}

"طريق الحمام".. عبور في لوحات كان ياما كان بحلب

عزيز تبسي 27 أكتوبر 2022
هنا/الآن "طريق الحمام".. عبور في لوحات كان ياما كان بحلب
من الأعمال الفنية في مشروع "طريق الحمام"



-1-

بدأت فكرة مشروع "طريق الحمام" من دمشق عام 2009، قدمتها الدكتورة بثينة علي، المدرسة بكلية الفنون الجميلة، معتمدة على منهج التجهيز في الفراغ، الذي ينتمي للفنون البصرية، ويدمج بين أدوات التعبير الكلاسيكية والحديثة، الرسم، النحت، الإضاءة، المؤثرات الصوتية، والمشاهد السينمائية.

تأسس المشروع على تزيين مدينة دمشق، بالاعتماد على تحليق سرب من ستة عشر ألف حمامة بيضاء، حُملت نقطة ضوء، جرى تصنيعها في الصين. أوقفت الحرب المشروع، وظل الحمام أسيرًا في علب مغلقة، تركت في مستودع مظلم.

أحيي المشروع برؤية جديدة في دمشق 2022، ونفذته مجموعة من الفنانين الشباب بمنطقة "طالع الفضة" بالقرب من الكنيسة المريمية.

نقل بعد ستة أشهر إلى حلب، اختاروا ساحة الحطب في قلب حي الجديدة، مكان تجاور فيه عصران تاريخيان، المملوكي والعثماني، بقي منهما أطلال وقف مصطفى أبشير باشا المشيد في المرحلة العثمانية إلى جنوب الساحة، وجامع شرف، شرق الساحة، المشيد في المرحلة المملوكية، الذي يعاد ترميمه.

نتجاوز الانزلاق لوصف جماليات المكان في الزمن الذي سبق السنوات العشر الأخيرة، الذي يجري فصله عن مصائر الناس الذين كانوا يشغلونه. كما نتجاوز الكوارث التي لحقت بالساحة والوقف والجامع والكاتدرائيات القريبة، فضلًا عن مئات البيوت والقصور التي شيدت في حي الجديدة. علينا نسيان ما رأيناه في السنوات الماضية، وأن نتجاهل مع الوقت بأن "جعيص" طباخًا، والحلاق مؤرخًا، وعريف الشرطة شاعرًا، وضابط المخابرات فيلسوفًا.

تموضع المشروع الفني على مركزيتين، مركزية الساحة بوصفها مكانا عموميا للتفاعل المديني، بما توفره من شروط للقاء والحوار والتفاعل مع الجديد، ومركزية الحمام، بكونه طائرًا حمل رمزية السلام.

توثب تسعة وعشرون فنانًا شابًا ليقدموا أعمالهم، بتفاعل مع السنوات العشر الأخيرة التي مرت على البلاد.

انتزعت الساحة موقعًا لعمل فني ضخم سعى لتكريم أبناء المدينة الموتى من مفكرين وشعراء ورسامين ونحاتين ومطربين، اختيرت لهم أسطوانات مجوفة من أطرافها أضيئت بنور أبيض حليبي، لإظهار أسمائهم.





-2-

لا يرى في سماء حلب إلا "الستيتيات"، الحمامات البنية بلون الحطب الجاف، التي صنعت سلامها الداخلي، ونفرت من أي تشاركية تفرض عليها، احتمت "براحة البال"، والطمأنينة الحقيقية. والغربان بلونها الأسود الممسوح بالرمادي. لم يبق مكان للحمام الأبيض، الذي يشكل عائلاته ويحلق مع سربه.

أوضح غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان" "كم من الرسامين والشعراء نفذوا عبر جدران سجنهم بواسطة نفق! وكم من مرة وهم يرسمون أحلامهم، هربوا عبر شق في الحائط! وللخروج من السجن تبدو كل الوسائل جيدة. وإذا دعت الحاجة فإن مجرد العبث يمكن أن يصبح مصدرًا للحرية".

علّنا بهذا الاقتباس نحرر الفنانين من تفسير لوحاتهم، وأمست تفسر وفق متلقيها. بعدما وضعهم المكان والسنوات العشر الماضية، أمام احتمالات صعبة، لا يملكون ترف البكاء على الأطلال كما أسلافهم من أصحاب المعلقات، ولا السخرية منها كما أبو نواس وأنصاره، بعدما دفعوا لمواجهة عدمية تاريخية، لا مخرج منها ولا نجاة. عكس اللقاء بالفنانين الشباب، محاولة الذهاب إلى المستقبل، مستقبل ما بعد الطوفان.

-3-

نعلم ونحن ننظر إلى التشكيلات الفنية لأسراب الحمام، أنها لا تطير، وحركتها مقيدة بخيوط مشدودة إلى أسقف ومحاور معدنية.

تطالعنا في البداية لوحة "في تلاشٍ مستمر"، للفنان حمود رضوان، التي أظهرت شاشات بيضاء متوازية تتماوج في الهواء محملة بصور من كانوا هنا ورحلوا.

بينما تخرج أصواتهم من زوايا المكان، بالكاد نسمعهم ونراهم، بمشهدية آتية من أحلام النوم العميق، أو أحلام اليقظة، كمحاولة مستحيلة لاستعادة الراحلين من غربتهم أو قبورهم. بينما تستخدم الفنانة كنانة الكود بلوحتها "مقص" الحمام مع مساقط ضوئية لمقصات تتهيأ لقص أجنحة الحمام لتبلغ الحمام بأنه فقد أجنحته.

تذهب الفنانة غنى الهلال بلوحتها "أعباء" لتشرك الحمام مع عشرات من أكياس النايلون، كناية عن أعباء التسوق على الحياة اليومية وتوفير أسباب العيش. وتتبعها الفنانة فاتن إبراهيم لتستكمل المشهد بلوحة "طابور"، حيث الطوابير في كل مكان، حصار ومعاناة مستمرة. بينما يمضي الفنان أحمد المقداد لتشكيل مشهده "اتحاد" يظهر فيه سرب حمام يتجه ليلتقي على أغصان شجرة.





نتجه بعدها جنوبًا لنرى مشهدية "أوابد" للفنانة ريتا حلبي، أربعة شواهد عالية لقبور، تشير إلى سنوات أربعين متعاقبة، مرقمة 10-20-30-40 اختنقت في جوفها العميق أكداس من الحمامات الميتة. كتبت على كل شاهد انطباعا عن الحياة والموت، وختمتهم جميعهم بعبارة "رغم كثرتك يا موت سنظل أحياء". وتصر الفنانة ليلاس الملا على استضافتنا في لوحة "بيت" ضيق للغاية شيدته من أغصان يابسة، وأضاءته بنور خافت، وهي تعلم كما ضيوفها أن هذا البيت لم يعد يتسع لأحد. بينما حمّل الفنان أحمد ناصر الحمام في لوحة "صراع"، تساؤلاته عن الرحيل والبقاء والتعايش مع الأطلال، بعدما تلطخ الحاضر بسنوات الحرب والدمار. ويدفعنا الفنان إميل عفلق بلوحته "خط النار" إلى جوف المتراس، لنكمل الطريق بين حمام صريع وربطات خبز ملطخة بالدم، عن طرقات تضيق ولقمة مغمسة بالدم.

وما إن ننجو من مرارة "خط النار" حتى تطالعنا مشهدية "أبواب" للفنان مجد الحناوي، أحد عشر بابًا معلقًا يعلو كل منها حمامة، تظهر كجثث متدلية لمحكومين بالإعدام. كأنه يقول للعابرين هذا ما بقي من البيوت. ونكملها بلوحة "يوميات قذيفة هاون" للفنان كريم الخياط.

أخضعت الفنانتان رزان وملاذ ع رابي في تجربتهما "عدّ" المدعوين للدخول إلى غرفة مغلقة في بيت مهجور، ليكونوا في قلب تجربة ريش الحمام، كتبت الفنانتان على كل ريشة بيضاء رقمًا باللون الأحمر، غاب الحمام عن هذه اللوحة وحضر ريشه، كأنما تقولان لم يبق من الحمام بعد هذه السنوات العشر إلا ريشه.

وحدها الفنانة دانا سلامة من استدعى الغراب إلى لوحتها "من أنا"، التي اختارت لها غرفة بيت مدمر هجره أهله في حي الصليبة الملاصق لساحة الحطب، غراب أسود مفرد، يتدلى تحت سرب من الحمام الأبيض، يظهر الضوء ظلاله على بلاط الغرفة، بينما أضواء أخرى تسقط ظلال الحمام على السقف، كأن المشهد يشير إلى التناقض بين الواقعية الذي يفرضها الغراب وخيالية الحمام.





برزت لوحة العشاء الأخير للفنان بيير حاماتي، بأحد الأزقة الواصلة بين ساحة الحطب وساحة فرحات. بطاولة سوداء ثبتها على البلاط البازلتي، وأنزل من أعلاها أطباق فارغة، وسرب حمام عالق بين الأرض والسماء، يشعر الزوار أن وجودهم يعبر عن خطأ ما أمام هذه المأدبة التي غاب عنها المسيح وتلامذته، كما فقدت رمزية الطعام البسيط الذي لم يزد عن رغيف خبز وكأس نبيذ. كأنه يقول فقد طعامنا، حاجاتنا أحلامنا، تلك القدسية البسيطة.

دفعتنا الفنانة آلاء حبوس إلى تجربة مروعة في لوحتها "حلم" حيث أدخلتنا إلى غرفة معتمة، بإضاءة خافتة، وجعلتنا ندوس على أشلاء حمام قتيل، بينما نسمع صوتا يأتي برتابة تخاله طلقات قناص واثق من مهارته في اصطياد طرائده. وبقيت زاوية لتعبر بها الفنانة جمانة مرتضى عن رومانسية، تنتزع لها مكانًا بين هذا الدمار.

بينما ذهبت الفنانة ريتا الخوري بلوحتها "حلم، من يد إلى يد" لتذكر الزائرين بالفنانة الألمانية هايكي فيبر التي أمضت ما ينوف عن أربعين عامًا في سورية، تعلم النساء شغل الصوف، والتطريز، والحياكة، واختارت منطقة "جبل الحص" جنوب حلب، الذي تعد من أفقر المناطق في سورية، قدمت الفنانة عدة لوحات ملونة وزعتها على واجهة بناء مدمر، وربطتها بحبال ملونة ظهرت كشرايين موصلة بآلة خياطة.

في زقاق آخر يصل بين ساحة الحطب وساحة فرحات، يعلو سرب حمام آخر بإضاءة خفيفة، يحسبه الزائر دالية عنب قطفت عناقيدها منذ زمن، ولم يبق منها إلا أوراقها، لكنها حمامات حملتها الفنانة زينة تعتوع رسائل حقيقية أخذتها من الناس، تريد التحليق عاليًا لتوصلها إلى الله، تأججت اللوحة بالروحانية، وحملتها رجاءها الأخير بالخلاص. أعمال فنية أخرى، أبرز فيها الفنانون قدرات عالية من التفاعل مع الواقع، وسخاء المخيلة، وألم الترقب، لوحات منتزعة من الحياة المرة والآمال الخائبة، وقلق الانتظار. لوحات أحمد معتصم خسة وزينة طيارة ووئام تعتوع ولمية سيدا وأنوار الأخضر.

احتاج نوح لحمامة واحدة، ليتيقن من وجود يابسة، أرسى سفينته عليها، وأعلن نهاية الطوفان، ليبدأ تاريخ جديد، سيعرف باسم ما بعد الطوفان.

عجزت خمس عشرة ألف حمامة، عن إبلاغنا بنهاية طوفاننا.


* الصور من الأعمال الفنية في مشروع "طريق الحمام".

(حلب)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.