع؟ مجتمعنا أصبح ظلامًا كله، وفي المكان الذي يمكن أن ننتقد فيه سننتقد، لم يعد هنا ما نمدحه سوى هذا الطقس الجميل الذي لم يقدروا على تغييره".


الفن والصحة النفسية

وفي اليوم الأول والثاني أيضًا أطلّت الممثلة والمخرجة اللبنانية زينة دكاش لتقدّم ورشة فنية تحاكي واقعنا الحالي من ضغوطات وصدمات، وتأثير ذلك على الصحة النفسية، وتتضمّن الورشة سلسلة تمارين لاكتشاف الشخص المتمكّن من مهارات التعبير في داخلنا، التحدي، أخذ القرار، التفاوض والتغيير (Hero’s Journey Excercises). وزينة دكاش المتخصصة في الدراسات المسرحية والحاصلة على ماجستير في علم النفس العيادي من الولايات المتحدة الأميركية (2007) وهي أيضًا معالجة بالدراما معتمدة من مجلس الإدارة في "جمعية العلاج بالدراما بأميركا الشمالية"، وهي المؤسسة والمديرة التنفيذية للمركز اللبناني للعلاج بالدراما "كاثرسيس" Catharsis وهي كلمة يونانية وتعني "التطهير" أو التنقية". تعمل دكاش على صناعة أفلام وثائقية وكان آخرها فيلم "السجناء الزرق" (2019) الذي يسلّط الضوء على سجناء "المبنى الأزرق" في سجن رومية من أولئك الذين يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية ويخضعون لأحكام شبه مؤبّدة بانتظار الشفاء، وقد تم اختياره من بين أكثر من 55 عملًا من مختلف دول العالم للمشاركة في الدورة السابعة والسبعين لمهرجان البندقية السينمائي الدولي (2020)، كما أنه فاز بجائزة مهرجان الجونة السينمائي، إضافة إلى حصوله على جائزة خاصة من المنظمة الدولية للفرنكوفونية، وسيتم قريبًا افتتاح مهرجان الجونة السينمائي بهذا الفيلم.

المخرج عوض عوض  وملصق عرض "تنفيسة"



وقد تمكّنت دكاش من تغيير عدد من القوانين اللبنانية وتحديثها فبعد مسرحية "12 لبناني غاضب" تمكّنت في عام 2009 من دفع السلطات اللبنانية لتنفيذ "قانون تنفيذ العقوبات- حسن سلوك" رقم 463 الذي يسمح بالنظر بوضع السجين وتخفيف عدد سنوات سجنه إذا كان لديه سلوك جيد. وتعتبر دكاش من المناصرين لقضايا السجناء في لبنان، وقد عملت على ورش علاج بالدراما من داخل سجن "رومية" في لبنان والذي يُعتبر السجن الأكثر اكتظاظًا حيث يقيم السجناء في بيئة غير صحية وينتظرون سنوات عديدة داخل السجن قبل النظر في أمرهم أو إصدار قرارات الحكم عليهم.

وكانت دكاش قد بدأت حياتها في الكوميديا مع برامج تلفزيونية ترفيهية بموازاة عملها بالعلاج بالدراما، نسألها عن ذلك، تجيب: "أنا خرّيجة مسرح، تمثيل وإخراج، لكن دائمًا كان عندي حب وشغف للعلاج النفسي فقررت دراسة ما يدمج بين الاختصاصين وسافرت إلى أميركا وهناك درست ماجستير في العلاج بالدراما، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل كمعالجة نفسية من خلال الدراما وفي الوقت نفسه لم أتخلّ عن مهنتي في التمثيل والإخراج".

وعن تجربتها في "مشكال" تجيب دكاش: "ليست المرة الأولى التي أشارك فيها في "مشكال"، أينما كنت قادرة ان أكون سأكون، لا أقول "لا" أبدًا. هذا العام أعطيت ورشتين للعلاج بالدراما على خشبة "مسرح المدينة"، كل ورشة امتدت أربع ساعات، "عنجد بيكبروا القلب"، شارك في كل ورشة أكثر من 25 شخصًا، متعطشين ليشتغلوا على أنفسهم، ليعبروا عن طريق العلاج بالدراما عن أمور معينة تحدث في حياتهم، عن تساؤلات ومشاكل يمرون بها، وخصوصًا أن البلد مرّ بعامين قاسيين، كورونا وأزمة اقتصادية وانفجار بيروت، حكينا عن الصدمات ومثّلنا أدوارًا من حياتنا، وهي أدوار يجب أن نطوّرها وأدوار يجب أن نتوقف عن تغذيتها، كدور الضحية أو الدور الذي اغتُصب حقه، هذه أمثلة، كان العمل جماعيًا وتضمّن مناقشات وأدوارًا تمثيلية لها علاقة بحياة أي شخص منا أدّيناها على المسرح".

المخرحة  زينة دكاش وملصقات لأعمالها


وعن مدى تحقيق العلاج بالدراما لأهدافه تجيب صاحبة "شهرزاد في بعبدا": "لو أنه لم يُثبت علميًا أن العلاج بالدراما قادر على تحقيق أهدافه لما استمريت 16 سنة في هذا العمل، أنا أعمل على العلاج بالدراما في السجون اللبنانية منذ 14 عامًا، ولديّ عيادتي والدورات التي أقدّمها للأشخاص الذين يرغبون بأن يصبحوا معالجين بالدراما، بالتأكيد له فوائده مثل أي علاج نفسي آخر لكن نعمل بأدوات مختلفة".



في اليوم الثالث من المهرجان قدّم الممثل والمخرج الإنكليزي آرثر ليسترينج Arthur Lestrange ورشة بعنوان "سوف أبدأ" I Will Begin وهي ورشة عمل مسرحية عن البدايات، وفيها اختبر المشاركون من خلال سلسلة من التمارين اللفظية والحركية والصوتية "إمكانية مشاركة كل شخص في هذا العالم في الكلام والعمل وخلق بداية جديدة"، وفق ما سبق أن قالت حنه أرندت.


زينة دكاش خلال ورشة العلاج بالدراما في "مشكال" هذا العام  



وفي اليوم الرابع شاركت نضال الأشقر والأستاذة الجامعية في المسرح منى كنيعو والموسيقي والمغني خالد العبدالله في تدريب الحاضرين على الارتجال حول مشاهد وأغانٍ من مسرحية "إضراب الحرامية" التي كتبها أسامة العارف وأخرجتها نضال الأشقر، كما قدّمها روجيه عساف ونضال الأشقر عام 1971. واشتغل العارف على ثيمة تكاد تنطبق على هذا اللبنان الحزين دائمًا، إذ تتناول المسرحية علاقة الصداقة التي تربط الدولة والمافيا، حيث تسرق المافيا وتصمت الدولة ليتقاسما الأرباح، أي أن لبنان محكوم بالسرقة. ويختتم، اليوم، الراقص والكوريغراف اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش بورشة تركّز على اختبار علاقة الروح بالجسد وطرق تفكيكها وتحريرها له.

في حوار سابق لها مع "ضفة ثالثة" تقول الأشقر: "لا يستطيع المسرح إلا أن يكون همًّا مجتمعيًا وسياسيًا. المسرح سياسي بامتياز، ولا يمكن إلا أن يكون هكذا.. هو حركة وعي فلسفية ثقافية إنسانية؛ هذا هو المسرح"، ومع ثقتها العميقة بقدرة المسرح على هزّ اليأس وإسقاطه تظهر نضال الأشقر كامرأة من جميع الأزمنة، من مسارح التاريخ الحية دائمًا، وجهها وصوتها يمكنهما تحويل كل شيء إلى حقل من الهواء الطلق، يلقيان علينا ما نحتاجه لنزيل بقع الصدأ والموت عن نفوسنا، ما ينبغي فعله هو أن نتبع هذا الضوء المكتوب بحبر خفيّ، علّ هذه الأرض المعذّبة "بيروت" تتخفّف قليلًا من أوجاعها العميقة.    

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.