}

"بيبي" العُصابيّ في غرفة مجانين "دكتور سترانجلاڨ"

جورج كعدي جورج كعدي 27 أكتوبر 2023
هنا/الآن "بيبي" العُصابيّ في غرفة مجانين "دكتور سترانجلاڨ"
الأميركي ممتطيًا القنبلة النووية على طريقة الكاوبوي
"أولى ضحايا الحرب هي الحقيقة"- يقول روديارد كيبلينغ، إذ تضيع، في أيّ حرب، الحقائق ويسود الكذب، على نحو ما هو حاصل في غزة وعموم فلسطين اليوم على أيدي الصهاينة، أسياد النفاق، والغرب المشجّع على الإبادة وقتل العزّل والمدنيين، وتحوير الوقائع وتزييفها. ويقول عبقري "البؤساء" و"أحدب نوتردام" ڨكتور هوغو: "سيأتي يوم تتكشّف فيه الحرب عن عبثيتها"، وتصحّ هذه الرؤيا بالمطلق، إنما ليس في لحظة تمزّق أجساد الأطفال أشلاءً. وهوغو نفسه يضيف بروح ساخرة: "منذ ستة آلاف سنة تروق الحرب للشعوب المقاتلة، فيما يضيّع الله وقته في صنع النجوم والأزهار". وبفرادته المميّزة ومعادلاته البليغة، يمرّر السينمائيّ الراحل الفذّ جان لوك غودار هذا القول في أحد أفلامه: "الحرب هي ببساطة: إدخال قطعة من الحديد في قطعة من الجسد"، تدليلًا على وحشيّة الكائن البشريّ الذي يصنّع السلاح للفتك بأقرانه! وينظر بوريس ڨيان إلى "عبثية الحروب التي هي معارك كلاميّة، لكنّها تقتل بشرًا من لحم ودم"، فيما يرى الشاعر الفرنسي الكبير پول ڨاليري أنّ "الإنسان عبثيّ في ما يبحث عنه، كبير في ما يجده"، فالكِبَرُ بالنسبة إليه يكمن في الحكمة والوعي والرأفة الإنسانيّة.
أجمع أهل الفلسفة والشعر والأدب والفكر على عبثية الحرب وجنونها وتناقضها مع تطوّر الوعي البشريّ لبلوغ السلام العالمي مثلما وضع له كانط تصوّرًا في كتيّب خاص. وبرز كثر بين أهل السينما وعدد من مخرجيها وكتّابها العباقرة في صنع أفلام تصنّف في خانة السينما المناهضة للحرب (anti-war)، وبينهم المعلّم الكبير ستانلي كوبريك Kubrick، الذي أرّقه هذا الموضوع وعالجه في عدد من أفلامه، من "دروب المجد" عن عبثية الحرب العالمية الأولى، إلى "سترة معدنية كاملة" عن عبثية حرب فيتنام، مرورًا بـ"دكتور سترانجلاڨ" عن عبثية حرب نووية فنائيّة محتملة يمكن أن تتسبّب بها زمرة مجانين من قادة عسكريين ورؤساء دول عظمى.
بسعوره الإباديّ ونشوته الدمويّة، التحق "بيبي" نتنياهو بغرفة القيادة السياسيّة والعسكريّة المكوّنة من معتوهين ومجانين بحسب التصوّر الذي وضعه ستانلي كوبريك في كوميدياه "الساتيريّة" (Satirical) السوداء "دكتور سترانجلاڨ، أو: كيف تعلّمتُ أن أكفّ عن القلق، وأن أحبّ القنبلة"Dr. Strangelove or: How I Learned To Stop Worrying And Love The Bomb (1964).
في هذا الفيلم ـ التحفة، كسائر تحفاته السينمائيّة، عبّر كوبريك عن قلقه من نشوب حرب نوويّة فنائيّة، في حقبة أزمة الصواريخ الكوبيّة والحرب الباردة (المهدِّدة والساخنة ضمنًا) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك. بيد أنّ قلقه هذا، المطابق لقلق السينمائيّ الروسيّ الكبير أندريه تاركوڨسكي، أخذ لديه صورة الكوميديا الهجّاءة (Satire) والجدّية في الوقت نفسه، إذ ثمّة شعرة دقيقة بين العبث المضحك والجنون المدمّر. مع الإشارة إلى أنّ كوبريك اشتهر بـ"التوظيف المضادّ" (بالفرنسية contre - emploi) أي استخدام الكوميديا في موقف تراجيديّ، أو العكس، على نحو يوصل العبرة والرسالة، وفداحة الموقف، بطريقة أفضل وأكثر استفزازًا وفاعليّة.




أستعيد (وأستعير) هذا الفيلم لفرط شَبَههِ بصورة غرفة الحرب الإسرائيليّة التي يترأسها الجزّار الصهيونيّ نتنياهو، آخر "ملوك" إسرائيل إن شاء الله، السابح بانتشاء جنونيّ في بحر دماء أهل غزّة وأطفالها الممزّقين أشلاءً بقنابل طائراته الأميركية وطيّاريها المجرمين الجبناء من شواهق، كأنّهم في لعبة "پلاي ستيشن" فيما الموت والمأساة الرهيبة على الأرض حقيقيّان! وقيادة أركان غرفة الإجرام الإسرائيلية هي، بعسكرها وسياسييّها، من قَتَلَة عُصابيين (neurotics) فاقدي الصواب، ممسوسين وممسوخين، مجرّدين من أيّ ملمح من ملامح الكائن البشريّ، وحوش كاملة الصفات والأوصاف، مزهوّة بمجازرها الإباديّة بواسطة الطيران الجبان القاصف من علٍ، غير متجرّئة على دخول برّي يضع عسكرها الجبان في وجه بسالة المقاتل الفلسطينيّ وشجاعته وتوقه إلى الشهادة وإنهاء عهد الظلم والقتل والحصار.
إنّي هنا في معرض الاستعادة والاستعارة والتشبيه بين فيلم كوبريك والواقع الراهن في غزة وعموم فلسطين والجبهات المحاذية المشتعلة أو المهيّأة لمزيد من الاشتعال. ومرامي هو تسخيف عبث غرفة القيادة الصهيونية وجنونها، على نحو ما فعل كوبريك في شريطه السينمائيّ الفذّ والمعبّر تسخيفًا للقادة السياسيّين والعسكريّين وهزءًا مريرًا من عبثهم وعتههم وجنونهم، فلا تغيبنّ المقارنة لديك قارئي وأنا أستعيد مضمون فيلم ستانلي كوبريك وسياقه، فالصورة الجنونيّة، العبثيّة والمدمّرة، هي ذاتها الصورة التي تحكم أداء القيادات الصهيونيّة في هذه المرحلة الحرجة والمصيريّة التي نعيشها على وقع المجازر والدمار والحصار التجويعيّ المجرم.
كانت الحرب النووية هاجسًا يؤرِّق ستانلي كوبريك ويقلقه منذ عام 1958، ولطالما تسلّل هذا الخطر المحتمل إلى نظرته المتشائمة، أصلًا، إلى العالم والوجود. قرأ مقالات وأبحاثًا تتناول أخطار حرب نووية واحتمال وقوع "خطأ" غير مقصود قد يفضي إلى استخدام هذه الأسلحة الفتّاكة. وقرأ، في ما قرأ، رواية "ساعتان للفناء" (Two Hours to Doom) للكاتب بيتر جورج (اسمه الحقيقيّ بيتر براينت، الضابط السابق في الجيش الملكي البريطاني). رأى كوبريك أنّ هذه الرواية يمكن أن تشكّل منطلقًا لمشروع فيلم عن حرب نووية عالمية، ولم تبرح ذهنه فكرة تحويل الرواية إلى عمل هجائيّ ساخر، قائلًا في هذا الصدد: "إنّ فكرة صنع كوميديا مروّعة خطرت في بالي منذ الشروع في كتابة السيناريو، بحيث ينظر المرء إلى الموضوع على أنّه سخيف، أو متناقض ظاهريًا وليس مضحكًا (...) إنّ أسخف فكرة ترد في ذهن أيّ إنسان هي استعداد قوتين نوويتين لإبادة الجنس البشريّ وكلّ أشكال الحياة بسبب خطأ غير مقصود تثيره النزاعات السياسية، وهو سبب قد تراه الأجيال القادمة تافهًا مثلما ننظر اليوم إلى تفاهة الصراعات اللاهوتية في القرون الوسطى (...) خلصتُ إلى أنّ الطريقة الفضلى لسرد القصة هي اللجوء إلى الكوميديا السوداء أو الكوميديا المروّعة وفيها أكثر الأمور إثارة للضحك، وهي بالفعل جوهر المواقف المتناقضة ظاهريًا والتي تجعل اندلاع حرب نووية أمرًا محتملًا".

عبث وتهكم بين الطرفين الأميركي والسوفياتي

لإتمام هذه "الكوميديا المروّعة"، بحسب تعبيره، ضمّ كوبريك إلى فريق كتابة السيناريو تيري ساذرن/ Terry Southern المتمرّس في الكوميديا السوداء، فامتزجت روح الدعابة الملعونة المتأصّلة في كوبريك، والتي لازمت نشأته في شوارع برونكس النيويوركية بالصفات عينها المتوافرة لدى ساذرن، والنتيجة كوميديا هجائيّة مزدرية، خشنة، تطاول التركيبة السياسيّة والعسكرية وحتّى الصناعية. الكوميديا في هذه الحالة هي عمل جادّ، وإن استدعت الضحك. ليست كثيرة الأفلام التي تعالج مسألة بالغة الجدية والخطورة في إطار كوميديّ ساخر، وبنجاح تامّ، كما هي الحال في "دكتور سترانجلاڨ" الذي يدلّ على العبث والحماقة والجنون (الصفات الأوضح في شخصية نتنياهو) وعلى مجموعة الحمقى الذين يديرون بعض الحروب، مثل حمقى القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ فلسطين والمنطقة... والعالم.
تدور قصة فيلم "دكتور سترانجلاڨ" حول ضابط في سلاح الطيران الأميركي برتبة كولونيل يصاب بالجنون، ويرسل سربًا من قاذفات القنابل النووية لشنّ حرب وقائية وتدمير الاتحاد السوفياتي، إذ يشك في أنّ الشيوعيين يتآمرون لتلويث المياه التي يشربها الشعب الأميركي. وفي محاولة للخروج من هذه الأزمة التي تهدّد العالم بالفناء، يعقد الرئيس الأميركي (بيتر سيلرز في هذا الدور من أصل ثلاثة أدوار لثلاثة شخوص يؤديها في الفيلم نفسه) اجتماعًا طارئًا مع مستشاريه وكبار القادة العسكريين الأميركيين في غرفة العمليات الضخمة داخل مبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بحضور السفير السوفياتي لدى واشنطن، وبمشاركة عالم نوويّ ألماني الأصل يدعى الدكتور سترانجلاڨ (بيتر سيلرز في شخصية ثانية مختلفة تمامًا شكلًا وتركيبًا نفسيًا)، وضابط ارتباط بريطاني (بيتر سيلرز أيضًا وأيضًا) على علاقة مباشرة بقائد سلاح الطيران الأميركي (سترلينغ هايدن) الذي يقوم بتوجيه الضربة النووية ضدّ الاتحاد السوفياتي. ويُبلغ السفير السوفياتي المجتمعين بأن تعرّض الاتحاد السوفياتي لهجوم نوويّ سيُطلق تلقائيًّا "سلاح نهاية العالم" الذي سيدمّر الحياة البشرية والحيوانيّة والنباتيّة على الكرة الأرضيّة. وتخلّلت الاجتماع سلسلة من السجالات التي تضيء على ذهنيات المجتمعين المريضة والعبثية، ويتمّ اتصال هاتفي بين الرئيس الأميركيّ ورئيس الوزراء السوفياتي (هنا اللحظة المضحكة بنبرة بيتر سيلرز ـ في شخصية الرئيس الأميركي ـ قائلًا: "اسمعني يا ديمتري") في محاولة لتهدئة الأمور.




إشارة هنا إلى أنّ شخصية العالم الألماني المعتوه "الدكتور سترانجلاڨ" ليست موجودة في الرواية الأصل التي اقتُبس الفيلم منها، بل أضيفت للسخرية من ظاهرة العلماء الألمان، النازيين سابقًا، الذين استعانت بهم الولايات المتحدة وسواها من الدول بعد الحرب العالمية الثانية. ويمكن للملمّين ببعض شخصيات النصف الثاني من القرن العشرين رؤية شَبَه بين الشخصيات التي أدّاها بيتر سيلرز في الفيلم والشخصيات الواقعية تلك، مثل وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، الذي لم يكن قد أصبح وزيرًا لدى إنجاز الفيلم، إنّما كان معروفًا كشخصية عامة، وأستاذ محاضر في جامعة هارفرد.
لجأ كوبريك وساذرن لدى وضعهما سيناريو الفيلم إلى العديد من الرموز والأسماء والدعابات والمواقف الهزليّة ذات الإيحاءات الجنسية في الفيلم، محاولَيْن الربط بين الحرب والهوس الجنسيّ الذكوريّ. فمن تلك الأسماء المعطاة لجميع شخوص الفيلم الرئيسيّة دكتور سترانجلاڨ الذي يعني اسمه "الحب المنحرف"، والكولونيل ريپر المستلهم من "جاك السفّاح" القاتل بالتسلسل المشهور في لندن، والميجر كينغ كونغ وهو اسم الشامبانزي العملاق الذي يعشق امرأة شقراء... ويمكن تفكيك باقي الأسماء في الفيلم على النحو ذاته.
العبرة والرسالة: في كلّ حرب جنون ومجانين، عبث قاتل ومثير للسخرية والهزء، شبق إلى الإجرام والتدمير، استيهامات ذات منابع سيكولوجية مختلّة، ذكوريّة مريضة يمكن وضعها بيُسر على أريكة التحليل النفسي، افتراضات مذعورة حول النيّات المسبقة للعدوّ وتخيّل المؤامرات، عُصاب وأعطاب عقليّة لدى المُمسكين بقرار الحرب، نزعة إلى التدمير الذاتيّ في الطريق إلى تدمير الخصم، ضياع، ارتباك، تصرّف عشوائيّ، أخطاء تكنولوجية مدمّرة على شكل إنذارات خاطئة، أو انطلاق ذاتيّ غير مسيطر عليه للصواريخ... إلخ. كلّ ذلك، وغيره ممّا ينطبق اليوم على الجالسين في غرفة القرار السياسيّ والعسكريّ في فلسطين المحتلّة التي تحمل الأجزاء الأكبر منها اسم "إسرائيل" زورًا واغتصابًا، حيث حفنةً من المجانين المسعورين المذعورين المرتبكين العُصابيين المرضى، يلقون على أطفال غزة ألوف الأطنان من الصواريخ التي تضاهي حتى الآن نصف الطاقة التدميرية لقنبلة نووية، فما الذي يميّز مجانين غرفة "دكتور سترانجلاڨ" عن مجانين غرفة "بيبي" السفّاح في "تل أبيب" المخترعة، القائمة على جزء من يافا فلسطين التاريخيّة!؟

٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.