أدرجت اليونسكو، ضمن سعيها للحفاظ على التراث العالمي، الخطّ العربي ضمن قائمتها الخاصة بهذا التراث، بعد أن سعت 16 دولة مسلمة إلى إدراجه في هذه القائمة، كونه يعبّر عن التناسق والجمال.. وتعتقد المنظمة العالمية أنها ستحافظ على هذا الفنّ المهدّد بالانقراض، أو على الأقل بالضياع، وقد عرّفته بأنه "ممارسة فنيّة لكتابة النصوص العربية باليد بطريقة سلسة لتبرز التناسق وأناقة الحركة والجمال".
وبعد أن غزت التقنيات كلّ نواحي الحياة، ولم يعد الخطّاط وسيلةً من وسائل الإعلان والترويج، اعتقد بعضهم أن الخط تحوّل الى لوحاتٍ فنية تعلّق على الجدران، منفذة بأجهزة طباعية وتقنيات حديثة. ولهذا، فإن أعداد الخطاطين في العالم العربي والإسلامي بدأت بالتناقص أمام تراجع استخدامه، حتى أن الطلبة والدارسين، وحتى الأدباء والصحافيين، استعانوا بتقنيات الكتابة الحديثة، كالحاسبة، والبريد الإلكتروني، وغيرها.
يقول رئيس جمعية الخطاطين في كربلاء، عادل الموسوي، إنه قبل دخول الحاسوب إلى سوق العمل في العراق، وانتشاره خلال آخر عقدين، كان الناس يلجؤون إلى الخطّاطين لخطّ عناوين كتبهم، وبطاقاتهم الشخصية، وإعلاناتهم، وكل ما يحتاجون إلى طباعته. وكان أصحاب المطابع، ومعامل الزنكوغراف، يكلّفون الخطّاطين بخطّ العبارات المطلوبة بحسب طلبات الزبائن، بل حتى الصحف والمجلات كانت العناوين فيها تُخط يدويًا. يضيف الموسوي: لكن، بوجود برامج التصميم والغرافيك، وما فيها من أطقم (الفونتات) الجاهزة على أجهزة الحاسوب، وغيرها، بدأ الاعتماد على الخطّ اليدوي يتراجع، وشيئًا فشيئًا تم الاستغناء عنه إلّا نادرًا، بل إن مكاتب الخطّاطين بدأت تعتمد على الحاسوب في معالجة التصاميم والإعلانات والمطبوعات استجابة للسرعة وتحقيق الجماليات. ويؤكّد كذلك أن الناس لم تعد تشترط الخط اليدوي نتيجة لهبوط الذوق الجمالي، ورخص التكاليف. يستدرك الموسوي: هذا لا يعني انحسار الخط العربي اليدوي، وتراجع حضوره الفني المؤثّر. لقد بقي الخط، كفنٍّ، تُنظم له المعارض والمهرجانات والمسابقات، وتخطّ به المصاحف والمساجد والأضرحة المقدّسة، وتزين به التحف المنقولة، مع وجود فعاليات دولية ومحلية تحتفي بفنّ الخط العربي، وكذلك أقسام لتدريس هذا الفن في كليات ومعاهد الفنون الجميلة.
ويعطي الموسوي سببًا آخر لتراجع فن الخط، متّهمًا أصحاب واجهات الشركات والمحال والمؤسّسات الرسمية، وغيرها، باستخدام خطوط مشوهة ليس فيها روح. ولو استخدموا الخط اليدوي سنعيد للذوق العام رصانته ورقيه، ونعيد فنّ الخطّ العربي إلى مكانته المرموقة التي يستحقها. ويعتقد الموسوي أن الأمر في حاجة إلى قوانين تُلزم أصحاب مكاتب الإعلان بعدم استخدام (الفونتات) المشوّهة، واعتماد فنّ الخط العربي الأصيل بكّل أعمالهم الإعلانية والطباعية، وأي مجال تستخدم فيه الكتابة العربية، عادًا الخطّ هوية الأمة، وعنوانًا لحضارتها، والمظهر الجميل للغة العربية.
بين التراث والتداول
أمام محنة التقنيات، تضاءل عدد الخطّاطين، وتضاءلت أعداد الذين يعرفون أسماء الخطّ، مثل الثلث، والنسخ، والفارسي، والإجازة، أو التوقيع، والديواني، والطغراء، والريحاني، والكوفي، وغيرها.. حتى إن الخطّ ارتبط بالتراث العربي والإسلامي بشكلٍ عام، لكن دولًا مثل مصر، أكبر الدول العربية، عدّت خطوة اليونسكو إنجازًا جديدًا في مجال صون الهوية، على اعتبار أن الخط من أهم مفردات الحضارة العربية، وإحدى الوسائل الفاعلة في التعريف بها، مما يسهم في الحوار بين الثقافات العالمية، ويدعم جهود إلقاء الضوء على تاريخها، وهو الأمر الذي جعل عبد الكريم الشمري، وهو خطّاط وباحث في الخطّ والزخرفة، ومسؤول برنامج تعليم الخط العربي في مجموعة العميد التعليمية، يعد أن خطوة اليونسكو فيها جانبان، الأول إيجابي يوحي بالاهتمام بالخط العربي، كونه فنًا إنسانيًا راقيًا يعبّر عن نظرةٍ جماليةٍ دقيقة للكتابة العربية تتسم بالثراء والتنوع والبعد الفلسفي للحرف العربي، ويدعو إلى رعايته وتطويره، وإقامة المعارض لنشر فنونه والتعريف بجماليته وبديع منظره.. والثاني سلبي يتضمّن الدعوة إلى وضعه في خانة التراث الجامد، وحجره في زاوية القدم، كالكتابات القديمة التي باتت رموزًا تعرض في المتاحف، كصور تاريخية لا حياة فيها. وهو ما يراه يشبه إلى حدّ كبير نقل فنون الخطّ وأنواعه إلى الحاسبة الإلكترونية التي جعلت منه قوالب نمطية جاهزة تتيح لأيّ شخص أن يكون خطّاطًا، من غير أن يكون خبيرًا في قواعد الخط وأصول الكتابة، وأحكام الإملاء المتعلّقة باللغة العربية وفنونها وآدابها. لهذا يدعو الشمرّي، بعد مباركة خطوة اليونسكو، إلى ضرورة الاهتمام الجدّي بمعارض الخطّ العربي، ودعم جهود وأنشطة الخطاطين، وإقامة معارض دولية في بعض العواصم التي ترعى الفنون الإسلامية، تتم فيها دعوة أكبر عدد من الخطاطين في العالم الإسلامي للاشتراك، فضلًا، وبحسب قوله، عن أن تتبنّى بعض المنظمات الثقافية والإنسانية العالمية فكرة اقتناء تلك الأعمال، وبأسعارٍ مجزيةٍ، لتشجيع الخطّاطين على بذل أرقى الجهود لإخراج روائع الأعمال في الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وتزيين أروقة تلك المنظمات ومتاحفها ومكاتبها بها، كلوحاتٍ فنيةٍ تنبض بالجمال، ونصوصًا معبرةً بمدلولاتها الثقافية التي تدعو إلى الكمال، مستدركًا أن التقنيات لا تعطي روحًا للخطّ. يضيف الشمري: نأمل من الخطاّطين الحرص على إخراج روائع الأعمال المتضمّنة بدائع الخطّ المعشّقة بسحر الزخارف الإسلامية، عادًّا أن الخطّ باليد المباشرة سيبقى فنًا حيًا تمارسه أجيال الخطّاطين على مرّ الأزمنة.