}

نُصب تشوّه ساحات العراق.. هل انهارت المنظومة الجمالية؟

علي لفتة سعيد 31 مايو 2021
هنا/الآن نُصب تشوّه ساحات العراق.. هل انهارت المنظومة الجمالية؟
من النُصب التي تشوّه ساحات العراق


انتشرت خلال السنوات الماضية نُصب لمنحوتاتٍ مشوّهةٍ وغير فنيةٍ، ولا تحمل من الجانب الفني غير الإساءة إلى الفن العراقي. هكذا عدّها المختصون، ونظروا إليها كنصب بدائية لا تحمل مقومات الفن، كما هي النصب التي زخرت بها المتاحف العالمية التي تحكي عن الماضي العظيم، وما تزخر به الساحات والبنايات من نصب فنية عالية المستوى أصبحت علامةً من علامات العراق، كما هو نصب الحرية، ونصب كهرمانة، ونصب المسلّة والحبوبي في الناصرية، وغيرها المئات من النصب. لكنها وصلت إلى نصب الفلاحة المشوّه، والأسد المصاب بداء فقر الدم، ونصب أخرى لا تقل بذاءةً واستهانةً بالفن العراقي. الظاهرة انعكست على كلّ الفنون الأخرى، في زمن ما بعد عام 2003، وعُدَّت فوضى كبيرة تحتاج إلى إعادة النظر، وعدم السماح بتنفيذ هكذا نصب في أية ساحة من ساحات العراق.



صرخة احتجاج

الأديب والسيناريست شوقي كريم حسن 


صرخ بأعلى صوته وهو يري صديقه صورة نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن نصب جديد لتمثالٍ خادشٍ للحياء لا أحد يعرف مغزاه غير ما ينطبع في الصورة من معان مربكة، ثم قال: أهكذا هو حال الفن العراقي الذي بدأ من سومر، أرض التاريخ والأسطورة، العراق الذي علَّم العالم الحرف والفن؟ وأضاف وهو يكاد يختنق: أهذا الفن الذي أورثه جواد سليم، ومحمد غني حكمت، وخالد الرحال، وإسماعيل الترك؟
كانت الصورة هي التي نشرها الأديب والسيناريست، شوقي كريم حسن، على صفحته في فيسبوك، وكتب معلقًا باللهجة العراقية (جان عدنه طشت فافون/ أصلي وارثته عن المرحومة مياسة منحوش، اليوم قررت أبيعه، بعد ما شفت هذا النصب التاريخي العظيم..)، والذي يشكل تأويلات عديدة، لكنه لا يقترب من الصاروخ، ولا من رمز أسطوري آخر.



يقول شوقي إن "دولة لا تؤمن بالإنسان، وتدفع به إلى الانهيار والسقوط، وهذا ما حصل فعلًا، كيف نطالبها بالاهتمام بجوانب تعد من علامات الرقي والذوق والإشارات الجمالية؟". الدول المهزومة اقتصاديًا، والمرتبطة بأيديولوجيات كارهة، متفرقة الاتجاهات والسبل، تقودها عقول مرامها الوصول إلى منافع شخصية لا يمكن أن يكون الفن في حسبانها، ولا تكترث لأيّ نوعٍ من أنواعه، لهذا انهارت المنظومة الجمالية كاملة، لا تعني لرجل الدولة الفنون شيئًا، إن لم يتجرأ، وقد تجرأ فعلًا، وأعلن تحريمها. ولغرض الإمعان في عمليات الإسقاط الجمالي، راح يرفع كل ما هو مدهش، ويعمل على ترتيب الذائقة، ليضع مكانه، ما يدمر تلك الذائقة ويسحبها إلى مجاهيل مظلمة. لا أتحدث عن النحت فقط، ولا عن المسرح الذي انحدر إلى الهاوية، ولا الأدب الذي في معظمه صار مجرد لا شيء، لأنني مؤمن أن الفاعل يريد حذف الثقافة الجمالية، وصناعة ثقافة التردي، ولأن أمر النحت سهل صارت المنحوتات من موارد النهب والسلب، توضع عند ساحات المدن ومنافذها، وينتظر المسؤول رد الفعل، الجمعي، ولا يأمر برفعها من دون حساب ولا جواب. لقد وجد فيها لعبة منفعة ضخمة، وذلك منذ وضع مجسد الجواهري في باحة القشلة.. ثم توالت الكارثة، وهنالك من يطالب برفع نصب الحرية، وجدارية فائق حسن، ويطالب برفع تمثال الرصافي، متهمًا إياه بالكفر. وعمد بعضهم إلى سرقة يد شهريار تمهيدًا لحذفه. ولنا أن نتذكر نصب اللقاء، لعلاء بشير، وما حدث.. تلك مقاصد معلنة، وهنالك مقاصد خفية، في السنوات المقبلة، لن تجد في ساحات المدن العراقية، بكاملها.. ما يشير إلى الجمال. وتلك هي الغاية ربما.



عليّ الوردي وتشويه المعالم

مدير عام دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة العراقية، سابقًا، الدكتور جمال العتابي 


لكن النظر إلى هذه المنحوتات لا يعني سوى إنهاء النظرة الجمالية التي يراد من ورائها في هذه النصب التي تعد من الأماكن السياحية في العالم، ولذا فالدكتور جمال العتّابي، مدير عام دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة العراقية سابقًا، يقول: إن النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل أبعاد النحتية التي طرزت العاصمة بغداد، والمدن الأخرى، إلّا أنها تكشف عن حقيقة واحدة، أنها كانت على قدر أوفى من الجمال، منذ بدء التحولات الفنية والثقافية التي شهدها العراق، أواسط الخمسينيات، واستمرت بقوة الإشعاع والتأثير في إطار الحركة الإبداعية الناهضة آنذاك، فقدمت صورة حية ونهجًا واضحًا ومثالًا جميلًا في الأداء الفني والتنظيم، والرؤى. إلا أن واقعًا آخر شهده العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وما رافقه من تدمير وتخريب وسرقة لتراث العراق الفني والثقافي، وهي أكثر الأساليب وحشية، بمعناها اللاإنساني واللاحضاري، في ظلّ الفوضى العارمة التي أصابت الوطن، أقول هذا ليس رثاءً له، بل تأسيًا على أنفسنا.



لقد أصبح تقليدًا محترمًا أن تحتفظ الشعوب بتراثها الفني والثقافي في مراحل التحول من نظام لآخر، وتحرص على إدامة التماثيل والنصب في قاعات المتاحف الوطنية، لأنها الشاهد الذي يبقى خالدًا معبرًا عن الأحداث والشخصيات بشكل حقيقي.
ويتابع: إن أدنى احترام لهذا التراث لم يتحقق للأسف الشديد، إذ تعرضت النصب والتماثيل للسرقة والهدم والاقتلاع، وأسوأ ما حصل أن المؤسسات الفنية والثقافية، أنيطت مسؤولية إدارتها بأشخاص من غير ذوي الاختصاص، وحين يغيب التنظيم والمنهج، والرؤية الفنية، وتسود المزاجية والاجتهادات الفردية، فمن الطبيعي أن تأتي النتائج مشوهة، غير مدروسة، ليس هدفها تأكيد القيم الجمالية، إنما خدمة أهداف ومصالح ضيقة. إن تجربتي القصيرة في إدارة الفنون التشكيلية، في وزارة الثقافة العراقية، أصابتني بالإحباط واليأس للأسباب أعلاه، وصعوبة تنفيذ الأفكار والمشاريع الفنية الحقيقية، في ظل الفساد، سوى بعض المحاولات في إحباط القرارات التي استهدفت هدم بعض النصب، تحت ذريعة انتمائها للنظام السابق، وبدوافع سياسية وطائفية ضيقة. لنتخيل حجم أوهام دائرة مثل أمانة بغداد، حين تعترض على نصب تمثال لعالم الاجتماع عليّ الوردي، في بغداد، بحجّة تعارضه مع مشروع مترو بغداد الميت.



تلاعب وقصدية وسرقات

الفنان والناقد التشكيلي فاضل ضامد 


ما يراه المنتقدون هو الخوف من تشويه البصر، بدلًا من تقدم الفنون بعد كل هذا التاريخ الفني والنحتي على الأقل، وما يجعل الساحات مختلفة بعد تغيير النظام، لكن الأمر انعكس بشكلٍ سلبي حتى تحوّلت هذه السلبية إلى ملفٍ من ملفات الانهيار المقصودة، كما يراها الفنان والناقد التشكيلي، فاضل ضامد، الذي يقول إن الذائقة التشكيلية لدى المجتمع العراقي يبدو أنها بدأت تتدنّى حين بدأ المسؤول بتشكيل لجان ليس لها علاقة بالفن تمامًا، وهي أيضًا غير قادرة على إدارة ملف الذائقة الجمعية المفترضة، وفي عقول هؤلاء سؤال مستمر وجواب جاهز، هو كيف نسرق المال العام.



ولذا تجدهم يخترعون ويثابرون من أجل حفنة دولارات، بل حفنات. إن هذه اللجان تأتي بأي شخص ليس له علاقة بالفن ليصنع تمثالًا، أو لوحةً، أو نافورةً، أو أي شيءٍ يخرّب الذائقة، مقابل مبلغ ضئيل. أما المبالغ الحقيقية فلا يعلم بها إلا الله وهم.. هذا أولًا، وثانيًا الابتعاد عن أي تجمع ثقافي، نقابة كانت، أو جمعية، أو اتحاد تشكيلي، حتى وإن لم يكن تشكيليًا، بغية عدم كشف هوية الأشخاص المتلاعبين، أو عدم الموافقة على هكذا نصب التي تسبب ضررًا في الذوق.. تماثيل كثيرة انتشرت في العراق بدأت منذ ظهور وتأسيس مجالس المحافظات، باعتبارها هي المسؤولة عن ذلك، ولم نر نصبًا واحدًا جيدًا في محافظة عراقية، ما عدا العاصمة بغداد.. ظهرت في بغداد نصب وتماثيل كثيرة، منها للفنان محمد غني حكمت، وآخرين من فناني العراق البارزين. لكن سيطرت الأحزاب الدينية في المحافظات، ومنعت ذلك، وكادت النصب أن تنتهي صلاحيتها وحتى تهديم ما قبلها. ثم انتشرت بعد ذلك التماثيل الدونية، ولا أدري هل هي فعلًا تماثيل.. الأسد الأحول، والفطر، وحيوانات غريبة، وشخصيات أخرى لا نعرفها.. والمضحك أن هذه التماثيل نفّذت من مواد البناء، وبيد أشخاص لا علاقة لهم بالفن، وللأسف حتى الأعمال التي نفّذت لم تكن بمستوى الطموح، وخرجت للضوء ولا نعرف كيف بدأت. نطمح أن تتجنّب الجهات المسؤولة تكرار هذه الأعمال وتركها لجهةٍ فنيةٍ مثل نقابة الفنانين، أو جمعية الفنانين، لاختيار العمل الفني الذي يخرج للضوء عبر مسابقةٍ معلنةٍ، ومن لجنةٍ ذات تاريخٍ فني مهم.



الفضاء وفقدان القيمة الفنية

الفنان التشكيلي والنحات حسين الإبراهيمي 


لا يوجد اهتمام في هذه النصب، بمعنى الفضاء، ولا حتى القاعدة التي يوضع عليها النصب. وليس هناك اهتمام حتى بالمواد الأولية التي تنفّذ بها النصب، حتى باتت وكأن القصد هو أن يكون لها مدلول اجتماعي وقصدي أكثر منه فنّي ودلالي واعتباري.. يقول الفنان التشكيلي والنحات، حسين الإبراهيمي: في دراسةٍ بصريةٍ وفنيةٍ لبعض النصب الفنية التي توجد حاليًا في الساحات العامة ومداخل المدن، نجدها فاقدة لكل الضوابط الفنية والبصرية الملائمة للقيمة الفنية وللمكان، من حيث التصميم المناسب للفضاء الموجود، وقيمة الموضوع المطروح في العمل، فنجد مثلًا بعض النصب (الفنية) التي تستخدم الخط العربي، كالآيات القرآنية، فاقدة روحية الخط العربي وجمالياته، بالإضافة إلى طريقة نصبها، وشكل القاعدة، والمادة المستخدمة في العمل، واللون، واحتياج الفضاء الخارجي لحجم العمل. وهنا نجد أن تلك النصب فاقدة تمامًا إلى تلك الشروط الضرورية لجمالية تلك النصب.



وفي نقطة أخرى نجد أنها لا تحمل موضوعًا، أو فكرةً محدّدة، إذ ماذا يعني عندما يتم وضع مجسّم بشكلٍ كارتوني لحيوانٍ لا يعيش في البلد، وبتفاصيل جسم غير متناسقٍ، وبحجمٍ صغيرٍ نسبيًا للفضاء الموجود فيه، وبلون غير مقارب للواقع؟ فإلى أي شيء يشير هذا النصب، وماذا يمثل؟ هنا، يجب أن تكون هناك دراسة بصرية وفنية وفكرية للنصب الفنية، وحتى لطبيعة المكان، وتناسبه مع النصب، من حيث الحجم، والمادة المستخدمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.