}

"هَلكَ المُعِيلون".. عن جعل كرامة الإنسان صيدًا والاتجار بها

حمدي المصطفى حمدي المصطفى 5 نوفمبر 2022
هنا/الآن "هَلكَ المُعِيلون".. عن جعل كرامة الإنسان صيدًا والاتجار بها
طفلة في مخيم في إدلب شمال شرقي سورية (2/11/2019/الأناضول)

قبل أيّام، انتشرت أخبار عن تحقيق استقصائي لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC News)، توصّل إلى أنّ "عملاق التواصل الاجتماعي (تيك توك) يحصل على ما يصل إلى70% من التبرعات المقدّمة، عبر تطبيقه، إلى مئات الأسر المشردة التي تعيش في المخيمات السورية". وذلك بعد تتبّع فريق التحقيق ثلاثين حسابًا في (تيك توك)، على مدار خمسة أشهر، وإنشاء حساب خاص لذلك الغرض.
دفعني الفضول إلى متابعة الموضوع، وأخذت أبحث هنا وهناك عن مزيدٍ من التفاصيل والمقاطع، فرأيت مقاطع مصورة تظهر فيها عائلاتٌ فقيرة، آباء وأمهات وأطفال، تناشد المتابعين التفاعلَ وتستجديهم، على أمل الحصول منهم على "الدعم". آلمني ما رأيتُ كثيرًا، ولا سيّما مرأى النساء والأطفال بهذه الحال، ووجدتني أفكّر في الأسباب التي جعلَت تلك الأُسر ترضى بأن تسلك ذلك الطريقَ على غير هدى، من دون أن تعرف غايته، وفي مصدر الضغوط التي جعلت تلك العائلات تقبل بأن تُسرَقَ بهذه الطريقة!
تذكرتُ خبرًا كنتُ قرأته في كتب الأدب: (أصحَرَ الحَسَنُ البصريّ، يومًا، فرأى صيّادًا، فسأله: "ما أكثَرُ ما يَقَعُ في شبَكَتِكَ؟". قال الصيّاد: "كلُّ طَيرٍ زاقٍّ"، فقال الحَسَن: "هلَكَ المُعيلُون.. هلكَ المُعِيلون"). (الخبر في (محاضرات الأدباء) للراغب الأصفهاني).
ومعنى أصحَرَ أيْ دخلَ في الصحراء. والزَقُّ هو وضع الطعام في فمّ الصغير، والزاقُّ هو الطيرُ الذي يحمل الطعامَ لفراخِهِ لإطعامهم. والمُعِيل هو ذو العِيال.
النقطة التي تستدعي التوقّف عندها في الخبر هي قولُ البصريّ: "هلكَ المُعِيلون". وهي العِبرة التي جعلَت للخبر قيمةً معرفية، لأن فيها استنتاجًا منطقيًّا بُني على معرفة النتائج من المقدّمات، إذ يرى البصريّ أن الذي أهلكَ المعيلين هو العِيالُ، من حيث إنهم يُضطرون إلى المجازفة بحياتهم في سبيل توفير قوت عيالهم. ولو نظرنا إلى أرض الواقع، وجدنا أنّ المُعيلَ أكثرُ عُرضةً للوقوع في الشّباك، وللهلاك، ذلك بأنّ مسؤولية توفير أوَد العيال تجعله يُجازِف بحياتِهِ، أو بِما دونَها: صِحّتِه، كرامتِهِ، سُمعتِهِ، ماءِ وجهِهِ.. وثمة شواهد كثيرة حولَنا تُثبت ذلك.
يُصوّر مقطع الفيديو الذي نشرته شبكة BBC عائلاتٍ نازحة تقيم في مخيمات الشمال السوري جعلت من البث المباشر على التطبيق المذكور سببًا للرزق، حيث يستجدي صاحبُ البثّ المتابعين، ويناشدهم وضع علامات تفاعلية ذات قيمة مالية (هدايا) من باب المساعدات والتبرعات والدعم، إما لحالة إنسانية: (إجراء عملية جراحية، كفالة أيتام، تزويد مُعوّق بما يُخفف إعاقته)، وإما لغير ذلك من الأمور التي تكون محور محتوى البث. ولا شك في أن صاحب البثّ يعيش ظروفًا قاسية، في ذلك الأخدود المنسيّ من العالم، تجعله يُلحِف في المسألة، ويُفرِط في إظهار "الفرح" بالدعم القادم من الأثير، وهو في سبيل ذلك يعرِض صور بؤسه وملامح شقائه، لكونها تُيسّر له السبيل إلى نيل عاطفة المتابعين. لكنّ التحقيق، على أهميته، قلّما أظهرَ عنايته بذلك، إذ كان يُركز على استحواذ التطبيق على نحو 70 في المئة من أموال المتبرّعين للعائلات، وعلى دور الوسطاء بين إدارة التطبيق والأسر، وعلى آلية التحويل والاستلام ونسبة الأجور، وما يتصل بذلك من أمور. والجملة أنّ التحقيق كان يركّز على طريقة الابتزاز، لا على الأسباب التي دفعتهم إلى ذلك، ولا يكاد المرء يجد إشارةً إلى الأسباب التي أودت بهؤلاء الناس إلى هذا الأخدود (المخيم)، ولا إلى ما فيه من موجبات للفرار تجعل كلّ مَن فيه يحرص على التمسّك بأي سبب للنجاة منه. وبالمقارنة مع قصة البصريّ، نرى أنّ التركيز كان على قسوة الصيّاد (وهي آخر أجزاء الخبر في الأهميّة)، لا على دوافع الطيور الزاقّة، ومصيرها، ومصير ما ورائها.

صورة من تحقيق "بي بي سي" 





تظهر في البَثّ تفاصيل من حيوات العائلات النازحة (رجال ونساء وأطفال من مختلف الأعمار) وهي تستجدي المتابعين، ولا يخلو المشهدُ، بطبيعة الحال، من غصّاتٍ مؤلماتٍ تنالُ المتابِعَ الإنسان، من مرأى بؤس الحال، ولا سيّما حال الأطفال، فلا شيء أقسى من رؤيةِ ماءِ وجهٍ بريءٍ يُراق على تراب الكُدية! ولا يملك المشاهِد إلا أن يقف مُطرِقًا أمام مرأى انكسار هذه الأسر التي اضطرت إلى أن تعرِضَ فلذات أكبادها على رصيف الكدية، وهو انكسارٌ لا تُفلِح ابتساماتُ الشفاه المحنّطة في إخفائِه أو مواراته.
لن أقف في هذا المقال على ما وقف عنده آخرون، ولن أكرر ما قيل في الموضوع، إنما سأعرض بضع نقاط أربط بها بين القصّتين: قصة البصريّ، وقصة تحقيق البث المباشر، لعلّ ذلك يكون عاملًا مساعدًا في فهم الأسباب وتصوّر النتائج، أو يكون سطرًا في صفحةِ الحلّ.
النقطة الأولى: الكاسب (الصيّاد/ تيك توك)، من المعروف أن الاحتيال والاستغلال هما رأسمال الصياد، فلا صيد بلا خدعةٍ من الصياد، وبلا حاجةٍ من الضحية. والخدعة في الصّيد هي الطُّعم، وهي في (تيك توك) الإغراء بالمال، مقابل جهدٍ ظاهِرُه يسيرٌ. ولا شكّ في أن الحالة في القصّتين غير متطابقة، ولو كانت متطابقة لفسدت المقارنة أساسًا، لكنّ هناك أوجه شبه عدة، وبابُ المجاز يتّسع لمرور مثل هذه المقارنة، وقديمًا قال الشاعر، في هذا المعنى: "كلُّ مَن في الوُجودِ يطلبُ صَيدًا.. غيْرَ أنَّ الشّباكَ مختلِفاتُ". المهمّ أن الصيّاد - في كلّ الأحوال- لا يهتمّ بغير الصيد، ولا يعنيه ما سيحدث للفراخ الذين خلّفهم الطيرُ الزاقّ وراءَه، بل إن هذا الأمر لا يخطر في باله البتّة. والأمر نفسه في (تيك توك)، فما يهمّه هو الصّيد: صيد المتابعين، وهو يُعِدّ لذلك ويستعِدّ، ولا يعنيه ما وراء ذلك. والفرق الذي يظهر هنا هو أن كلا الطرفين راضٍ بهذا العمل، ولو ظاهريًّا، مع التفاوت في حِدَّة الخسارة ودرجة الربح، بين أطراف القصّتين.
النقطة الثانية: المِصيدَة (الشبكة/ التطبيق)، لكلّ حالة صَيدٍ أدواتها وأساليبها، وهي تختلف باختلاف الصيّاد والبيئة والظرف والكائن المَصِيد. ولا يحتاج إلى بيّنة قولنا إنّ عددًا غير قليل من الناس جعلوا صفحاتِهم بابًا للكسب وللتكسّب، بل إن بعضهم يَجهر بذلك، وقد جعل صفحته دكانًا ينشر فيه ما ينفُقُ في السوق، حتى بضائع الإرجاف والإضلال. ولم يعد الناس يعيبون ذلك، على ما فيه من شرٍّ وضرر، لكثرته ولفقدان الأمل بالقدرة على مواجهته وإزاحته. غير أن الحالة التي نناقشها هنا هي عمليّةُ صَيدٍ مُركّبة؛ فالأُسَرُ تصيدُ المتابعين والمتبرّعين، مستغلةً عاطفتهم؛ والتطبيق يأخذ صَيدَ الأسر ويترك لها القليل، مستغلًّا حاجتهم، وكل ذلك يتمّ بعملية استغلال مغلّفةٍ بغلاف الاتفاق.




النقطة الثالثة: الضحيّة (الزاقّ/ الأسر المعيلة): نتكلّم هنا على نحو 300 أسرة تقصّاها التحقيق، اتخذت البث المباشر في (تيك توك) سبيلًا للرزق. ولا شكّ عندي في أن معظم هؤلاء لم يجدوا، على الأقل حين بدؤوا، سبيلًا أقلَّ وعورة وخطورة ليسلكوه. ولا ينكِر أولو الإنصاف قلّة أسباب الحياة في تلك المناطق، مع ندرة فرص العمل ونزر الأجور، دع الحديثَ عن الغلاء ومشقة توفير مقومات الحياة، وفي كل ذلك مجالٌ لخلق الأعذار وإيجاد المسوّغات. وإذا عُدنا إلى قِصّة البَصريّ، وجدنا أنّ أكثر الصّيد "كلّ طيرٍ زاقٍّ". وبالمقارنة، نجد تشابهًا كبيرًا بين القصتين: فأكثر الذين يظهرون في المقطع هم مُعيلون/ زاقّون، تقطّعت بهم الأسباب، وامّحت أمامَهم السّبل، حتى وجدوا أنفسهم يقتربون من مواضع الخطر المغرية (المصيدة)، حيث يعلق الصيد. وإذا كان الصيّاد، في قصّة البصري، لا يفكّر في مصير الفراخ؛ فإن الصيّاد الآخر ليس أعطف ولا أصلح، مع أن الموضوع هنا مختلف تمامًا، لوجود عنصر الإنسان فيه. ولا يمكننا في أيّ حال أن نغضّ الطرف عن المستقبل، مستقبل الأطفال الذين سيكونون بعد سنين فتيانًا وفتيات، ثمّ رجالًا ونساءً، وسيكون ما حدثَ جزءًا من تاريخهم. هذا إذا لم يتحوّل، بفعل الاستمرار، إلى جزءٍ من هويتهم وذواتهم.
النقطة الرابعة: البيئة (الصحراء/ الجمهور) البيئة في قصّة البصريّ هي الصحراء، والبيئة في قصة التحقيق هي فضاء الإنترنت، وفي كلٍّ سِعَة، لكنّ الفارق الذي لا يخفى هو عنصرُ الإنسان؛ فالإنسان هنا هو الصائد، وهو المصِيد، وهو المِصيدة، وأسوأ الثلاثة حالًا هو المَصِيد، ذلك بأن خسارته لا تقع جملة واحدة، بل تتراكم في الخفاء، بلْهَ أن ما يبذله لا يقارَن بما يكسبه. وفي سياق الحديث عن البيئة، لا يمكن إغفال دور طعنات الشانئين الشامتين (التعليقات السلبية)، وأثرها العميق في نفوس الناس، هنا وهناك.
لن أخوضَ في حَوض الأسباب، فقد تختلفُ نسبتها، أو تتفاوتُ درجتها، لكنّ العَوَز هو في رأس قائمة الأسباب؛ فالعوز يأتي أولًا، وإذا استغنى المرءُ وظلّ يسأل الناس، فدافعه عندئذٍ الطمَعُ، وهذا موضوع آخر. العَوَز هو الذي يجعل المرء والمرأة يسلكان طريق المسألة، بصرف النظر عن مسببات ذلك، ولولا العوَز ما بُذِل وجه ولا مُدّت يد. وفي رأس قائمة أسباب العوز في الوقت الحالي، كثرةُ العيال، وقد قيل قديمًا: "قِلّةُ العِيال أحَدُ اليسارَين". وما أحسن تعبيرَ العامّة في هذا المعنى، إذ يقولون عن المعيل: "برقبته عيلة"! فيجعلون العِيالَ غُلًّا في عنق المعيل! وإذا كان الطيرُ الزاقّ قد باضَ وفرّخ وسعى للرزق، بالغريزة، فما الذي أوجب على إنسان عاقل إنجاب هذا العدد من الأولاد، في هذه الظروف؟! حسبي هنا طرحُ السؤال، لأني أعلم أن الجواب ثقيل، وقلّما ينجو المجيب من لعنات المخالفين.
بالعودة إلى مسألة التكسّب بالبث المباشر، نجد أن الذين ظهروا في المقطع، ومعظمهم ذوو عيال، كانوا يتعمّدون إظهار أولادهم لكسب مزيد من تعاطف المتابعين والمتبرعين. وهنا ينفتح باب الأسئلة من تلقاء نفسه: هل فات هؤلاء المعيلين أنّ هذا المقطع سيظلّ يرافق ذلك الفتى وتلك الفتاة، بكل ما فيه من هوان، طوال الحياة؟! ألم يخطر في بالهم أن نتائج فعلتهم لن تقتصر عليهم وعلى أطفالهم، بل ستشمل كلّ حامل لهوية ذلك الوطن، الذي تعِب أبناؤه من الإطراق، وطال شوقُهم إلى رفع رؤوسهم؟ أم أنّ ضرورة الخروج من ذلك الأخدود الذي وُضِعوا فيه، أو وجدوا أنفسهم فيه، تجعل المرءَ يُضحي بكل شيء حتى كرامتِهِ، لكي يخرج منه؟!



لا شكّ في أنّ ما حصَل، أيًّا كان الفاعل، مرفوضٌ، جملةً وتفصيلًا، فضلًا عن أنه مؤسف، فاستغلال الحاجة، وابتزاز المحتاج، ليسا من الإنسانية في شيء، وليست الجريمة الكبرى هي الابتزاز والاستغلال، فهذان قد كَثُرا في كل مكان حتى صار الضدّ استثناءً، إنما هي جعل كرامة الإنسان صيدًا والاتجار بها. ومما لا جدال فيه أن الإنسانية تقضي على أبنائها بأن يكون هنالك حدّ أدنى من الأخلاق حتى في الحروب والمعارك.
ختامًا؛ أقول للصيّادين: "تبّت أياديكم". وأقول للشانئين: "كفاكم هوانًا.. أما آنَ لكم أن تخرجوا من أقبية الأحقاد إلى شرفات الحياة!". وأقول للمَصِيدين: "لا تكونوا ضحايا مرّتين، إنما خُلقَت الأعناقُ لترفَعَ الرؤوسَ، لا لتُطوّقَ بالأغلال". وأقول لمن شاءت لهم الأقدار أن يكونوا خارج الأخدود، وأنا منهم: إنّ هذا التحقيق يضعنا أمام مسؤولية وطنية وإنسانية لا حيلة لأحد في التنصّل منها، وإنّ أقلّ واجبٍ علينا تجاه الناس هناك، أن نعمل لكي نحفظ لهم ما بقي من كرامتهم وكرامتنا، حيث أثخن العَوز حركتهم، وحطّ الضّرُّ هِمّتهم، وساقهم اليأسُ إلى هذا الطريق المظلم، ولا أظنهم كانوا يعلمون أنّ رائدَهم سيكذِبُهم ويتركهم تحت رحمة شاربي مياه الوجوه.


                                          تحقيق BBC (يوتيوب)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.