}

"غودو" وأفكار أدبية راهنة.. الانتظار ومفهوم القلق

علي لفتة سعيد 22 مارس 2022
هنا/الآن "غودو" وأفكار أدبية راهنة.. الانتظار ومفهوم القلق
صموئيل بيكيت خلال عرض المسرحية بباريس، 1961 (getty images)

 

مرّت نحو 75 عامًا على كتابة الكاتب الأيرلندي صموئيل بيكيت مسرحيته "في انتظار غودو" ويبدو أنها لم تزل مسيطرة في فكرتها على كثير من النتاج الأدبي وخاصة في مجالي المسرح والسرد. حتى إن الكثير الذين يكتبون عن الانتظارات يكون نصهم قد خرج من هذا المعطف. والسؤال: لماذا تحوّل غودو إلى علامة نقدية بارزة في الأفكار الأدبية والفنية؟ ولماذا يكون الانتظار وكأنه الخلاص الذي يبحث عنه الإنسان أو المعضلة التي تواجهه باعتبار أن الانتظار يبقى انتظارًا؟

صموئيل بيكيت الشاعر والكاتب الأيرلندي المولود في العاصمة دبلن عام 1906، بدأ بنشر نصوصه الإبداعية عام 1929، ليستمر في الإبداع حتى حصوله على جائزة نوبل عام 1969. له أعمال مسرحية كثيرة منها "نهاية اللعبة" و"الأيام السعيدة"، فضلًا عن عمله الأشهر "في انتظار غودو" الذي ترجم إلى نحو عشرين لغة. وتوفي عام 1989 عن عمر تجاوز الثالثة والثمانين. وتدور أحداث هذه المسرحية حول رجلين ينتظران شخصًا يدعى غودو وفي أثناء انتظارهما ينخرطان في مجموعة متنوعة من المحاورات ويقابلان ثلاث شخصيات أخرى في انتظار غودو ليتحول العمل إلى مقاربة لكل شيء فيه انتظار.

يشير الناقد العراقي الدكتور سلمان كاصد إلى أن خلق الرمز لم يكن وليد الحضارات الحديثة، وهو ما يمكن أن يقترب من المثال الذي يحاكي به الإنسان المتماثل معه موضوعًا أو شكلًا. ويرى أن مفهوم غودو المنتظر هو الذي قد يأتي ولا يأتي، حيث استعار عبد الوهاب البياتي الفكرة فقلبها في تسمية ديوانه "الذي يأتي ولا يأتي"، بدلالة الحيرة وقلق الانتظار. وهو يعدها فكرة مقلقة حقًا، لخصها بيكيت في مسرحيته تلك.

ويطرح تساؤلًا: هل لخّص بيكيت العصر كلّه، أم الكثير من تساؤلات العصور والأفكار اللاهوتية السابقة وكل ذلك في انتظار المعلوم في الأسفار المفقودة في الواقع؟ ويجيب برؤية أخرى حين يعبّر عن اعتقاده بأن الأفكار خلقت منذ بدء هيمنة السؤال عند البشر، الانتظار بوصفه مخلّصًا. ويستدرك: لأنه مشكوك بمجيئه لا بد إذًا من أن يتم خلق حالة من التوتّر الأبدي الذي يجعل الآخر خائفًا من غياب المخلص الأبدي نفسه. ثم يضع سؤالًا آخر: لماذا من الضروري أن يبقى الانتظار انتظارًا؟ ويجيب: إن عنصر التوتّر هو الأهم في الانتظار، إذ الجميع يعرف أن المنتظر لن يأتي، ولكنهم يتلذّذون بالانتظار، ويمكن القول حقًا إنه لو تحقّق وجاء المنتظر لوجدت أن الجميع سيعارضون مجيئه لأن المجيء ذاته يزيل لذّة الانتظار التي هي لعبة الجماعة مع المجهول اللغز. وهو الذي يبحث عنه الأديب أيضًا في نصه. لذا يزيد بقوله إنه منذ مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس نجد هيمنة ما نطلق عليه قلق الانتظار، كذلك غراب سليمان وقلق الانتظار، ولكن هذين النصّين قد تحقّق بهما المجيء، وهنا تتمثل براعة بيكيت في مخالفته لهما عندما ترك الانتظار في حيرة من مجيء غودو إذ يتحقّق القلق والتوتر.

مشهد من المسرحية أثناء عرضها في صيف عام 1958 بباريس (gettyimages)


أما الناقد الدكتور خالد عبد الغني فبعد أن أكد أن الرمزية كمثال موجودة في الأدب العربي القديم، شعره ونثره، بل وحتى فكرة العبث والبحث عن الغائب المؤثر مثلما في انتظار غودو التي جاءت في زمن الشعور بفقدان الأنا والفراغ الوجودي والجدب الوجداني والإنساني في أوروبا بعد الحروب الطاحنة، قال إن سبب تأثر الكتاب العرب يعود إلى أن فكرة الانتظار لامست بعض فراغهم الوجداني أو عكست نوعًا من الاستلاب الحضاري والفكري كما عبّرت عن حيرتهم الفكرية والروحية وسط تقلبات في الأيديولوجيا المعاصرة الوجودية والماركسية، أو عبّرت عن مشاعر إنسانية متفقة مع الإنسان أيًا كان مكانه أو زمانه، مثلما هي مسرحية "أوديب" والبحث عن القدر والتي سيطرت زمنًا على المنتج الابداعي العربي.

ويرى الناقد الدكتور غنام محمد خضر أن ثورة العبث التي جاء بها صموئيل بيكيت لم تكن مجرّد خروج على تقاليد أرسطو في كتابة المسرحية، بل كانت أسلوبًا تجريبيًا يحاكي الواقع الجديد ما بعد الحرب العالمية. ويفسر الأمر بأن الصدمة التي تعرّضت لها الشعوب آنذاك كانت كفيلة بتغيير ثقافة المتلقّي ووعيه تجاه ما يحيط به من متغيرات، والدهشة التي صاحبت هذا التيار كانت من العوامل المهمة التي تعكّز عليها تيار العبث وصولًا لما أسّس إليه من فكرة الانتظار. ويضيف أن كل ما سبق جعل من فكرة الانتظار راسخة ومتناغمة مع المتلقّي الذي وجد نفسه وحيدًا في عالم متغير. لذلك يرى أن قيمة الانتظار التي ما زالت مهيمنة على أسلوب الكثير من المبدعين إلى يومنا هذا سببها أن العالم ما زال يعيش ذات الصدمة التي استيقظ عليها المجتمع الغربي ما بعد الحرب، فكيف بنا ونحن نعيش الحرب والنكبات والصدمات إلى يومنا هذا. وعن المتلقي العربي يقول خضر إنه يعيش الصدمات بشكلٍ متتال ومنتظم، وما زال يبحث عن البطل المخلص الذي يتطلب منه الانتظار. ويعتقد أن انتظار غودو أصبح ركيزة من ركائز المجتمع، الذي فرض على الكتاب تجسيد تلك الفكرة في العديد من نتاجاتهم الأدبية.

الناقد حمدي العطار يعد أن السرد الذي يعبر عن الواقع الملتبس والمضطرب يأتي بسبب الأنظمة البوليسية والحروب الداخلية والخارجية، لذا صار الإنسان يبحث عن الخلاص. ويضيف أن هناك نظرية دينية تؤكد على ظهور المخلص (المنتظر) وهذا يعيش في وجدان فئات كثيرة من المجتمع مما ينعكس على مضامين السرد الروائي. ويذهب العطار إلى روايات ما بعد 2003 فيرى أن فيها شخصيات تعاني اليأس وفقدان الأمل بعودة المفقود أو المسجون أو الشخصية التي من الممكن لو كانت موجودة أن تغيّر حياتنا لكنه لا يأتي ويصبح الانتظار يحمل الغموض، ما يجعل النقد يلجأ إلى تحليل هذا الانتظار بما يشبه "في انتظار غودو" الذي لا يمكن أن يصل. ويعتبر أن الانتظار فيه شيء من الإخلاص والوفاء وهو عكس النسيان، وكلها مفردات نفسية تؤثر على بناء الشخصيات الروائية وسير الأحداث في السرد. ويعطي نماذج من الانتظارات في النص الأدبي، منها انتظار الأب لابنه حتى يكبر، وانتظار الفتاة لفارس الأحلام، وكل شخصية تتعب وتجتهد لتحصل على ما تريد، والبعض يجعل من الصبر وسيلة للحصول على ثمرة الانتظار، وهناك من يترجى من الانتظار أن يكون المجهول أفضل، لكنه يعود ليستدرك بقوله: نحن كنقاد نلعب في هذه الاتجاهات المختلفة لمفهوم الانتظار من أجل تحليل المواقف والأحداث والشخصيات الروائية، ولكن أحيانًا نستخدم عبارة صموئيل بيكيت "في انتظار غودو" لتكون بمثابة دليل الانتظار الكلّي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.